أنت هنا

 
 

24 حزيران – تذكار مولد النبيّ الكريم والسابق المجيد يوحنا المعمدان

أولاً – سنكسار العيد:

في هذا اليوم، تُعيِّد الكنيسة المُقدّسة لمولد النبيّ الكريم والسابق المجيد يوحنا المعمدان، وذلك قبل ستة أشهر من ميلاد ربنا يسوع المسيح (بحسب الفارق الزمنيّ الوارد في رواية بشارة مريم العذراء). وقد أتى مولده تتويجاً للبُشرى التي حملها الملاك جبرائيل إلى زخريّا الكاهن الشيخ، يُعلِمه فيها بأن صلاته إستُجيبت، وبأن زوجته العاقر إليصابات سوف تحمل في شيخوختها... يومذاك، إنعقد لسان زخريّا وظلّ أبكم طيلة فترة الحبل بالطفل، إلى أن وُلِدَ هذا الأخير، فإنحلّت عقدة لسان الشيخ حالاً، وأطلق عندئذٍ أنشودة التمجيد للربّ الإله "مُبارَك الربّ إله إسرائيل...". وخُتِنَ الصبيّ في اليوم الثامن بحسب ما تفرضه الشريعة، وسُمِّيَ يوحنا (حسب تسمية الملاك له)، ومعنى إسمه "الله تحنّن" (أو حنان الله). وكان مولده مصدر فرح للعائلة وللعشيرة برمتها، لأن الربّ أزال العار عن إليصابات. وينفرد لوقا الإنجيليّ برواية مولد يوحنا المعمدان (لو 1: 57-80).

هنا تجدر الإشارة إلى أن الكنيسة لا تُقيم تذكارات لميلاد أيّ من القدّيسين في روزنامتها الطقسيّة، ما خلا ثلاث شخصيّات هي الربّ يسوع (25 كانون الأول)، والعذراء مريم (8 أيلول)، والنبيّ السابق يوحنا المعمدان (24 حزيران)، وذلك لإرتباطهم مباشرةً بالتدبير الخلاصيّ... كما نُشير إلى أن الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة أضافت إلى التذكار الثابت في 24 حزيران، تذكاراً آخر لمولد يوحنا المعمدان، يقع في الأحد الرابع من "زمن المجيء" (التهيئة لميلاد الربّ يسوع).

------------------------------------------------

ثانياً – "النبيّ"، "سابق المسيح"، "إيليّا الثاني"... من هو يوحنا المعمدان؟

يُعتبَر المعمدان "مسك الختام" الفعليّ لسلسلة طويلة من أنبياء "العهد القديم"، الذين أنبأوا بمجيء المُخلّص الموعود على مدى العصور، وهيأوا الشعب لهذا المجيء. وكان هو الذي سبق مباشرةً مجيء الربّ (من هنا لقبه ب"السابق"، "بروذروموس" في اليونانيّة)، مُعلِناً ظهوره القريب، ونائلاً شرف تعميده في مياه الأردن... ويفتتح مرقس البشير إنجيله بآية "ها أنذا أرسِل ملاكي أمام وجهكَ، فيُهيّىء طريقكَ قدّامكَ" (مر 1: 2)، المأخوذة بصيغة أخرى من نبوءة ملاخي (حوالي 400 ق. م.)، ويُعلن إتمامها في شخص المعمدان. وتُقرأ فاتحة إنجيل مرقس (مر 1: 1-8) في الأحد الذي يسبق عيد "الظهور الإلهيّ"، وفيها رواية مُقتضبة عن بدء كرازة يوحنا "التمهيديّة"، ودعوته الشعب إلى التوبة الإستعداديّة، لقبول "من سيأتي بعده".

وفي ما يلي أضواء على جوانب حياته وشخصيّته، نستخلصها من الأناجيل الأربعة:

بين الإنجيليّين الأربعة، ينفرد لوقا في إعطائنا أكثر تفاصيل مُمكنة عن شخص المعمدان، وذلك دائماً بهدف إظهار موقعه ودوره في التدبير الخلاصيّ، لا أكثر. ويحتلّ الكلام عن بدايات يوحنا المعمدان مساحة الفصل الأول من إنجيل لوقا. أما الإنجيليّون الثلاثة الباقون، فيأتون على ذكره مع بدء كرازته "التمهيديّة" لمجيء "الماسيّا"، وصولاً إلى إكتمالها بالإستشهاد.

