أنت هنا
القائمة:
قراءة تأمليّة مُقتضَبة لإيقونات "آحاد الماء" الثلاثة
من "أحد القيامة المجيدة" إلى "خميس الصعود المجيد"، يسلك زمن "البندكستاري" عبر آحادٍ ستّة، الثلاثة الأولى منها لها علاقة مُباشِرة بحدث "القيامة"، ألا وهي "أحد القيامة" و"أحد تثبيت إيمان توما" و"أحد حاملات الطيب". أما الثلاثة اللاحقة، فهي بمثابة تهيئة لحدث "حلول الروح القدس" في "أحد العنصرة المُقدّسة"، وإرتباطه بسر المعموديّة المُقدّسة، وتُعرَف ب"آحاد الماء"، وهي "أحد المُخلّع" و"أحد السامريّة" و"أحد الأعمى"، فيها نقرأ عن آيات أجراها الربّ يسوع، وينفرد بروايتها الإنجيل بحسب يوحنا. ومن ضمن التسميات التي يُعرَف بها إنجيل يوحنا، تسمية "إنجيل الماء الحيّ". ونُذكِّر أن نقطة الإنطلاق لفكرة "الماء والروح"، كانت في اللقاء الليليّ الذي جمع الربّ يسوع ونيقوديموس، وتكلّم فيه الربّ عن ضرورة "الولادة الجديدة من الماء والروح لدخول ملكوت السماوات" (يو 3: 5).
في عودة إلى "آحاد الماء"، قد أوردنا شرحاً مُسهَباً للرواية الإنجيليّة لكل أحد، وختمنا كل مقالة بشرح مُختصَر عن إيقونة ذلك الأحد. أما اليوم، فنُعيد نشر شروحات الإيقونات الثلاث نفسها، مجموعةً ومُبوّبةً في مقالة واحدة لأجل الفائدة العامّة... وبما أن الإيقونة عامةً هي قراءة روحيّة تأمليّة للنصوص الكتابيّة، مُعبَّر عنها بالألوان والأشكال، فلنقرأ ونتأمل كلاً من الإيقونات الثلاث لنرى أنفسنا في صورة "المُخلّع" و"السامريّة" و"الأعمى"، ولنكتشف مع هؤلاء من هو الربّ يسوع، وعيوننا مُصوّبة نحو "العنصرة المُقدّسة"، وهاتفين "هلمّ أيها الروح القدس".
*********************************************
أولاً – إيقونة "شفاء مُخلّع بيت حسدا" (يو5: 1-15)
إن إيقونتنا تنتمي إلى فئة الإيقونات الخاصة بالآيات التي صنعها الربّ يسوع أثناء كرازته الملكوتيّة، أي أنها تُظهِر لنا بشكل مرئيّ "علامات ظهور ملكوت الله بين البشر". يُذكَر هنا أن الفئة الأخرى من الإيقونات السيّديّة، تتضمّن الأحداث أو المراحل الكُبرى من حياة "الكلمة المُتجسّد"، وهي الأعياد السيّديّة إجمالاً (الميلاد، العماد، التجلّي، الشعانين...).
على غرار الإيقونات السيّديّة إجمالاً، يُجلّل اللون الذهبيّ خلفيّة المشهد في إيقونتنا، رمزاً للمجد الأبديّ المُرافق للربّ يسوع أينما حلّ، ولنكهة الحياة الأبديّة التي أتى بها إلينا. تظهر "الأروقة الخمسة" التي تكلّمت عنها الرواية الإنجيليّة، وهي ترمز إلى "كتب الشريعة الموسويّة الخمسة". والمُلاحظ أن الأروقة ظاهرة في المشهد الخلفيّ، دلالةً على أن الشريعة "تجاوزها الزمن" ولم تعُد صالحةً بحضور كمالها ("الإبن المُتجسّد") الذي "لم يأتِ لينقض، بل ليُكمّل".
في أرضيّة المشهد الخلفيّ، تبدو بِرْكة "بيت الرحمة" التي كانت واسطة الشفاء لأول شخص يغطس فيها بعد "هبوط الملاك فيها وتحريك المياه". أما بعد العنصرة، سيُصبح جرن المعموديّة هو بِرْكة "بيت الرحمة" الحقيقيّة، والروح القدس هو الذي سيهبط دون إنقطاع مانحاً النِعَم بإسم الربّ يسوع.
في المشهد الأماميّ، نرى السيّد يتقدّم تلاميذه (المُتعجّبين)، ويقف منتصِباً أمام العبد المُخلّع، وفي عينيه نظرة الرحمة (هو مانح الرحمة) وعلى يده اليُمنى إشارة البركة المُعتادة، وحاملاً بيده اليُسرى مخطوطاً ملفوفاً يرمز إلى "بُشرى الخلاص". أما المُخلّع "سابقاً"، فهو "قائمٌ" وحاملٌ سريره كما أمره السيّد "قم وإحمل سريركَ وإمشِ"... ينظر إلى السيّد بوضعيّة الإنحناء بسبب حمله السرير، ولكنها أيضاً إنحناءة حبّ وسجود وإحترام وشكر على عطيّته، التي لم تكن في حسبانه (لم يكن أحد يلتفت إليه). إن شفاءه كان "قيامةً" إلى حياة جديدة مع الله، كان شفاءً مُزدوِجاً. لذلك حذّره الربّ يسوع من الوقوع في الخطيئة "لئلا يُصاب بأسوأ" (الموت الروحيّ، الخروج من حالة النعمة).
