أنت هنا

القائمة:

المعاني الروحية وراء معجزات السيد المسيح في احياء الموتى

الدكتور منير توما

ان يسوع المسيح هو شخص غير عادي، فميلاده، وشخصيته واعماله ومطالبه وقيامته تشهد على ذلك دون شك او جدال. وكل ذلك يدخل في دائرة الخوارق حيث تمثل ذلك في قوته على القيام بمعجزات هائلة كشفاء المرضى واحياء الموتى مما يشير الى ممارسته لقوة خلاقة بسرعة تتجاوز قدرة شخص عادي باعتباره صاحب سلطان على القوانين العادية للطبيعة. ومن هنا فان المسيح هو ممثل الله على الارض الذي تجسد في شخص يسوع المسيح، وعليه، فان شخصية المسيح تتمشى مع هذه المعاني بكل وضوح.

ان معجزات السيد المسيح كثيرة جداً، ولكن المعجزات المسجلة لدينا في الأناجيل قد اختيرت من الروح القدس لما لها من قيمة روحية وتعليمية بروعتها وفرداتها المتميزة، ويختلف المفسرون في عدد هذه المعجزات المدونة، فبعضهم يعتقد أنها بلغت (40) معجزة والبعض الآخر يرى أنها تتراوح بين 35 – 33 معجزة.

وفي دراستنا هذه سنتطرق الى معجزات احياء الموتى في الأناجيل واحدى المعجزات الفريدة وهي شفاء المرأة نازفة الدم باعتبارها معجزة بينية تمت احداثها بين جزئي معجزة احياء ابنة ياييروس. ونستهل موضوعنا بالحديث عن معجزة شفاء ابنة ياييروس (متى 9: 18 – 26، مرقس 5: 22-43، لوقا 8: 41-56) حيث نرى الاب الحزين ياييروس رئيس المجمع في كفرناحوم او من رؤسائه، يسجد ليسوع باحترام دلالاً على التكريم الذي كان يكنه رؤساء اليهود ليسوع، طالبًا مرافقته الىى بيته لشفاء ابنته المشرفة على الموت. لقد اعترف ياييروس بيسوع كصانع للمعجزات بعد ان أحسC بعجز كل الوسائل الطقسية والناموسية في مواجهة الموت، فالتجأ الى ابن الله كلي القوة لشفاء او احياء ابنته المريضة. ان يسوع يظهر في هذا الموقف كالمشجع الالهي وكرئيس الحياة الذي تنبثق منه النعمة الفياضة، وتوسل ياييروس بمثابة صرخة احتياجه الشخصي التي تسببت في اظهار قوة المسيح الفائقة واستعداده لمساعدة المحتاجين والمتألمين.

وعند وصول يسوع الى بيت يايروس، وكانت الفتاة قد فارقت الحياة، ضحك الجمهور على يسوع عندما قال عن الصبية أنها نائمة لم تمت. وهنا يشبه يسوع الموت بالنوم، فهو قال نفس الشيء عن صديقه الميت لعازر، "لعازر حبيبنا قد نام". وفي الحالتين كان يقصد يسوع بهذا التشبيه أن نور الصباح يشرق بالتأكيد على النائم فوق فرشاه، فهكذا سوف يشرق نور الأبدية على ساكني القبور. كما ان النوم يستخدم فقط للإشارة الى اجساد الراقدين، وليس الى ارواحهم على الإطلاق. وكان يسوع قبل إحيائه الصبية من الموت قد أخرج جميع الذين يبكون خارجًا فيما عدا والدي الطفلة. وهو بهذا التصرف لم يشأ أن يلقي بدرره امام الخنازير، وبالتالي فليس هناك ما يدعو لرؤيتهم المزيد من معجزاته دون داع، لأن معجزاته لم تهدف لإرضاء حب الاستطلاع او اغراء الجماهير للإيمان به بقوة الترغيب والترهيب نحو قلوب البشر. لقد كان يسوع يبغي من وراء معجزاته ان يخفف عن البؤس البشري وينشر التنوير الروحي ومما يستدعي الانتباه هنا الى خصوصية تعامل يسوع في إقامة ابنة يايروس بالمقارنة مع العلنية في معجزة إقامة ابن ارملة نايين التي سيأتي الحديث عنها لاحقًا، وقد كان تصرف يسوع في هاتين المعجزتين يتوافق مع ما رآه مناسبًا للظرف والحدث وطبقًا لأغراضه الحكيمة.