إذاً، نفهم من إنجيل لوقا أن يوحنا هو نسيب الربّ يسوع من جهة أمه إليصابات، كونها نسيبة مريم العذراء (هما إبنتا خالات)، وهو يكبره بستة أشهر (لو 1: 24-45). تلقّى أبوه زكريّا الكاهن البُشرى بولادته من الملاك في الهيكل. فقد كان الزوجان مُتقدّميَن بالسّنّ بلا أولاد، وكان يُعتبَر العقم عاراً في تلك الأيام وتلك البيئة. فأتى ميلاد الصبيّ تعزيةً للزوجَين البارّين، وكان "مُمتلئاً من الروح القدس وهو في الحشا" (لو 1: 15)، وهو الذي "رقص طرباً في بطن أمه" عند إلقاء مريم السلام على إليصابات (لو 1: 39-45). عند ولادته، فرح به الأقارب والجيران لأن الربّ عظّم رحمته على الزوجَين، مُزيلاً عنهما عار العُقم. وعند ختانه وتسميته في اليوم الثامن (بحسب مُقتضيات الشريعة)، أُعطِيَ إسم يوحنا، كما سمّاه الملاك قبل الحبل به. وإسم "يوحنا" يعني "الله تحنّن"، وكان فعلاً "إسماً على مُسمّى"، لأن ولادته كانت علامة تحنّن الله على الزوجَين العاقرَين، وكانت أيضاً علامة إستمرار تحنّن الله على شعبه بأن أرسله ليهيّىء الطريق مباشرةً لمجيء "الماسيّا". والنقطة الأهمّ، هي أنه عند البشارة بولادته، أعطى الملاك مُلخّصاً عن شخصيّة الطفل الآتي وعن رسالته العتيدة (لو 1: 13-17).

نما الطفل وترعرع، حتى أصبح رجلاً... فإعتزل الحياة العامة وإنسحب إلى البرّية والقفر، مُهيّئاً نفسه للرسالة الكبرى التي تنتظره، مُعتمداً نمط حياة مُتقشّف، وفي هذا يظهر تواضعه بالدرجة الأولى. إلى حين كانت كلمة الربّ له، فخرج يُبشّر بضرورة إستعداد الشعب لمواعيد الربّ، عن طريق التوبة والإعتماد بالماء كعربون لهذه التوبة (متى 3: 1-16). وتميّز بجرأته في تأنيب الناس على خطاياهم، وعلى إعتدادهم ببُنوّتهم لإبراهيم. وقد رأى فيه مرقس الإنجيليّ "الصوت الصارخ في البرّيّة"، الذي تكلّم عنه أشعيا النبيّ. والشيء الأهمّ الذي كان ينادي به (وهو جوهر رسالته)، أنه ليس سوى "سابق للذي يأتي بعده، وقد كان قبله، وليس مُستحقاً بأن يحلّ سير حذائه، فهو سوف يُعمّد بالروح القدس" (لو 3: 1-18). نرى بذلك أنه كان يعي تماماً حجمه ورسالته، إذ لم يدّعِ يوماً ما لم يكن. فحين كان يُسأل من هو، كان يُجيب ب"أنا لستُ المسيح" (يو 1: 20). وهو أيضاً كان يعتبر نفسه "صديق العريس الذي يفرح لفرحه" (يو 3: 28-30). وفي هذا أيضاً يظهر تواضعه، وكذلك أمانته للذي أرسله.

هو لم يكن يعرف "الذي سيأتي بعده، وقد كان قبله"، بحسب يوحنا الإنجيليّ (يو 1: 30-31)، وكم كان متشوّقاً لرؤيته. فعند مجيء يسوع، أوحِيَ ليوحنا بتدبير ربّاني بأن هذا هو "الآتي"، فحاول أن يتمنّع عن عماده مُبيّناً أنه هو المُحتاج إلى العماد على يد يسوع (متى 3: 14-15)... وبعد أن عمّد بالماء "من علّق الأرض على المياه"، أدرك أنه أتمّ شوطه، وبدأ يُشير على تلاميذه (ومنهم أندراوس وفيلبس) بأن هذا هو "حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" (يو 1: 29 و36)، وبضرورة إتباعه من الآن فصاعداً، "لأن له أن ينمو وليوحنا أن ينقص" (يو 3: 30). لقد بلغت رسالته ذروتها في إعتماد يسوع على يديه وفي ظهور الثالوث القدوس تزامناً. بعدها، إنتهت رسالته بسجنه من قبل هيرودس (الذي كان يوحنا يُبكّته بسبب زواجه من إمرأة أخيه، وفي هذا تظهر جرأته بإمتياز)، ثم بموته شهيداً بقطع الرأس. يُذكر أن هيرودس نفسه كان يعتبره رجلاً بارّاً ويهابه ويُحبّ الإستماع إليه، لكنه وقع في فخ هيروديّا وإبنتها سالومة، اللتَين أحرجتاه أمام الحاشية، فإنصاع لطلبهما مُضطرّاً إحتراماً لكلمته (متى 14: 1-12) و(مر 6: 17-29).

