أنت هنا

 

قراءة تأمليّة لإيقونة "العنصرة المجيدة"

أولاً – مُقدّمة عامة عن الإيقونة:

من المُفيد دائماً أن نبدأ بالتذكير بأن الإيقونة ليست صورةً عاديّةً، وهي بالتأكيد لا تهدف لأن تكون صورةً "فوتوغرافيّةً"، محصورة في الزمان والمكان... إنها قراءة "بصريّة – روحيّة" للنصوص الكتابيّة، نقرأها بخشوع ووقار كما نقرأ الأسفار المُقدّسة، ننظر إليها بالعين البشريّة لكي نتأمل بها بالعين الروحيّة، عين الإيمان بالسرّ المُعبّر عنه بالإيقونة. إنها ثمرة تأمل عميق بسرّ التدبير الخلاصيّ، وهي تُخبرنا بشكل منظور، عن سرّ الإله الغير منظور والذي إرتضى أن يُصبح منظوراً وملموساً لأجل خلاصنا. إنها تُخاطب حاسّة البصر عندنا لتصل برسالتها إلى بصيرتنا. لذلك، تُعتبَر الإيقونة أداةً للكرازة، ومن تعريفاتها أنها "نافذة العالم الأرضيّ إلى العالم العُلْويّ".

وإيقونتنا اليوم تُخبرُنا عن حدث هامّ جداً ومِفصليّ في تاريخ الخلاص، ألا وهو "حلول الروح القدس على التلاميذ" في العلّيّة، في اليوم الخمسين على قيامة الربّ يسوع من بين الأموات. ويأتي هذا الحدث إتماماً لوعد السيّد "بإرسال المُعزّي الآخر بعد عودته إلى الآب"، وختاماً "للحدث المسيحانيّ". وتختلف إيقونات "العنصرة" ببعض تفاصيلها العرَضيّة، تِبْعاً لروحانيّة كل كاتب إيقونة، لكن جوهرها واحد لأن مصدرها الكتابيّ واحد... وقد إخترنا لتأملنا إحدى الإيقونات العريقة "للعنصرة"، وهي من الإيقونات المنسوبة إلى ثيوفانيس الكريتيّ (القرن السادس عشر)، والتي تنتمي إلى المجموعات الخاصّة بدير ستافرونيكيتا (جبل آثوس – اليونان).

------------------------------------------------

ثانياً – وصف سريع لمُحتوى الإيقونة:

يظهر الرسل (إثنا عشر شخصاً) جالسين بشكل "نصف دائريّ"، مقسومين إلى مجموعتَين متقابلتَين نوعاً ما، وكلّ منهم يحمل إمّا مخطوطاً ملفوفاً أو كتاباً. وتنحدر من الأعالي "شبه ألسنة ناريّة" على عدد الرسل، وتستقرّ فوق رأس كلٍّ منهم. أما في أسفل الإيقونة، فيظهر رجلٌ متقدّم بالسنّ، عليه علامات المُلك، كما لو أنه مسجون وهو يحمل بين يديه قطعة قماش كبيرة تحوي إثني عشر ملفاً. أخيراً، يظهر في الخلف بناء يحتضن المشهد، وهو مُجلّل باللون الأحمر، فيما يُشعّ المشهد باللون الذهبيّ.

------------------------------------------------

ثالثاً – الخلفيّة "الكتابيّة" للإيقونة:

تستقي إيقونتنا مُحتواها بشكل حصريّ من الكتاب الثاني للوقا البشير، ألا وهو سفر "أعمال الرسل" (المُسمّى أيضاً بإنجيل الروح القدس)، وتحديداً من رواية "العنصرة" الواردة في مطلع الفصل الثاني (أع 2: 1-4). وللتذكير، فإن لوقا كان قد إفتتح كتابه برواية لقاء يسوع الأخير مع تلاميذه، حيث إستودعهم وصاياه الأخيرة، ولا سيّما وصيّة "ألا يبرحوا أورشليم وينتظروا موعد الآب الذي سمعوه منه". وقد سبق للربّ أن تحدّث مِراراً خلال كرازته عن حتميّة إرساله للروح القدس بعد عودته إلى الآب، والمراجع الإنجيليّة عديدة، من أبرزها "خطبته الوداعيّة" عشيّة آلامه، ولا سيّما في (يو 14: 15-26)... بعدها، يُسدِل لوقا الستار على هذا اللقاء الأخير مع التلاميذ، برواية "إرتفاع الربّ" عنهم إلى المجد السماويّ، محجوباً من سحابة عن ناظرَيهم، فيما رجلان بثياب بيضاء يُكلّمان التلاميذ... على أثر ذلك، عاد هؤلاء إلى المدينة بفرح عظيم، وإجتمعوا في العليّة، وكانت معهم مريم أمّ يسوع، وبعض النسوة وأقرباء يسوع، بإنتظار "الموعد الربّانيّ" (أع 1: 4-14)...

