أنت هنا

 
الأحد 13 كانون الأول 2020 (الجزء الأول)
 
الأحد الثاني قبل الميلاد – أحد تذكار "الأجداد القديسين"
 
في مسيرتنا الإستعداديّة نحو "بيت لحم العُلويّة"، وإذ نقترب زمنيّاً من تذكار "ميلاد ربنا يسوع المسيح بحسب الجسد"، تُخصّص الكنيسة المُقدّسة الأحد الواقع بين 11 و17 كانون الأول (وهو الأحد الثاني الذي يسبق العيد)، لتذكار أجداد "الكلمة الأزليّ" بحسب الجسد، كما أيضاً لتذكار جميع آباء "العهد القديم"، الذين عاشوا على رجاء تحقيق وعد الله بمجيء المُخلّص، رجاء كبير إستمرّ عبر الأجيال...
 
************************************************
أولاً – تعريف "الأجداد القديسين":
 
في جولة سريعة على أسفار "العهد القديم" للتعرّف على هؤلاء "الأجداد"، تبرز أمامنا أسماء شخصيّات كثيرة، بعضها من حقبة "ما قبل الناموس"، والبعض الآخر من حقبة "ما بعد الناموس"...
ففي الحقبة الأولى، نخصّ بالذكر آدم "الأب الأول"، وأخنوخ "التائب الكبير والمُحبّ للبِرّ"، وملكيصادق "الكاهن إلى الأبد"، وإبراهيم "أبا الآباء" و"خليل الله"، وإسحق "ثمرة الموعد"، ويعقوب "مُصارع ملاك الله"، وأبناءه الإثنَي عشر رؤساء الأسباط (رؤوبين، يهوذا، لاوي، شمعون، زبولون، يسّاكر، دان، نفتالي، جاد، آشير، يوسف، بنيامين).
أما الحقبة الثانية، فتتضمّن أسماء أنبياء وكهنة وملوك، نذكر منهم بشكل خاصّ: موسى النبيّ "متلقّي الشريعة"، وأخاه هارون الكاهن، ويشوع بن نون النبيّ، وصموئيل النبيّ، وداود الملك، والأنبياء الأربعة "الكبار" (من ناحية حجم السِفر المنسوب لهم) وهم أشعيا وإرميا وحزقيال ودانيال، كما أيضاً الأنبياء الإثنَي عشر "الصغار" (هوشع، عاموس، ميخا، يوئيل، عوبديا، يونان، ناحوم، حبقوق، صفنيا، حجّاي، زكريّا، ملاخي)، ولا ننسى بالطبع إيليّا "الغيور" وأليشع تلميذه وزخريّا الكاهن... وصولاً إلى يوحنا المعمدان "الخاتمة الفعليّة للعهد القديم".
وفي الإيقونة أدناه، نرى مجموعة من الأسماء التي ذكرناها، بالإضافة إلى بعض الأسماء التي أحبّ كاتب الإيقونة أن يُدرِجها، كالفتية الثلاثة حننيا وعزريا وميشائيل، لورودهم بنبوءة دانيال... كما نُشير إلى أن شخص "نسل إبراهيم" في الإيقونة، هو كناية عن البشريّة جمعاء أو أقلّه عن "شعب الموعد"، ولا يرمز أبداً إلى الربّ يسوع، بدليل غياب "هالة البرارة" عن خلفيّة رأسه...
 
------------------------------------------------
 
ثانياً – معاني التذكار من خلال نظرة إلى أهمّية "العهد القديم":
 
