أنت هنا

القائمة:

 

ايمان المسيحية بالله كآب

المطران  سعد سيروب  حنا – العراق 

الزائر  الرسولي في اوربا 

 

سألني أحدهما سؤالاً فلسفيا ولاهوتيا عن "ايمان المسيحية بالله كآب": فمع الأزمة التي يعيشها العديد من الابناء مع آباءهم واهتزاز صورة الاب في نفسية الابناء والعوائل: يبقى المسيحيون ينادون بالله أباً؟ فكيف يقبله المتألم من الأب البشري؟ وكيف تؤمن به المرأة التي تعاني من الأب في العائلة؟ وكيف نفهمه أبوّة الله ونميّزها عن الذكورية؟.. وأجيب كاتبا هذا المقال الصغيرعن:

الله، الآب الغير المنظور والصامت

لا أحد يمكنه أن ينكر أن صورة الله الأبويّة تلاقي اليوم معارضة شديدة وشكوك عديدة: فالتحليل النفسي الفرويدي لصورة الأب وتأثيرها على شخصية الفرد؛ والحركة التحريريّة النسائية التي تنتقد وبشكل متصاعد صورة الأب وسطوتها وسيطرتها على الانسان؛ والأزمة الثقافية والاجتماعية التي تعاني منها شخصية "الأب" في مجتمع اليوم، كلُّ هذه أثرت بشكل كبيرة على مفهومنا عن الله كآب.

ومع ذلك، الايمان بالله كآب هو نقطة المركز في المفهوم والايمان المسيحي، وهو يقوم على بنوّة الربّ يسوع المسيح كإبنٍ وحيد للآب، والتي بقوة الروح القدس تُعطى الى كلّ معمّد ومؤمن بالمسيح. واقول أن قلب رسالة الكنيسة في العالم تكمن في دعوة الناس الى حياة البنوّة الإلهية مع الله الآب.

وهناك جانب مهم لا يجب أن نغفل عنه وهو أن "أبوّة الله" في العهد القديم وإن لم تكن واضحة في بعدها الشخصاني، فيبدو أن العهد القديم متحفظ وبشدة على دعوة الله أباً، ولكن مفهومها موجود وحاضر في علاقة الله بشعبه، ويمثل إطاراً لصورة "العهد مع الشعب". فالله هو أبٌ للشعب، يعتني، يقود، يرحم ويتحنن، ويحبّ كأب مسؤول عن ابنه! ويجب أن نقول أن هذه البنية اللاهوتية تُجذّر وبشكل حقيقي وواقعي علاقة الغيريّة والاختلاف التي تضمن استقلالية الانسان أمام الله: فالله الآب يحترم وبعمق الانسان في تاريخه ويدعوه للدخول في "علاقة عهد"، تحفظ الاختلاف والغيرية الضامن الوحيد للشركة الحقيقية بين الخالق والمخلوق.

يكشف الله، بحسب الكتاب المقدس، عن ذاته في التاريخ ويتواصل مع الانسان من خلال الكلمة التي تتطلب من الانسان الاصغاء ويدعو الانسان للدخول في علاقة مسؤولة للعيش في جماعة. فالعلاقة مع الله ليست انصهاريّه، بل ديناميّة، مع الله ومع الآخرين. يعيدنا الكتاب المقدس رمزيا الى خبرة الطفل الذي يعي تدريجياً حضور الطرف الثالث الذي يفرض نفسه بين الطفل وأمه. فحضور الأب وصوته في آذان الطفل تفصله تدريجيا عن علاقة الاندماج مع الأم وتفتح أمامه الطريق ليبني شخصية مستقلة نفسياً. وفي هذا النطاق، تأتي شخصية الأب لكي تصبح نداءً ودعوة لعلاقة ديناميّة تقوم على الأصغاء، والاعتراف بالآخر والحوار معه مما يحفظ الاستقلالية والغيرية، الاختلاف والشركة مع الآخر.

لذا فالتأكيد على أبوّة الله في الايمان المسيحي يمثل أيضا لحظة نقديّة تُجاه كلّ محاولة دينية تريد أن تصهر الشخصية والاختلاف والغيرية بين الله والانسان، ولكنها وبنفس القوة ترفض كلّ فردانية نرجسية وانغلاق على الذات تجعل من الصلاة مجرد حوار مع النفس ليس إلا! والعديد من الصور والروحانيات المنتشرة اليوم في القنوات الفضائية والاعلام الحديث يقدم صورة انصهاريّه بين الأنا والمطلق، وتخلط بين النفسي والروحي، وبين العاطفة والخبرة الدينية الأصيلة. فالكثير من الصور الدينية المنتشرة اليوم تتسم بالعاطفية والشعورية التي تلغي المسافة بين الانسان والمطلق، وتتنكّر للاختلاف والمسافة التي تفصلني عن الآخر الإلهي في إبوّته.

وفي العهد الجديد يربط يسوع بين ملكوت الله وابوّة الله: لقد نادى يسوع الله آبا. وتحتل هذه الأبوّة بُعداً شاملاً، نبويّا وآواخري، ويصبح نداء ودعاء الله كآب ليس مجرد نداء الى ماضٍ أو شخصية من الماضي السحيق، بل دعوة تُجاه المستقبل، نحو الملء الكامل. وعلاقة الله الآب بالابن تمرّ بالصليب والموت. ولا يعود الموت قتلاً للآخر بل تضحية في سبيل الآخر. ففي الموت على الصليب يختبر الله الموت عن الذات كآب، ويعيش الابن التناهي في عطاء الذات والحياة: فيتحوّل الموت الى فعل حبّ، حيث الابن يخبّر الانسان عن الآب الذي يعطي الحياة رحمة. ويلبس الآب كلّ مشاعر الرحمة التي هي أنثويّة باستثناء، ويخلق الآب في داخله مجالاً يشبه رحم الأم التي تلد الانسان جديداً وآخرا. ولا يكون هذا بدون التألم، التألم مع الآخر ومن أجل الآخر.

المشكلة في اللاهوت، وأحيانا في الكنيسة أيضا، في أيامنا هذه تكمن في الخلط بين الأبوّة والذكوريّة. فهناك من يعتقد أن الله هو ذكر في جنسه، ويذهب الى الاعتقاد ان كل ما هو ذكوري هو إلهي! الكتاب المقدس بأكمله واضح وصريح في أن أبوّة الله مملوءة من الأمومة أيضاً، وأن الله كشف عن ذاته كأب وكأم، وعديدة هي الاعداد في الكتاب المقدس التي تُلبس الله موقفاً وشعوراً أموميّا.

ويجب أن أقول: إن في صلبان البشر الكثيرة، وهي ألم الأبناء، يتجلى أيضا ألم الآب. وهذا ما يجعل أبوّة الله كما يؤمن بها المسيحيون تتحول الى ممارسة رحمة وحنان مع جميع بني البشر.