أنت هنا
القائمة:
بقلم قدس الاب د. الياس ضو
الحَقُّ يُحرِّرُكم
καὶ γνώσεσθε τὴν ἀλήθειαν, καὶ ἡ ἀλήθεια ἐλευθερώσει ὑμᾶς (κατα Ιωαννην 8:32)
في مَشهَدٍ صادمِ وغيرِ مُتوقّعٍ مِن سفر أعمال الرّسل مع انطلاق البشارة نحو الأمم، نشهدُ هامتَي الرّسل بطرس وبولس في خلاف ونقاش حول معضلة تهدّدُ مصداقيّة البشارة واستمراريّتها عند الشّعب اليهوديّ.
كان الخلافُ والجدال حول فَرض الشّريعة الموسويّة على الأمم، لتحريرها منها أو قبول المسيح دون الدّخول في متاهاتها (أع 15: 1-2).
وقع بطرس في حيرةٍ من أمرِه؛ فعلى عاتقِه مَسؤوليّةُ تثبيتِ إخوته كما أمرَهُ يسوع: 32"ولكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلّا تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبِّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْت" (لوقا 22: 32)، وتوحيدِهم؛ كما صلّى الرّبّ يسوع في نزاعه الأخير: 21"فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضًا فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يو17: 21). هذه الوحدة تتجلّى في تصرّف التّلاميذ بعد القيامة، حسْبَ ما جاء في أعمال الرّسل: 32"وكانَ جَماعَةُ الَّذينَ آمَنوا قَلبًا واحِدًا ونَفْسًا واحِدة" (أع 4: 32).
يخبرنا الكتاب أنّ بطرس تصرَّف بازدواجيّة؛ فكان يأكل ويشارك الوثنيّين طعامَهم، وما إن قَدِم قوم من عند يعقوب، حتّى تغيّر سلوكه إرضاءً لليهود؛ فباتَ يتجنّب مخالطة الأمم لعدم عملِهِم بالشّريعة (غلا 2: 11-13).
أراد بطرس الحفاظ على اليهود المؤمنين بالمسيح، أمّا المؤمنون من الأممِ فوجدوا أنْفسَهم أمامَ تساؤلٍ كبيرٍ؛ ما الجَديد فِي الخلاصِ الذي يُبشَّرون بِه ما دامَت الشّريعة هي الطّريق؟
لا بدّ أن نتساءل، كيف يمكن أن تنجح البشارة لو بقيت مقيّدة بالشّريعة؟
تطرح الأحداث مسألة المصداقيّة؛ حيث انتفض بولس أمام بطرس مؤنّبًا ومتّهمًا إيّاه بالرّياء
14"لكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ: «إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لا يَهُودِيًّا، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَسيروا سيرة اليهود؟»" (غلا 2: 14).
كيف لنا أن نَسعى إلى الوحدة على حساب الحقيقة؟ ألا تكون وحدة سطحيّة كاذبة؟
إنّ هذه المعضلة كانت وما زالت إحدى المعضلات الكبرى في حياة الكنيسة؛ هل تكون الوحدة على حساب الحقيقة أم إنّ الحقيقة تتقدّم على الوحدة رغم خطر الانْقسام والتّشيّع؟ هل يمكن أن نحقّق توازنًا بين الحقيقة والوحدة؟!
6"أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلاَّ بي" (يو 14: 6). فيسوع هو الحقّ والحقيقة، ولذلك؛ لا يمكن للأخيرة أن تتجزّأ. إذ إنّ جوهر الحقيقة هو الوحدة؛ حيث تتجّلى في الحقيقة الواحدة المتجسّدة في المسيح يسوع. ولا يمكن أن نخرج من الحقيقة، ولو جزئيًّا، ونحافظ على الوحدة. فمن خرج من الحقيقة خرج من الطّريق، فلا يصل إلى الحياة.
الحقيقة هي البوصلة والهدف في حياة الكنيسة. هذا ما شدّد عليه بولس وحارب من أجله. لم يكن للمعضلةِ مخرجٌ إلّا بِمَجْمَعٍ، كان الأوّلُ من نوعِه في الكنيسة، يوحِّد قلوب الرّسل في حقيقة المسيح ومحبّته. وهذا ما حصل مع الرّسل؛ إذ اجتمعوا ممتلئين بهذا الحبّ الإلهيّ، باحثين عن إرادة الرّبّ والّتي تجلّت أخيرًا، وأعلنها بطرس نفسُه أنّ الأمم غير ملزمين بالشّريعة لأنّ حقيقة الرّبّ تعيد للإنسان حقيقته، إنّه الابن الّذي أحبّه الآب حتّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك (يو 3: 16).