قد يصعب على الكثيرين منّا تقبّل "العهد القديم" برمّته، وذلك لأسباب عديدة، منها: حجمه الكبير بالنسبة إلى "العهد الجديد"، كما بُعده الزمنيّ والثقافيّ الشاسع عن زمننا وثقافتنا، وأيضاً لما يحوي من قصص غريبة عجيبة (حروب وقتل وزنى وكوارث...). فتكون ردّة فعلنا الطبيعيّة رفضاً ونُفوراً وهروباً من قراءة مُعظم أسفاره، كما في قولنا "ما شأننا وشأن العهد القديم...". إن ردّة الفعل هذه مفهومة ومُبرّرة نوعاً ما، ولكن ما يجب أن نعلمه، هو أن التدبير الخلاصيّ الذي أتمّه الربّ يسوع في ملء الأزمنة لم يأتِ أبداً من فراغ، بل كانت له مراحل تمهيديّة إمتدّت لقرون طويلة من الزمن، ولأجيال كثيرة من البشر...
فهذا التدبير الخلاصيّ بدأ منذ قديم الأيام بعد خطيئة الإنسان تجاه حبّ الله مُباشرةً، وذلك لأن الله هو "الحبّ المُطلَق"، وهو لن يترك خليقته "تموت" بعيداً عن مصدر حياتها... وبما أن الإنسان فرّط بعلاقته مع الله وعلق في حبائل "إبليس"، ولم يعد بإمكانه الخلاص بقوّته الخاصّة، كان لا بدّ من تدخّل الربّ الإله... فبدأت مرحلة أولى إمتدّت من آدم إلى نوح وقصة برج بابل، حيث أباد الله الخطيئة من الأرض بواسطة الطوفان وبلبلة الألسن... ثم جاءت مرحلة ثانية مع دعوة أبرام (الذي أسماه الله إبراهيم) ووعد الله له بذريّة مُبارَكة، وبتكوين شعب على صخرة إيمان إبراهيم بالإله الواحد، وإمتدّت إلى عبوديّة الشعب في مصر... وبدأت المرحلة الثالثة مع دعوة الله لموسى في مصر، لإخراج الشعب من عبوديّة المصريّين إلى حريّة "أرض الميعاد"، وتسلّمه لوحَي الشريعة لضبط العلاقة بين الله والشعب، علاقة سُمّيَت ب"العهد"، وإمتدّت هذه المرحلة حتى وصول الشعب إلى "الأرض"... بعدها أتت مرحلة رابعة وطويلة من التدبير الخلاصيّ، تخلّلتها أحداث كثيرة في حياة الشعب، خصوصاً مرحلة السبي إلى بابل والعودة منها، ولن ندخل في تفاصيلها هنا... ولكن نقول إن الله كان يُرسل على إمتداد هذه المرحلة من تاريخ الشعب، أنبياء مُختارين يحملون كلام الله للبشر (وهذا ما ندعوه بالنبوءات على مثال "هكذا يقول الربّ...")، ويُذكّرون الشعب بالوفاء لإلهه. وقد عانى مُعظم الأنبياء على يد شعبهم، وكابدوا شتّى أنواع الإضطهادات التي وصل بعضها حتى الموت... فصحّ في شأنهم كلام الربّ يسوع الموجّه إلى مدينة أورشليم، واصفاً إياها ب"قاتلة الأنبياء وراجمة المُرسَلين إليها..." (لوقا 13: 31).
وإستمرّ التمهيد للمشروع الخلاصيّ على مدى مئات السنين، حتى بلوغ "ملء الزمان"، حيث حلّ إبن الله الوحيد في عالم البشر، ولبس الحلّة البشريّة المائتة ليُحقّق بها الخلاص الموعود، وذلك بطاعته لأبيه السماويّ "حتى الموت، موت الصليب" (فيلبّي 2: 8)... فالربّ يسوع لم يأتِ أبداً لينقض الناموس والأنبياء، بل ليُكمّل عمل الناموس والأنبياء وكلّ الذين سبقوا وأنبأوا عنه وعن مجيئه، والشواهد كثيرة لا تُحصى: "اليوم تمّت هذه الكتابة على مسامعكم" (لوقا 4: 21)، وأيضاً "ما جئتُ لأنقض بل لأكمّل" (متى 5: 17)، و"سيتمّ كلّ ما هو مكتوب بالأنبياء عن إبن الإنسان" (لوقا 18: 31)... وصولاً إلى رواية لوقا عن لقاء الربّ القائم من الموت بتلميذَي عمّاوس، حيث أخذ يشرح لهما الكتب "مُبتدئاً من موسى إلى جميع الأنبياء، ومُفسّراً لهما الأمور المُختصّة به في جميع الكتب" (لوقا 24: 27).