وبحلول عيد "العنصرة" بحسب الروزنامة العبرانيّة، وذلك في اليوم "الخمسين" على ذلك "اليوم الأول المجيد" (قيامة الربّ)، حدث بغتةً صوت من السماء "كصوت ريح عاصفة" وملأ البيت، وظهرت ألسنة كأنها من نار وإستقرّت على رأس كلٍّ منهم. فإمتلأوا كلّهم من الروح القدس، وطفقوا يتكلّمون بألسنة أخرى كما آتاهم الروح أن ينطقوا... نال التلاميذ معموديّتهم "بالروح القدس والنار"، وتحقّق بذلك كلام يوحنا المعمدان حين قال "إن الذي يأتي بعدي... هو سيُعمّدكم بالروح القدس والنار" (متى 3: 11). ها قد أتى "المُعزّي الآخر"، وبذلك يكون "المُعزيّ الأول" (الربّ يسوع) قد تمّم وعده.

------------------------------------------------

رابعاً – القراءة الروحيّة لرموز ومعاني الإيقونة:

* مجد إلهيّ "ذهبيّ اللون":

في هذه الإيقونة وفي غالبيّة إيقونات "العنصرة"، تلفتنا الخلفيّة المُجلّلة باللون الذهبيّ، الذي يرمز إلى المجد الأبديّ المُلازم عادةً لحضور الربّ يسوع، كما هي الحال في الإيقونات السيّديّة إجمالاً... أما اليوم، ورغم "غياب" السيّد بالجسد، إلا أنه "حاضر" أكثر من أيّ وقت مضى من خلال روحه القدّوس، الأقنوم الإلهيّ الثالث، "المُعزّي" كما سمّاه. وهل من مجد يُضاهي الحضور الإلهيّ بالذات؟؟؟

إضافةً إلى ذلك، يُظلّل اللون "الأحمر القاني" المكان، دلالةً على المجد الملوكيّ ذي المصدر الإلهيّ. فإن الروح القدس هو الملك الذي نرفع إليه الصلاة الشهيرة في الطقس البيزنطيّ "أيها الملك السماويّ المُعزيّ، روح الحقّ..."، بدءاً من "العنصرة" وصولاً إلى ختام زمن "التريوذي" من السنة المُقبِلة. وذلك عند كل عمل نقوم به ولا سيّما في الليترجيا الإلهيّة، حيث نبدأ القداس بإستدعاء الروح القدس.

* "علّيّة الأسرار":

يبرز أمام أعيننا المبنى الكبير الذي يحتلّ الخلفيّة الأرضيّة للإيقونة، يعلوه الوشاح الأحمر المُعتاد الذي نراه في الكثير من الإيقونات، والذي يُشير إلى أن حدثاً جللاً ذا مصدر إلهيّ يجري... إنها "عليّة صهيون"، العليّة نفسها (على الأرجح) التي إستضافت الربّ يسوع وتلاميذه في "العشاء الفصحيّ" الأخير، حيث أعطى الربّ المعنى الحقيقيّ للفصح العبرانيّ القديم. فتحوّل هذا الأخير من "ذكرى خروج أسباط إسرائيل الإثنَي عشر من مصر على يد موسى" إلى الحرّيّة في بلاد كنعان، إلى "حقيقة عبورنا من عبوديّة وموت الخطيئة إلى حرّيّة البنوّة لله والحياة الأبديّة"... في تلك الليلة، حوّلَ السيّد الخبز الفصحيّ الفطير إلى جسده المكسور لأجل حياة العالم، وحوّلَ خمرة "العهد القديم" القائم بين الله وشعبه إلى دمه المسفوك، خمرة الملكوت الآتي... وطلب إليهم أن يصنعوا هذا لذكره إلى حين مجيئه (الثاني). إن هذه العليّة التي شهدت في تلك الليلة ولادة سِرَّين (الكهنوت والإفخارستيّا) من أسرار حياة الكنيسة المزمِعة أن تولد، هي نفسها العليّة التي تشهد اليوم فيض الروح القدس على التلاميذ. فأصبحت بذلك الحاضنة لولادة الكنيسة، سواء بحلول الروح المُحيي لجسد المسيح السرّيّ، أو بالأسرار التي "تُغذّي" حياتنا في المسيح. أخيراً، العليّة التي كانت ملجأً للتلاميذ الخائفين من اليهود بعد موت الربّ، أصبحت اليوم نقطة إنطلاق رسلٍ أشدّاء، يحملون بُشرى الخلاص "إلى أقاصي الأرض"، كما أوكلهم المُعلّم الإلهيّ.