كانت الخلاصة لهذا المأزق العودة إلى الحقيقة، وهي الكفيلة أن تحفظ الوحدة الحقيقيّة، فبقيت جماعة الرّسل فكرًا واحدًا وروحًا واحدةً في الحقيقة الواحدة.
العلاقة بين الحقيقة والوحدة تتحقّق في الأمانة إلى تلك الحقيقة. لا يمكن أن نكون شهودًا حقيقيّين دون الأمانة لحقيقة المسيح. إنّ الأمانة هي عماد الخلاص، فالكِتاب المقدّس هو حكاية الأمانة، أمانة الرّبّ لذاته، أمانته لحبّ الإنسان، وهذا ما طلبه من شعبه، من مؤمنيه.
تَجلّت أهمّيّة الأمانة في عيني يسوع المسيح في مثل الوزنات، على سبيل المثال لا الحصر، إذ جاء الجواب للعبد الأمين؛ حيث قال له السَيِّد: 23"أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَمينًا على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: ادخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ" (مَتّى 25: 23).
الأمانة هِي الحبّ الحقيقيّ رغم التّحديات والثّمن المطلوب من أجل أن نكون شهودًا للحقيقة. وعلى مرّ العصور؛ كان ثمنُ أمانةِ الكنيسةِ لإيمانِها شهادةَ دم، وعلى صعيد الأفراد آلامًا وكربًا ودخولًا من الباب الضّيّق.
قد يكون مصدرَ الضّيقات بعضٌ من أبناء الكنيسة، حيث تضعف الحقيقة عندهم، فتصبح الأمانة بالنّسبة لهم تزمّتًا أو قسوة، وتغدو القيم نسبيّة؛ الأمر الّذي حاربه قداسة البابا بندكتس السّادس عشر وحذّر منه.
لا يمكن تقبّل الضّرر الأخلاقيّ النّاتج عن تقزيم الحقيقة وتشريع الخطأ، أو حتّى تخفيف وطأته، باسم الرّحمة والحفاظ على الوحدة أو لأسباب رعويّة. إنّ هذا أشبه بالتّخلّي عن الصّخر والبناء على الرّمل؛ وهو ما حذّر منه يسوع (متّى 7 : 24-27)، فالوحدة المزيّفة الّتي تأتي على حساب الحقيقة، أشبه بالبناء الضّعيف؛ فتترك لدى المؤمنين خيبة ظنّ ومرارة في تحقيق العدالة، لأنّ العدالة هي إنْصاف الحقيقة وإعادة بَهائها.
يدعونا يسوع إلى عيش الحقيقة، بشكل مُطلق، فاصِلًا بشكلٍ تامٍّ بين النّور والظّلمة، وبين ما للهِ وما لقيصر، حتّى وإن فصلت الحقيقة بين الابن وأبيه، البنت وأمِّها، الكنَّة وحماتها: 37"مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي" (متّى 10: 37).
يدعونا يسوع لِنرتقيَ بأنفسنا والآخرين إلى مستوى أبناء الله؛ ورثة الملكوت، لا أن نُحوِّر فكر المسيح بحسب احتياجات النّاس وأهوائهم سَعيًا إلى حلّ مشاكلهم الأرضيّة.
من ليس في الحقيقة، وإن كان دون وعي منه، يكن ضدّها؛ فالمسيح نفسه، وهو الحقّ، قال: 23"مَن لم يَكُنْ مَعي كانَ علَيَّ، ومَن لم يَجمَعْ مَعي كانَ مُبَدِّدًا" (لو 11: 23). فالوحدة في المسيح هي الوحدة في الحقيقة.
لا تنقصنا أمثلة لهذه الجدليّة الدائمة بين الوحدة والحقيقة، والكنيسة مدعوّة دائمًا أن تقرأ ساعتها على ضوء كلمة الله (رؤيا 1: 3)، والسّعي إلى التّوبة والارتداد المستمرّ من أجل عيش الحقيقة التي تكفل الوحدة مع يسوع نفسه.