لقد أخذ يسوع ثلاثة من تلاميذه الى البيت حيث كانت ترقد الصبية، وهم بطرس ويعقوب ويوحنا بسبب استعدادهم الروحي، فهؤلاء التلاميذ الثلاثة يمثلون "نخبة النخبة"، إذ أنهم يمثلون تاج الرسل. وعند دخول يسوع للبيت قال لابنة يايروس الميتة "يا صبية قومي"، فدبت الحياة فيها، وبكلمته الموجزة هذه عادت الحياة الى جثة الصبية باعتبار يسوع رب الحياة. وبنفس الكيفية قال لابن الأرملة "أيها الشاب لك أقول قم". وقال للميت لعازر "لعازر هلم خارجًا". وهكذا أقام المسيح موتى الخطية بقوته الالهية وبإرادة الآب.

ومما يثبت ان قيامة ابنة يايروس من الموت كانت قيامة حقيقية وليس استرداداً بعد نوبة إغماء، هو ما جاء في إنجيل لوقا حيث يقول "فرجعت روحها".

وهذا يؤكد أن روحها قد عادت من العالم المجهول غيرالمرئي إلى جسدها الأرضي.

وبذلك يتضح أنه مع كل قيامة روحية لا بد من تدخل العمل الالهي، وتتجلى رقة يسوع وحنانه في القول: "فأمر أن تعطى لتأكل"، فبعد قيامة الفتاة فكر يسوع في الحاجة المؤقتة للصبية حيث أن جسدها كان ضعيفًا وبحاجة الى التغذية بعد عودتها للحياة.

وهذا خير مثال على عذوبة يسوع الانسانية وعطفه البشري. كما يبرز يسوع في هذا الموقف كطبيب عطوف يجيد عمله على أحسن وجه لا سيما وأنه طلب من والدي الفتاة أن لا يخبرا أحدا عما حدث وذلك لأنه رأى أنه ليس من المصلحة الروحية والجسدية للصبية أن يقوم المتطفلون ومحبو الاستطلاع بزيارتها وإزعاجها.

وفي أثناء سير المسيح متجهًا نحو بيت يايروس، أي في طريقه الى بين الحزن، أجرى يسوع معجزة شفاء المرأة التي كانت تدعى فيرونيكا (VERONICA) وهي على الأرجح من سكان بانياس أو قيصرية فيلبس، كانت مصابة بنزف دم استمر اثنتي عشر سنة ولم يفلح الأطباء في شفائها من الداء بعد أن أنفقت أموالها في سبيل ذلك دون جدوى، وحين سمعت بيسوع ومعجزاته، جاءت ولمست ثوبه بعد أن اندست بين الجموع المحيطة بيسوع، فشفيت في الحال وانقطع نزف دمها. لقد كانت فيرونيكا تخشى الاحتكاك بالناس لأنها في عرف الناموس تعتبر نجسة نظراً لحالتها المرضية البائسة، ولكنها بفعل إيمانها العميق بقدرة يسوع على شفائها أصرت على لمس ثوب المسيح الذي شعر بلمستها فسأل "من لمسني"؟ وإزاء هذا الموقف اعترفت المرأة اعترافًا صريحًا بفعلتها، وعندما قال لها يسوع: "إيمانك قد خلصك، اذهبي بسلام". وهنا يظهر يسوع في صورة الطبيب الأعظم الذي لم يخيب أمل المرأة في الشفاء بعد أن خذلها الأطباء مدة اثنتي عشر سنة. إن اصرارها على لمس ثوب المسيح يشكل قمة الايمان الرائع في المسيح العالم بكل شيء حيث يتمثل ذلك بشعوره عند خروج القوة منه في لحظة لمس ثوبه وشفاء المرأة الفوري.

وهذا يبرهن على أن يد طاقة الايمان في المرأة قد جذبت طاقة النعمة الصادرة عن يسوع، فالأيمان يتلقى البركة.