* "قبّة الحضور الإلهيّ":

تبرز القبّة السماويّة الظاهرة في أعلى الإيقونة على شكل "نصف دائرة"، وهي تمثل بالطبع الحضور والجلال الإلهيّين، وبشكل خاص الآب السماويّ (الذي لا يجوز تصويره بالشكل البشريّ لأن الإبن المتجسّد هو صورة الآب)، ومنها تنحدر "الألسن الناريّة" التي جسّدت الجانب المنظور لحضور الروح القدس في حدث "العنصرة". فالروح القدس ينحدر من القبّة السماويّة، لأنه منبثق من الآب (كما نتلو في "قانون الإيمان النيقاويّ")، ومُرسَل من قبل الإبن، وله جوهر واحد مع الآب والإبن. تجدر الإشارة إلى أن القبّة السماويّة تظهر في عدة إيقونات تُصوِّر محطةً مهمّةً في سياق "الحدث المسيحانيّ" (مثال على ذلك "الميلاد" و"الظهور الإلهيّ"...).

* "محفل الإثنَي عشر":

يظهر الرسل مُتحلّقين في شكل "نصف دائريّ"، في مجموعتَين متقابلتّين نوعاً ما، وقد رأينا أمراً مُشابهاً في إيقونة حدث "صعود الربّ إلى السماء"، حيث كانوا أيضاً متحلّقين في مجموعتَين حول مريم والدة الإله، في صورة مُسبَقة لإنطلاق الجماعة الكنسيّة الأولى... ها هم اليوم جالسون في وضعيّة المحفل، في تجسيد مُسبَق لكلام الربّ يسوع لهم بأنهم "سيجلسون هم أَيضاً على اثنَي عشر كرسِيّاً ويَدينون الأُمم..." (متى 19: 28). إنهم يُمثّلون "أسباط إسرائيل الجديد"، "شعب الله الجديد" الذي لا يستثني أحداً من الخلاص.

* "رسل الإيقونة":

ما تجدر الإشارة إليه، هو أن كاتب الإيقونة أورد إثنَي عشر رسولاً، لكنه إستبدل بعض "الأصليّين" بآخرين. فمتّيا الذي كان قد إنتُخِبَ مكان يهوذا الإسخريوطيّ، في الفترة الفاصلة بين "صعود الربّ" و"حلول الروح القدس"، لم يرِد في الإيقونة كونه "لم يزل في بداية الطريق" (كما نقول شعبيّاً). كما أن يعقوب بن حلفى، ويهوذا الآخر (تداوس)، لا يظهران أيضاً بسبب قلّة ذكرهما في الأناجيل (وليس تقليلاً لدورهما في الكرازة)... وأورد كاتب الإيقونة بدلاً منهم بولس الرسول، ومرقس ولوقا الإنجيليّين (رغم أن الثلاثة لم يعرفوا الربّ يسوع شخصيّاً)، وذلك نظراً للحِملِ الكبير الذي حملوه في سبيل نشر البشارة. وهذا يُظهر أن هدف كاتب الإيقونة هو التركيز على الكرازة، وليس على الأشخاص. كما أن الغاية من إظهار المجموعتَين من الرسل، هو لإبراز دور هامتَي الرسل بطرس وبولس في إرساء دعائم الكنيسة عبر المسكونة (آنذاك).