من بين الأمثلة العديدة، سَعْي البعض إلى توحيد مواعيد الأعياد، دون أن يتعدّى الهدف الموائد والسّهرات، لكنّه لا يوحّد الكنائس في الحقيقة الكاملة المشتركة، وكأنّنا نسعى إلى المشاركة في الوليمة الأرضيّة لتبقى الوليمة السّماويّة مستثنيَة؛ وليمة المحبّة الأزليّة.
كذلك، نواجه أحيانًا تصادم الوحدة مع قناعات المؤمنين الشّخصيّة عند مواجهة الحقيقة، حتّى بين صفوف الكهنة، فنرى القناعات والأفكار الشّخصيّة تتخطّى الحقيقة المعلنة في الكنيسة.
فعلى سبيل المثال، نرى الزّوجين اللّذين لم يرزقا ثمر الحبّ يتصارعان بين موقفين؛ الرّغبة الشّخصيّة والمجتمعيّة في إنجاب طفل عن طريق التّلقيح الاصطناعيّ أو تقبّل الوضع الصّحيّ برجاءٍ مسيحيّ، مؤمنين بما كتِب 3"لا بَلْ نَفْتَخِرُ بِشَدائِنا نَفْسِها لِعِلْمِنا أَنَّ الشِّدَّةَ تَلِدُ الثَّباتَ 4والثّباتَ يَلِدُ فَضيلَةَ الِاخْتِبارِ وفَضيلَةَ الِاخْتِبارِ تَلِدُ الرَّجاءَ 5والرّجاءَ لا يُخَيِّبُ صاحِبَهُ لِأنَّ مَحَبَّةَ اللهِ أُفيضَتْ في قُلوبِنا بِالرّوحِ القُدُسِ الّذي وُهِبَ لَنا" (رو 5: 3-5).
كذلك، فإنّ عدم الاحتشام في الكنيسة وخارجها، يعكس حضورًا باهتًا للمسيح في بعض نفوس الّذين يتصرّفون بِما لا يَليق بالحقيقة التي تحملها الكنيسة أمانة. ومن يجرؤ أن يعطي ملاحظة! وإن تجرّأ أحد، حَتّى الكاهن، على لفت النّظر، تقوم الدّنيا ولا تقعد وتتزلزل الأرض خوفًا من انشقاقٍ في الوحدة. ولكن هل هذه وحدة حقيقيّة!
إنّنا نحمل الكثير من الأفكار والتّصرّفات التي يكمنُ بين طيّاتها تّمرّدٌ على الحقيقة، سواء كان عن معرفةٍ أو جهل. هذا الأمر، يظهر على لسان الحيّة عندما سألت المرأة: 1"[...]أَيقينًا قالَ الله: لا تأكُلا مِن جَميعِ أَشْجارِ الجَنَّة؟" (تك 3: 1)، فهو يشكّك في كلام الله، لا بل يؤوّله، فالله قال: 16"[...]مِن جَميعِ أشْجارِ الجَنَّةِ تأكُل 17وأمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا" (تك 2: 16-17). فعلى المؤمن أن يعيَ منبع التّجربة، وأن يُدرك مصدر الحقيقة، فإن بلغ هذا الإدراك، استطاع تمييز الرّوح، وهذا أمر جوهريّ لتجنّب الخطيئة (1 يو 4: 1).
تسعى الكنيسة إلى تحقيق الوحدة في سِرّ يَحفظ غناها الرّوحيّ والتّراثيّ واللّيتورجيّ؛ فروح التّمييز الّذي يهبه الرّوح القدس، روح الحقّ، مِنحةٌ أرادها المسيح لنميّزَ الحقّ ونعيشَ الوَحدةَ الحقيقيّة، والّتي صَلّى يسوع من أجلها في العشاء الأخير مع التّلاميذ، وهذه الوحدةُ تتأصّل وتتغذّى في المَحبّة الإلهيّة: 17"فَلْيَكُنِ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، فلْيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي" (يو 17: 21).
أرِني يا ربّ خطاياي فأندم عليها. حرّرني من أفكار ذاتي لأَثْبتَ في الحقيقة.
أنت القائل: 6"أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلّا بِي." (يو 14: 6).
كم نحتاج روح الله، روح الحقّ، لنتحرّرَ!
32"تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم" (يو 8: 32)!
καὶ γνώσεσθε τὴν ἀλήθειαν, καὶ ἡ ἀλήθεια ἐλευθερώσει ὑμᾶς (κατα Ιωαννην 8:32)