وحينما قال يسوع للمرأة "اذهبي بسلام"، فإنما يشهد ذلك على أن يسوع جاء ليمنح السلام لجميع المؤمنين به، والشفاء من المرض هنا كالشفاء من الخطيئة، والإيمان بالمسيح يجلب لنا الخلاص، وقد رأينا في هذه المعجزة أن الشفاء هو هبة الرب المجانية. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن نشير إلى أن المرأة نازفة الدم كانت تدعى فيرونيكا كما ذكرنا آنفًا، وهي المشهورة بمنديلها الذي انطبعت عليه صورة وجه السيد المسيح عندما تقدمت إليه وهو في أوج آلامه ومعاناته في طريق الآلام الى الجلجلة، ومسحت بمنديلها العرق الذي كان يتصبب من وجه يسوع المتألم فارتسمت صورة وجه على منديلها، وقد أطلق عليها اسم فيرونيكا لأن هذا الاسم يعني "الصورة الحقيقية" (true image) تيمنًا بهذه الحادثة الجليلة المتميزة. ومن المفارقات التي تنطوي على دلالة رمزية بارزة أن ابنة يايروس كان لها من العمر اثنا عشر عامًا، بينما استمر مرض المرأة نازفة الدم مدة اثنتي عشر سنة، مما يتبادر إلى أذهاننا الرمزية وراء الرقم (12) حيث أن كلا من عدد ساعات النهار وعدد ساعات الليل يبلغ اثنتي عشر ساعة، وهذا الرقم يرمز في هاتين الحالتين إلى ظلمة المرض ونور الشفاء والعافية (في حالة فيرونيكا)، وإلى ظلام الموت ونور الحياة والخلاص (في حالة الصبية ابنة يايروس). وإذا تناولنا معجزة قيامة ابن الارملة (لوقا 7: 11-18)، فنرى أنها حدثت بعد أن ترك يسوع كفرناحوم وجاء إلى "مدينة تدعى نايين". وقد شاءت العناية الإلهية أن يلتقي يسوع بموكب جنازة ابن الأرملة التي أشفق عليها يسوع، وأجرى معجزته في إحياء ولدها من الموت بعد أن كان الشاب محمولاً في نعشه لتنتصر الحياة على الموت، ويتحول الحزن إلى فرح بإرادة السيد المخلص باعث الحياة ونصير المساكين والحزانى الذي تتألق رحمته بداع عطفه غير المحدود تجاه الآم البشر، فقوله للأرملة "لا تبكي" لم يكن مجرد رجاء للأم الدامعة لكي تبتهج، وإنما كان رؤية مسبقة لقوته وسلطانه، ونأتي إلى معجزة يسوع الثالثة في إحياء الموتى وهي معجزة إقامة لعازر من الأموات (يوحنا 11: 1-46)، وهي معجزة عظيمة بتفاصيلها كما وردت في الإنجيل. لقد كان يجمع بين أسرة لعازر (المكونة من مرتا وأختها ولعازر) والسيد المسيح أوثق روابط المحبة والصداقة وعندما تلقى يسوع خبرا عن مرض لعازر، فقد كان يعلم بالفعل عن ذلك لعلمه بكل شيء.

فقال لمبلغيه بالخبر ان هذا المرض ليس للموت بل سمح به لأجل اتمام غرض ومجد الله وأيضًا ليتمجد يسوع به. ومع ان يسوع كان يحب لعازر، لم يسمح فقط بالمرض بل سمح له أن يستمر وينتهي بالموت. لقد تأخر يسوع عن المجيء مدة يومين، وفي هذين اليومين مات صديقه لعازر، وبينما كان يسوع متجها لبيت الحزن في بيت عنيا (العيزرية بجانب أورشليم كما تدعى اليوم)، وصف ايضًا الموت كما لو كانت حالة نوم، فقال: "لعازر حبيبنا قد نام، لكني أذهب لأوقظه".

وبعدها قال علانية وبصراحة "لعازر مات". وهذه اشارة الى انه على المسيحيين أن يروا الموت بعيني يسوع المسيح، أي أن ما ينام هو الجسد وليس الروح في داخل الجسد.

فالتغرب عن الجسد والملكوت عند الرب هي حالة واعية تتخللها الغبطة والسعادة والسرور، ولكن الجسد ينام في التراب لينتظر القيامة.