وقد أشرنا في الإيقونة المُرفَقة، إلى أسماء الرسل كما وردوا تقليديّاً في إيقونات "العنصرة"، خصوصاً أن البعض منهم يُعرَف بسهولة. فبطرس يُعرَف من سنّه المُتقدّم ومن "مركزه الرئاسيّ"، متى (لاوي) يُعرَف من هيئته "العبرانيّة" كبطرس، مرقس يُعرَف من جلوسه في صفّ بطرس لأن إنجيله هو عُصارة البشارة "البطرسيّة"، يليهم يعقوب إبن زبدى وسمعان "القانويّ" (من قانا) وتوما المعروف بهيئته الشابّة. يُقابلهم بولس المعروف تقليديّاً بسُحنته الشهيرة، يوحنا الإنجيليّ الشابّ والمُعمّر طويلاً فيما بعد، لوقا الإنجيليّ والطبيب "اليونانيّ"، أندراوس المعروف بهيأته المُميّزة، برثلماوس وفيلبس الصديقان القديمان.

* "كتاب ومخطوط":

على غرار الربّ يسوع في مُعظم إيقوناته، يُمسِك معظم الرسل (بمن فيهم بطرس) في أيديهم بمخطوط ملفوف يرمز إلى "البُشرى الحسنة"، هم المُزمِعون أن يحملوها فور "إعتمادهم بالروح القدس". إلا أن الخمسة الباقين يحملون كتاباً، فمتى ومرقس ولوقا ويوحنا يحملون الكتاب رمزاً للإنجيل الذي كتبه كلّ منهم، أما بولس فالكتاب الذي يحمله يرمز إلى العدد الكبير من الرسائل التي كتبها... لقد إختار الربّ يسوع تلاميذه من بين بُسطاء هذا العالم وهيّأهم على مدى سنوات ثلاث. واليوم، ها قد حان الوقت لكي يُصبحوا فعليّاً "صيادي بشر"، مُمتلئين نعمةً وحقاً وجرأةً لإخزاء "روح هذا العالم"، وشبكة صيدهم هي "كلمة الله" الحاملة الحياة الأبديّة لكل من يقبلها ويعمل بها.

* "مقعد الوسط":

لا بدّ من الإشارة فوراً إلى أن البعض من إيقونات "العنصرة"، يُظهِر لنا "الثيوطوكوس" (والدة الإله) وهي تتوسّط الرسل (على غرار إيقونة "الصعود")، وتتلقّى الروح القدس على غرارهم، وذلك لوجودها في العلّيّة مع الرسل بحسب الرواية الكتابيّة. إنها تتهيأ لرسالتها الجديدة التي تلقّتها من أعلى الصليب، وهي أن تكون أماً للكنيسة "جسد المسيح السرّيّ"، كما قبلت يوماً بالمشيئة الإلهيّة في أن تُصبح أماً لإبن الله المُتجسّد منها، وذلك بحلول الروح القدس عليها (لو 1: 35)... ولهذا السبب تحديداً (قبولها الروح القدس في البشارة)، هي لا تحتاج "لمعموديّة الروح" مرّة ثانية. لذلك، فإن مُعظم إيقونات "العنصرة" (ومنها إيقونتنا) لا تُظهِر مريم أبداً في وسط الرسل، بل تحتفظ بالمقعد على رأس "محفل الرسل" شاغراً... إنه المقعد المحفوظ للربّ يسوع، الرأس غير المنظور للجسد المنظور (الكنيسة)، في غياب يُناقض حضوره ليلة "العشاء الفصحيّ" عشيّة آلامه. نُشير في هذا السياق إلى أن بعض الإيقونات يستعيض عن هذا الغياب بوضع الإنجيل على "المقعد الرئاسيّ" للمحفل.

* "مواهب ناريّة":

إن "الألسن الناريّة" المُستقرّة على كلٍّ من التلاميذ، ما هي إلا الجانب المنظور لحضور الروح القدس عليهم. والألسن ترمز بالطبع إلى اللغات المُختلفة التي سيُخاطب بها الرسل البشر، والتي بدورها تُشير إلى حتميّة إنتشار بُشرى الخلاص إلى كافة أصقاع الأرض، وشمولها كافة الشعوب، غير مُستثنية أحداً. وعلى عكس رواية "برج بابل"، حيث أن البشر حينها كانوا يتكلمون لغةً واحدةً، إلا أنهم لم يعودوا يفهمون على بعضهم البعض، فإن مشهد "العنصرة" يُظهِر لنا إختلاف اللغات، ومع ذلك يفهم الواحد الآخر بروح الوحدة. والصبغة الناريّة للألسن ترمز إلى النار المُطهِّرة والمُنقِّية لكل شيء، فقد طهّرت الرسل إذ إنهم إعتمدوا بالروح القدس، كما تُشير إلى حرارة الإيمان والإندفاع إلى نشر بُشرى الخلاص. وعلى غرار اللغات "المُكتسَبة"، لا ننسى بالطبع مواهب الروح القدس الغزيرة، التي يُغدقها علينا بما يوافق خير نفوسنا.

