أنت هنا

القائمة:

سِرُّ المعمُوديَّة

الفَصل الأول نشْأة المَعْمُودَّية المقَدَّسَة

"وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا"
في قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني أعلن الآباء إيمان الكنيسة بمعمودية تُمنَح مرّة واحدة لمغفرة الخطايا. وقد ختم هذا الإعلان الرسمي تقليداً في الكنيسة يعود إلى الزمن الرسولي. فالرسل كانوا يعمّدون، بأمر من السيّد المسيح نفسه، في أثناء حياته ومن بعد قيامته.
يذكر إنجيل متى أنّ السيّد المسيح، من بعد قيامته، تراءى لرسله وأوصاهم أن يتابعوا رسالته بتعليم جميع الأمم وتعميدهم:
"لقد دُفع إليّ كلّ سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا، وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وهاأناذا معكم كلّ الأيّام، إلى انقضاء الدهر" (متى 28: 18- 20).
وهذا ما فعله الرسل منذ حلول الروح القدس عليهم يوم العنصرة، كما جاء في سفر أعمال الرسل. فبعد أن خطب بطرس والأحد عشر في الشعب مبشرين بقيامة المسيح وشاهدين لها، "انصدعت قلوب الشعب، وقالوا لبطرس وسائر الرسل: ماذا علينا أن نصنع أيّها الرجال الإخوة؟ فقال لهم بطرس: توبوا، وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس. فاعتمد الذين قبلوا كلامه، وانضمّ الى الكنيسة في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس" (أع 2: 37- 41).
 

أمّا العماد المسيحي فتاريخي، أي إنّه مرتبط كيانياً بحدث تاريخي إلهي وخلاصي. وهذا الحدث هو ظهور يسوع المسيح ابن الله في الجسد وعماده ورسالته وموته وقيامته.
إنّ الإنسان كائن مخلوق على صورة الله، يعمل روح الله فيه منذ بدء البشرية. 

تُعطى المعمودية المسيحية مرّة واحدة، لأنّها اتّحاد تام ونهائي بالسيّد المسيح كمال الوحي.
استخدامِ الماء كعنصر تنقية وتكريس. فالماء الذي من طبيعته ينقّي الجسد من أقذاره يصير رمزاً لتنقية النفس من أدران الخطيئة إذا تمّ استخدامه في طقوس دينية ورافقته صلوات وابتهالات، كما يصير أيضاً عنصراً أساسياً في تكريس الأشياء التي تُستعمل لخدمة الله وفي تكريس الأشخاص الذين يقومون بتلك الخدمة. ولكن إلى جانب هذا الشبه، هناك اختلاف جذري في المعنى والجوهر بين الوضوءات والاستحمامات الوثنية والمعمودية المسيحية.

2

ثانياً- المعمودية في الإنجيل المقدّس
أمّا المعمودية فتعني تغطيس الإنسان كلّه في الماء. ويرمز هذا التغطيس الى أمرين: أمر مرتبط بالإنسان، وآخر بالله.
- فالإنسان، بنزوله في الماء، يُعبّر عن إرادته بأن يزيل عنه آثار الخطيئة ويتوب- أي يعود- إلى الله، ويبدأ حياة جديدة.
- فالمعمودية هي على يد "مرسَل من قبل الله". وفي ذلك إشارة إلى أنّ هذه الحياة الجديدة ليست أوّلاً عمل الإنسان، بل هي قبل ذلك عمل الله الذي "وحده يستطيع أن يغفر الخطايا" (مر 2: 7) ويجدّد الإنسان. فيوحنا، بكرازته بمعمودية توبة لمغفرة الخطايا، يعلن بدء الزمن الذي سيتحقّق فيه ما وعد به الله الشعب على لسان أنبيائه في العهد القديم (مز 36: 35- 36؛ إر 31: 34؛ أش 33: 24).
ج- إنّها عمل جماعي. فيوحنا لا يوجّه دعوته إلى بعض الأفراد بل إلى الشعب كله. لذلك "كان جميع اليهودية وجميع سكّان أورشليم يخرجون إليه ويعتمدون على يده" (مر 1: 5). ويشير لوقا الى أن معمودية يوحنا لا تستثني أحداً لا من اليهود ولا من الوثنيين. فالرجال والنساء والأطفال، والعشارون والجنود (لو 3: 12- 14) كلّهم مدعوون إلى معمودية التوبة، "ليعاين كل إنسان خلاص الله" (لو 3: 6). 