بذلك، نرى جليّاً أن "العهد القديم" كان القاعدة الأساسيّة التي هيّأت للحدث الكبير الذي تمّ في "ملء الزمان"، ألا وهو أن "الكلمة صار بشراً وسكن بيننا" (يوحنا 1: 14)، فظهر الخالق "على صورة خليقته" ليُعيد صورة الخليقة إلى بهائها الفردوسيّ ("على صورة الله ومثاله")، وإرتضى مُعطي الشريعة أن يخضع بنفسه للشريعة، لكي يُدخلنا في شريعة ملكوته السماويّ، ودخل في الزمن من هو سرمديّ ومنزّه عن الزمن... ونرى عند متى الإنجيليّ خصوصاً، الإشارات المُتكرّرة إلى نبوءات "العهد القديم"، ليُذكّر جمهور المؤمنين من أصل يهوديّ، بأن من وما آمنوا به "في الأيام الأخيرة"، قد كُتب عنه في "الشريعة والأنبياء"، على مثال "ليتمّ ما قيل من الربّ بالنبيّ القائل...". فالعهد القديم قد بلغ كماله بالعهد الجديد الأبديّ بين الله والبشر، الذي تمّ بدم الحمل الإلهيّ "هذا هو دمي للعهد الجديد..." (متى 26: 28)، عهد البنوّة والمحبّة والحياة في الله، عهد يبلغ كماله في أحضان الآب السماويّ، وهذا هو هدف التدبير الخلاصيّ، وهو ما نُسمّيه "العودة إلى الفردوس"...
في أحد "تذكار الأجداد القديسين"، وبعد هذه النظرة السريعة إلى أهميّة "العهد القديم"، نرى بوضوح أن التدبير الخلاصيّ يخصّ البشريّة جمعاء وليس شعباً مُعيّناً، لأنه يعود إلى جذور البشريّة الأولى... في يوم تذكارهم، نتأمل بالدور الذي قام به "الأجداد القديسون"، في تلقّي الوعد بالخلاص وحمله عبر الأجيال، والعيش على رجاء تحقيقه... ولنا في كلام الربّ يسوع خير دليل على هذا الرجاء، حيث قال يوماً لتلاميذه "طوبى للعيون التي تنظر ما أنتم ناظرون... إن أنبياء وملوكاً كثيرين إشتهَوا أن يرَوا ما أنتم ناظرون ولم يرَوا..." (لو 10: 23-24) و(متى 13: 16-17).
بذلك، فإن أحد "الأجداد القديسين" يُذكّرنا بأن العهدَين، القديم والجديد، مترابطان ومتكاملان حتماً، فهُما يُشكّلان قصّة حبّ بين الله والبشر. وقد وضعت الكنيسة هذا التذكار، لأنها ترى فيه توطئةً لعيد ميلاد من هو "مُشتهى الأجيال كلّها"، وغايتها منه أن تخلق في المؤمنين جوّاً من الإنتظار والرجاء والشوق للتجسّد الإلهيّ، على مثال هؤلاء "الأجداد"...
 
**************************************************
 
"أيها الربّ الإله، الذي لا يُدرَك مجده ولا تُقاس رحمته، لقد دبّرَت عنايتكَ كلّ شيء لإعادتنا إلى الحضن الأبويّ، فأرسلتَ أنبياءكَ "يُهيّئون الطريق أمامكَ" (مرقس 1: 2)، إلى أن تمّ ملء الزمان، فظهرتَ في عالمنا "آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه البشر" (فيلبّي 2: 7)، وأنجزتَ "الخلاص الذي أعددتَه أمام وجوه الشعوب كلّها، نوراً ينجلي للأمم، ومجداً لشعبكَ" (لوقا 2: 30-32). فالمجد لحُنوّكَ، أيها المسيح، المجد لمُلككَ، المجد لتنازلكَ، يا مُحبّ البشر وحدكَ. آمين".
 
بقلم الاخ توفيق ناصر (خريستوفيلوس)