***********************************************
ثانياً – إيقونة "حوار يسوع مع المرأة السامريّة" (يو 4: 5-42)
تستمدّ الإيقونة عنوانها وروحانيّتها من الرواية الإنجيليّة الشهيرة الواردة في الإنجيل اليوحنّويّ (الفصل الرابع). ويُمكن لهذه الإيقونة أن تحمل عدّة تسميات، مثل (1) "لقاء يسوع بالمرأة السامريّة"، و(2) "حوار يسوع مع المرأة السامريّة"، و(3) "لقاء البئر"، و(4) "حوار الماء الحيّ"... على غرار الإيقونات السيّديّة إجمالاً، تتميّز إيقونتنا باللون الذهبيّ الذي يُجلّل خلفيّة المشهد، دلالةً على المجد الأبديّ وعلى البُعد الملكوتيّ للكرازة، لأنه حيثما يحلّ السيّد، تحلّ معه نكهة الحياة الأبديّة التي أتى بها إلينا... علاوةً على ذلك، وفي حالة هذه الإيقونة بالذات، يُمكننا أيضاً أن نعتبر اللون الذهبيّ رمزاً لنور الشمس الساطعة، لأن اللقاء تمّ عند "الساعة السادسة"، أي الثانية عشرة ظهراً (ساعة تجربة آدم)...
يتوسّط "بئر يعقوب" مشهد الإيقونة، وهو البئر الذي أعطاه يعقوب لإبنه يوسف، والذي كان نقطة إنطلاق الحوار بين يسوع والمرأة. تجدر الإشارة إلى أن البئر يُصوَّر على شكل صليب في غالبية إيقونات "اللقاء"، لأن البئر ما هو إلا رمز للسيّد له المجد، الذي هو نفسه البئر أو النبع الحقيقيّ الذي يُعطي "الماء الحيّ". فجواباً على سؤال المرأة: نعم، نعم... إنه "أعظم من يعقوب الذي أعطاهم البئر"... إنه ربّ يعقوب بالذات.
على جانب من الإيقونة، يظهر السيّد جالساً عند البئر، وعلى وجهه ملامح العزم على إيصال البشارة إلى السامريّين من خلال المرأة، فهذا هو "عطشه" الفعليّ. يُعرَف من هالة البرارة الفريدة التي تُحيط برأسه، والتي تخصّه وحده بفعل دمغة الصليب... نراه يبسط يده اليُمنى نحو المرأة، وهي مشبوكة على شكل بَرَكة (كما في سائر إيقوناته)، ويُمسِك بالأُخرى المخطوط الملفوف المُعتاد، الذي يرمز إلى بُشرى الخلاص التي أتى بها إلى العالم...
على الجانب الآخر من الإيقونة، أي قبالة السيّد، تقف المرأة السامريّة، مكشوفة الرأس دلالةً على عيشها في الخطيئة (كما تُصوَّر مريم المجدليّة في إيقونة "ظهور الربّ الأول")، وحاملةً في يدها جرّة الماء التي إعتادت ملأها يوميّاً عند البئر، والتي ستتركها بعد قليل، حين تكتشف "نبع الماء الحيّ"، فتتحوّل "رسولةً" وتذهب لتوِّها وتدعو مواطنيها لكي يأتوا ويكتشفوا بأنفسهم "نبع الحياة"، كما فعلت هي...
في المشهد الخلفيّ للإيقونة، نرى مدينةً (هي "سيخار" السامريّة)، تتوسّط جبلَين متقابلّين. فالجبل الأول الذي يُظلّل "الرجل اليهوديّ" (يسوع)، يرمز إلى "جبل الهيكل" في أورشليم، الذي هو مركز عبادة اليهود لله، والذي يأخذ لونه البنّيّ (الترابيّ) من لون رداء يسوع الأساسيّ (آدم الجديد). أما الجبل الثاني الذي يُظلّل "المرأة السامريّة"، فيرمز إلى "جبل غارزيم"، مركز عبادة السامريّين لله، والذي يأخذ لونه الأخضر (البشريّ) من لون رداء المرأة... في مُقابلة هذَين الجبلَين صدى واضح لحديث الربّ يسوع عن العبادة، وهو أكّد فيه للمرأة بأنها تأتي ساعة سيُبطِل الله هذا وذاك، إذ مع يسوع سوف نعبد الآب "بالروح والحقّ"، وها إن "العنصرة" قريبة حيث سوف ننال فيض "الماء الحيّ"، الذي هو الروح القدس، هديّة الإبن لنا من قِبَل الآب.