نحتفل بتذكار يوحنا المعمدان (وله أيضاً لقب "الصابغ") بأناشيد المديح في الليترجيا، ونَصِفُهُ ب"نجمة الصبح" التي أنبأت بفجر اليوم الذي فيه، يشعّ المسيح "شمس العدل". لكن تكفيه شهادة المُخلّص له حين وصفه ب"أعظم من نبيّ"، و"ليس في مواليد النساء أعظم من يوحنا" (متى 11: 7-14) و(لو 7: 24-28). كان له الشرف العظيم أن يقوم بتعميد من بَشّر بمجيئه القريب. وكان فرحه الأكبر لقاؤهما وجهاً لوجه، السيّد والعبد، النسيبان بحسب الجسد. فتكحلّت عيناه البشريّتان برؤية من هو "وعد الأجيال"، لدرجة يصحّ فيه أيضاً الإبتهال التسبيحيّ لسمعان الشيخ "الآن تُطلِق عبدكَ أيها السيّد على حسب قولكَ بسلام. فإن عينيّ قد أبصرتا خلاصكَ الذي أعددتَه أمام وجوه الشعوب كلّها، نوراً ينجلي للأمم، ومجداً لشعبكَ" (لو 2: 29-32).

------------------------------------------------

ثالثاً – يوحنا المعمدان في فنّ الإيقونات:

في الفنّ الإيقونوغرافيّ البيزنطيّ التقليديّ، نرى المعمدان في ثلاثة "مشاهد" رئيسيّة:

* المشهد الأول في حدث عماد يسوع، يُصوّر يوحنا واقفاً على إحدى ضفاف النهر وهو مُنحنٍ إجلالاً للسيّد له المجد، يُعمّده بيده اليُمنى ويحمل باليُسرى أحياناً مخطوطاً يرمز إلى نبوءة من "العهد القديم". أما نظره، فيكون عادةً مُوجّهاً إلى السماء، حيث الروح القدس ينزل بهيئة حمامة ويستقرّ على الإبن المُتجسّد، فيما يصدح صوت الآب شهادةً لإبنه الحبيب.

* في المشهد الثاني، يُصوّر إجمالاً بشكل إفراديّ وهو يحمل رأسه المقطوع على طبق، كما ورد في رواية إستشهاده، رمزاً للشهادة للحقّ والأمانة لله مهما كلّف الأمر. فالحقّ أولى بأن يُطاع، وهذا يدلّ على جرأته حتى النهاية. كما يظهر حاملاً مخطوطاً في اليد الأخرى، مكتوبٌ عليه "توبوا فقد إقترب ملكوت السماوات"، وهي دعوته الأساسيّة وجوهر رسالته التمهيديّة "للذي يأتي بعده".

* في المشهد الثالث، يُصوّر في إيقونة القيامة المُسمّاة "الإنحدار إلى الجحيم"، حيث نراه يتقدّم جموع الراقدين من ملوك وأنبياء "العهد القديم"، وهو يُشير بيده إلى المُخلّص، تماماً كما أشار إليه يوماً إلى تلاميذه والجموع قائلاً "هوذا حمل الله الرافع خطيئة العالم"، وكأنّ رسالته وشهادته للسيّد مُستمرّتان حتى في الجحيم.

********************************************

طروباريّة العيد:

أيها النبيّ السابق لمجيء المسيح، لسنا نستطيع نحن مُكرِّميكَ بشوق أن نمدحكَ كما يحقّ. فإنه بمولدكَ المجيد الموقّر قد حُلّ عُقرُ أمكَ وبَكَمُ أبيكَ، وكُرِزَ للعالم بتجسّد إبن الله.

قنداق العيد:

إن العاقر قبلاً تلد اليوم سابق المسيح، الذي هو خاتمة جميع الأنبياء. لأن الذي سبق الأنبياء فكرزوا به، قد وَضَعَ هذا يده عليه في الأردن، فظهر لكلمة الله نبيّاً وكارزاً وسابقاً.

بقلم الاخ  توفيق ناصر (خريستوفيلوس)