2- اعتماد يسوع

إنّ اعتماد يسوع على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن هو حدث هام في حياة يسوع المسيح وفي كرازة الكنيسة الأولى. فالإنجيليون الأربعة يأتون على ذكره في مستهلّ حياة يسوع العلانية (متى 3: 13- 17؛ مر 1: 9- 11؛ لو 3: 21- 22؛ يو 1: 32- 34).
في هذا الحدث تنتهي رسالة يوحنا وتبدأ رسالة السيّد المسيح. فيوحنا كان "الصوت الصارخ في البرّية أعدّوا طريق الرب" (متى 3: 2)؛ أمّا يسوع فهو "ابن الله الحبيب" (متى 3: 17؛ يو 1: 34).
أ- اكتمال البر

البرّ هو الأمانة التامة والجذرية لقصد الله وإرادته (راجع متى 5: 6، 10، 20). ويسوع، باعتماده، أظهر الاتضاع طريقاً لتحقيق برّ الله

ب- حلول الروح القدس

يتابع نص متى: "فلمّا اعتمد يسوع، خرج على الفور من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، ورأى روح الله ينزل بشكل حمامة ويحلّ عليه" (متى 3: 16). الروح القدس ينزل على يسوع "ويستقرّ عليه" (يو 1: 33).
ج- إعلان يسوع "ابن الله"

"وإذا صوت من السماوات يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (متى 3: 17). وفي نصّ مرقس يتوجّه الصوت إلى يسوع نفسه: "أنت ابني الحبيب، بك سررت" (مر 1: 11).
معظم الأنبياء، في بدء رسالتهم، رأوا رؤيا، وسمعوا صوت الله يرسلهم إلى الكرازة. فهم مرسَلون من قبل الله (راجع أش 6: 8؛ إر 1: 1- 10؛ حز 2: 2- 3).
إنّ يسوع يتميّز عن سائر الأنبياء بأنّه "ابن الله الحبيب"، وليس مجرّد مرسَل من قبل الله. لذلك في الرؤيا التي يراها، يرى روح الله يحلّ عليه ويسمع صوت الله الآب يعلن: "أنت ابني الحبيب، بك سررت"، وفي نص لوقا، كما جاء في بعض المخطوطات: "أنت ابني الحبيب، أنا اليوم ولدتك" (لو 3: 22).
 

4- وصية يسوع بعد قيامته بتعميد الأمم

يروي إنجيل متى أنّ يسوع، من بعد قيامته، ظهر لتلاميذه وأوصاهم قائلاً:
"لقد دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا، وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أناذا معكم كلّ الأيّام الى انقضاء الدهر" (متى 28: 18- 20).
وهذه الوصية نجدها أيضاً في ختام إنجيل مرقس: "اذهبوا في العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها، فمن آمن واعتمد يخلص" (مر 16: 15- 16).
 

 

الفَصل الثَّاني مَعَاني المَعْمُوديّة وَأبعَادُهَا

ما هي "نعمة المعمودية"؟ ما هي "مفاعيلها" في كيان المسيحي وحياته؟
استناداً إلى العهد الجديد، ولا سيّمَا إلى ما جاء في إنجيل يوحنا ورسائل بولس، يمكننا اختصار مفاعيل المعمودية ومعانيها وأبعادها في الأمور الثلاثة التالية:
1- بالمعمودية يولد الإنسان ولادة جديدة ويشترك في حياة الله.
2- يشترك في موت المسيح وقيامته.
3- يصير عضواً في الكنيسة جسد المسيح وشعب الله الجديد.

أوّلاً- المعمودية ولادة جديدة واشتراك في حياة الله

التألّه

إنّ الولادة الجديدة "بالروح" تؤله الإنسان إذ تملأه من روح الله: إنّه "مولود من الله، وزرع الله حالّ فيه" (1 يو 3: 9). وزرع الله هو الروح القدس، روح الله نفسه الذي يقيم فيه عندما "يولد من جديد بالماء والروح" (راجع أيضاً يو 1: 13).
هذا هو التألّه الذي فيه رأى آباء الكنيسة الشرقية المفعول الأساسي للمعمودية. "فالله يثبت فينا بالروح الذي أعطانا" (1 يو 3: 24). وعندما يثبت فينا الله يصير هو مبدأ أعمالنا. وهذا ما يعنيه بطرس الرسول بقوله إنّنا "نصير شركاء في الطبيعة الإلهيّة" (2 بط 1: 4).
في هذا القول يقول القدّيس كيرلّس الأورشليمي:
 

3- الخلق الجديد

إنّ مياه المعمودية صورة للمياه الأولى التي منها خرجت الخليقة. والروح القدس الذي يحلّ فيها ويقدّسها يجعلها حشاً للخليقة الجديدة. ينزل الإنسان في تلك المياه المطهِّرة، فيذوب كلّ ما تكدّس في نفسه من أقذار، وقلبه المتحجّر يصير على ما يقول حزقيال النبيّ، "قلباً من لحم" (مز 36: 26) طيّعاً لعمل الله. وكلّ ما فيه من ظلمة يزول بدخول النور السماوي الذي يملأ كيانه كلّه: قلبه، وعقله، وقواه النفسية، وحتى حواسّه:
"لقد كنتم أمواتاً بزلاّتكم وخطاياكم... غير أنّ الله أحيانا مع المسيح" (أف 2: 1- 6)؛ "لقد كنتم من قبل ظلمة، أمّا الآن فأنتم نور في الرب" (أف 5: 8)، "إنكم جميعاً أبناء النور، وأبناء النهار" (1 تسا 5: 4).