**********************************************
ثالثاً – إيقونة "شفاء الأعمى منذ مولده" (يو 9: 1-38)
تستمدّ الإيقونة روحانيّتها وكذلك إسمها، من الرواية الإنجيليّة ذات الصلة، التي ينفرد بها الإنجيل "اليوحنّويّ". وهي تدخل في إطار الإيقونات التي تروي لنا آيات الربّ يسوع أثناء كرازته، آيات هي "علامات على حلول ملكوت الله بين البشر"... تُجلّلها خلفيّة ذهبيّة اللون، دلالةً على المجد المُلازم لحضور السيّد، كما على البُعد الأبديّ لكرازته ("كلام الحياة الأبديّة عندكَ"، بحسب قول بطرس)... كما يُمكننا إعتبار اللون الذهبيّ رمزاً "للنور الحقيقيّ"، المسيح الإله "نور العالم" الذي جاء عالمنا المُظلِم، لكي يُنير كل إنسان كما "أنار" أعمى بِرْكة سِلوام.
يتوسّط الإيقونة مشهد "السيّد والعبد" وجهاً لوجه، "الخالق والخليقة". إن "الكائن"، "والذي هو"، يبدو واقفاً بعزم، وعلى وجهه علامات الجديّة، فهو "يعمل أعمال الذي أرسله" (يو 9: 4). يُعرَف بهالة البرارة الفريدة التي تُحيط برأسه، المدموغة بإشارة الصليب وبأحرف "أو أون" اليونانيّة، والتي هي بمثابة بطاقة تعريف بصاحبها... إنه يلبس الرداء البنّيّ (أو البنفسجيّ)، نفس لون الجبل الذي يظلّله، والذي يرمز إلى "الطبيعة الآدميّة" (الترابيّة) التي لبسها "آدم الجديد" لأجل تجديدها وإشراكها في الحياة الإلهيّة. ويلتحف بالرداء الأزرق الذي يُدلّل على هويّته الإلهيّة السماويّة. يبسط ذراعه اليُمنى بإتجاه الأعمى، واضعاً الجبلة الطينيّة في عينيه، في حركة "خلق جديد". وهي من المرّات النادرة التي لا نرى يد الربّ مشبوكةً على شكل برَكة كالمعتاد، فههنا أعظم من البرَكة لأن حركة "الخلق الجديد" مُتضمّنة البرَكات كلّها. أما اليد الأخرى، فيُمسِك بها المخطوط الملفوف المُعتاد، الذي يرمز إلى بُشرى الخلاص التي أتى بها إلى العالم. أما العبد الأعمى، فإنه مُستسلِم بين يدَي سيّده الذي يخلق له "سراجاً جسديّاً" من العدم، وبنفس الوقت يُنير ظلمة نفسه بنور "الإيمان بإبن الله".
خلف السيّد، يتجمّع تلاميذه مُتهامِسين مُتعجّبين من الآية الجارية أمامهم، هم الذين كانوا قد سألوه بدايةً إن كان عمى الرجل نتيجة خطيئته هو، أم أنه نتيجة موروثة عن خطيئة أبوَيه... إنهم يرَون أمامهم "عجباً مُستغرَباً"، يشهدون على عمل "الخلق الجديد"، وإستنارة إنسان عاش كل عمره في الظلام وعلى هامش مُجتمعه، فأعاد الربّ إليه كرامته الإنسانيّة (ككل المُهمّشين الذين إلتقاهم).
في خلفيّة الإيقونة، تنتصب أورشليم المدينة المقدّسة التي جرت فيها الآية، مُظلّلةً "بِرْكة سلوام" الظاهرة على شكل صليب (كما رأينا قبلاً بالنسبة لبئر يعقوب الآخذ شكل صليب)... إن الصليب يرمز بالطبع للسيّد له المجد، الذي هو نفسه "البِرْكة الحقيقيّة" (أو البئر أو النبع الحقيقيّ الذي يُعطي "الماء الحيّ"). وإسم "سِلوام" معناه "المُرْسَل"، رمزاً للسيّد أيضاً كونه "المُرْسَل" بإمتياز من قبل الآب السماويّ... ينحني الأعمى فوق البِرْكة ويغتسل، إمتثالاً لأمر السيّد، فيعود إليه البصر ومعه البصيرة، إذ إن عينَيه الروحيّتَين إنفتحتا وآمنتا ب"إبن الله"، نوراً حقيقيّاً للعالم. والبِرْكة ترمز إلى جرن المعموديّة الذي ننزل فيه، فنموت عن "آدم القديم" ويزول منا العمى عن نعمة الله، ونخرج منه "إنساناً جديداً" مُستنيرين بالمسيح الذي لبسناه بالعماد المقدّس، صائرين أعضاء فاعلين في "جسده السرّيّ"، وأبناء لله بالنعمة.
بقلم الاخ توفيق ناصر (خريستوفيلوس)