* "مسكونة مُترهّلة وراجية":

يلفتنا في أسفل الإيقونة وجود رجل مُسِنّ يرمز إلى الخليقة الطاعنة في الترهّل بسبب الخطيئة، وعليه "إشارات ملوكيّة" (تاج وأرجوان وذهب) ترمز إلى "سلطان هذا العالم". إنه يبدو مسجوناً في كهف مُظلم، صورة عنّا "نحن الذين كنّا في الظلمة وظلال الموت" (كما نرنّم في "إكسابستيلاري الميلاد"). يبدو حاملاً بين يديه قطعة قماش، تحوي إثني عشر ملفاً، ترمز إلى بُشرى الخلاص التي طال إنتظارها، وأتت بتدبير من المُخلّص، وسوف تنتشر على يد الإثني عشر رسولاً في كل أصقاع الأرض، وتشمل البرايا بأسرها. تتناقض الأجواء المُظلِمة لهذا "العالم" مع أجواء "محفل الرسل" المُضاءة بأنوار الروح القدس.

-----------------------------------------------

خامساً – الخُلاصة الروحيّة:

إن حلول الروح القدس على الرسل في يوم "العنصرة"، ما هو إلا بمثابة "نقطة الوصول" للتدبير الخلاصيّ الذي أرساه الربّ يسوع، وتَوَّجهُ بقيامته من بين الأموات وبصعوده المجيد إلى السماء. إذ لولا "القيامة" و"الصعود" لما كانت هناك عنصرة "إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق، لا يأتيكم المُعزيّ..." (يو 16: 7). فكلّها محطات في التدبير الخلاصيّ الذي يهدف في نهاية المطاف إلى تشييد "البناء الكبير" الذي دعاه الربّ نفسه ب"ملكوت الله" (أو ملكوت السماوات).

في عيد "العنصرة"، وُلِدت الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين بهذا الملكوت، وبالخلاص المجانيّ الممنوح لكل إنسان بفعل رحمة الله ومحبّته للبشر. فرحتنا اليوم بحلول الروح القدس لا تُضاهيها إلا فرحتنا بقيامة السيّد له المجد قبل خمسين يوماً، الذي إنتقلت علاقتنا معه من الصعيد البشريّ، الترابيّ، المحدود، إلى الصعيد الروحيّ، الملكوتيّ، اللامحدود ("العبادة بالروح والحقّ"). فلذلك، أرسل السيّد روحه القدّوس لكي يكون لنا خير مُعين، أرسله لكي يهتف من خلالنا "أبّا، أيها الآب" (غل 4: 6).

نختم بالإشارة إلى نقطتَين مُهمّتَين جداً:

الأولى، هي أن البشريّة دخلت منذ ذلك اليوم ما نُسمّيه ب"زمن العنصرة" (بالمعنى الواسع وليس الليترجيّ)، الذي فيه تُزرع "كلمة الله" في أنحاء المعمورة، إلى حين يأتي وقت الحصاد. بكلام آخر، إن "زمن العنصرة" يأتي بين مجيئَين للربّ يسوع: بعد المجيء الأول مُخلّصاً للبشريّة، وقبل المجيء الثاني ديّاناً عادلاً للبشريّة.

الثانية، هي أن "العنصرة" لم ولا تقتصر على ذلك اليوم المجيد منذ ألفَي عام ونيّف، وإلا لما كانت الكنيسة بقيت إلى يومنا هذا وحتى "عودة العريس الإلهيّ". فإن كان الروح القدس هو عطيّة الآب القُصوى، يكون بالتالي أن "العنصرة" هي عمل يوميّ للروح القدس، مُرافقاً للأفراد وللجماعات على مدى الأيام وحتى إنقضاء الدهر، إيماناً بكلام "الكلمة الأزليّ".

بقلم الاخ  توفيق ناصر (خريستوفيلوس)