وعندما وصل يسوع أخيراً الى بيت عنيا، كان لعازر في قبره لمدة أربعة أيام. وحينما رأى يسوع مشهد الأختين المتألمتين مرتا ومريم تبكيان حزنًا على أخيهما بكى يسوع وهو يمشي قدمًا تجاه قبر صديقه، وعندما رأى الواقفون الدموع تنساب من عيني يسوع قالوا: "انظروا كيف كان يحبه"، وفي ذلك اشارة الى الحزن العميق الذي انتابه تجاه هذا الموقف المؤثر. ان بكاء يسوع هنا لأجل صديق أحبه وفقده ولا يحتم فراقه، فجاءت دموعه لينتج عنها حياة جديدة للعازر، لقد بكى يسوع على جبل الزيتون، وكان بكاؤه على مدينة أورشليم وخطاياها كمدينة عظيمة محكومًا عليها بالدمار، ولكن دموعه تلك انسابت في موته الكفاري على الصليب حيث سفك دمه لأجل خطايا البشرية. وكما يقول "دون" (Doone): "ان الدموع في آيتنا هذه كينبوع، كبئر يخص أسرة واحدة، أختا لعازر، والدموع على أورشليم كنهر، ينتمي لدولة بكاملها، أما الدموع على الصليب، فهي كالبحر الذي ينتمي للعالم أجمع".

ان معجزة اقامة لعازر كانت من اعمال الآب، ولهذا صلى يسوع وبارك الله للاستجابة التي كان يعلم أنها سوف تأتي سريعًا. وبعد رفع حجر القبر، وبعد أن تحدث يسوع مع الله صرخ بصوت عظيم مخاطبًا لعازر: "لعازر، أخرج!" فخرج الميت وحلوا الأكفان عنه وأطلقوا كما طلب يسوع.

ان مكوث لعازر في القبر أربعة ايام قد أدى الى فساد وانتان جسده، ومع هذا فإن المسيح هو القادر على إقامة الأموات روحيًا وجسديًا، وهو قادر على إقامة نفوس الأموات بالذنوب والخطايا، او ليس هو القائل: "أنا القيامة والحياة، من آمن بي، وان مات فسيحيا. وكل من كان حيًا وآمن بي فلن يموت أبدًا". ومعجزة إقامة لعازر من القبر بعد أربعة ايام من انتانه هناك، تقودنا الى مكوث يسوع في القبر ثلاثة ايام وقيامته المجيدة دون أن يلحقه نتن او فساد لأنه كان قد قيل ما مؤداه ان ابن الانسان، الإله الكامل والإنسان الكامل، لا يطاله عطب او فساد وأن كان داخل القبر.

خلاصة:

استناداً الى ما تقدم من حديث عن المعجزات في إحياء الموتى وشفاء المرأة نازفة الدم، يتضح أنه دائمًا توجد حياة باسم المسيح، فمعجزة احياء ابنة يايروس تثبت ان الأطفال يموتون، ولأنهم مولودون بالخطيئة فهم محتاجون لمخلص، اذ ان اصغر طفل في حاجة لحياة جديدة، وهم بحاجة لصوت يسوع الهادئ الرقيق ليمنع تغلغل الخطيئة في نفوسهم الغضة، وما ان يحصلوا على الخلاص فإنهم بحاجة الى العناية والقيادة الروحية.

اما ابن الأرملة، فإنه يمثل الشباب الضالين عن طريق الله، والذين فقدوا كل حيوية وقوة روحية، وهم بحاجة الى المسيح الذي يأتي ليبين قوته على اقامتهم من قبر خطاياهم وشهواتهم. وأخيراً وليس آخراً، فإن معجزة اقامة لعازر تقدم لنا مثالاً ساطعًا على أولئك الذين تقست قلوبهم في الخطيئة وسيطر الشر عليها بما فيه من غرور وكبرياء، فالمسيح قادر ومستعد ان ينهي مملكة الخطيئة ويقدم نفسه كينبوع الحياة وواهبها. وعليه، فإن كلمة الله تعلن ان جميع الخطأة اموات بالذنوب والخطايا، وانه بدون قوة المسيح المحيية فهم عاجزون وقاصرون وبلا رجاء.