4- التبنّي

بهذه الولادة الجديدة بصير الإنسان ابن الله ووارثاً مع المسيح، ويستطيع أن يدعو الله كما كان يدعوه المسيح: "أبّا! أيّها الآب" (رو 8: 15، راجع أيضاً غلا 4: 5؛ أف 1: 5).
الاسم والختم

من يصير ابن الله يحمل اسمه ويُختَم أو يوسَم بختمه.  تُمنَح المعمودية وبحسب إنجيل متّى "باسم الآب والابن والروح القدس" (متّى 28: 19).
الاسم يعني الانضمام إلى شخص المسيح والتكرّس له والدخول في عهد معه. وكذلك العماد "باسم الآب والابن والروح القدس" هو في خول في حياة الإله الثالوث والتكرّس له: "فالمعموديّة التي تتمّ بالمسيح وتمنحنا الروح تدخلنا في بيت الآب. وبها نحصل على حال وجود ثالوثية".
فالختم هو تعبير رمزي للإشارة إلى الصورة الجديدة التي يلتزم المسيحي أن يحملها طول حياته في كيانه وفي أعماله، ويرص على ألاّ يشوِّهها بالخطيئة.
وعلى غرار الجنود الذين كانوا في القديم يوسَمون على ذراعهم باسم قائدهم، جرت العادة قديماً لدى المسيحيين الشرقيين أن يوسَموا على ذراعهم بوسم لا يمحى يمثِّل شكل الصليب. وهذه العلامة هي علامة الانضمام إلى شعب الله الجديد المسمّى باسم الله الثالوث والذي نذكر اسمه كلّ مرّة نرسم على وجوهنا وصدورنا إشارة الصليب.
وهذا الختم هو علامة قبول الله لنا قبولاً نهائياً لا عودة عنه. لذلك كل معمودية تتمّ بشكل صحيح، أي بالماء و"باسم الآب والابن والروح القدس"، لا يجوز أن تُعاد.

ثانياً- المعمودية اشتراك في موت المسيح وقيامته

1- آدم القديم وآدم الجديد

المعمودية ولادة جديدة واشتراك في حياة الله من خلال اعتماد المعتمد بشخص يسوع المسيح "آدم الجديد" واشتراكه في موته وقيامته.
 

ثالثًا- المعمودية انضمام الى الكنيسة جسد المسيح

إنّ المعتمد، بولادته الجديدة واشتراكه في موت المسيح وقيامته، يصير عضوًا في الكنيسة شعبِ الله الجديد وجسدِ المسيح. إنّ تقليد كلّ الكنائس يعتبر المعمودية السرّ الذي به ينضمّ الإنسان الى الكنيسة.

1- 

رابعًا- "نعمة" المعمودية و"مفاعيلها" و"حريّة" الإنسان

الفصل الثالِث رتبَةُ المعْمُوديّة وَطقوُسهَا

إنّ ما تؤمن به الكنيسة من معانٍ وأبعاد في المعمودية تعبّر عنه في رتبة المعمودية ومختلف طقوسها، وهي تشمل خمسة أقسام: إعلان الإيمان، تقديس الماء، المسح بالزيت، العماد، لبس الثوب الجديد.

أوّلاً: إعلان الإيمان

المعمودية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإيمان. فهي التعبير الحسّي عنه وهو في الوقت عينه نعمة من الله والتزام من قبل الإنسان. وهذا ما تعبّر عنه أفضل تعبير رتبة المعمودية نفسها.

1- الصلاة لأجل الإيمان

يوجّه الكاهن المزمع أن يعتمد إلى الشرق، رمز النور الذي هو المسيح، ويختم جبهته وصدره على شكل صليب، بعد أن ينفخ في وجهه ثلاثاً، رامزاً إلى الخلق الجديد. ففي الخلق الأوّل، حسب سفر التكوين، نفخ الله في الإنسان فصار كائناً حيًّا (تك 2: 7). وهنا تمنح الحياة الجديدة للمزمع أن يعتمد على اسم الآب والابن والروح القدس.
ثمّ يضع الكاهن يده على رأس المزمع أن يعتمد ويتلو الصلاة التالية:
"باسمك يا رب إله الحق، وباسم ابنك الوحيد وروحك القدّوس، أضع يدي على عبدك فلان (أو على أمتك فلانة) الذي قد أُهّل لأن يلتجئ إلى اسمك القدّوس ويُحفظ تحت ستر جناحك. فانزع عنه الضلالة القديمة، واملأه من الإيمان بك، ومن الرجاء والمحبة، لكي يعلم أنّك أنت الإله الحقيقي وحدك، أنت وابنك الوحيد ربّنا يسوع المسيح وروحك القدّوس. أعطه أن يحفظ جميع وصاياك ويصنع ما هو مرضيّ لديك، لأنّ الإنسان الذي يعمل بها يحيا بها. أكتبه في سِفْر حياتك، وضمّه إلى قطيع ميراثك، ليمجَّدَ به اسمك القدّوس واسم ابنك الحبيب ربنا يسوع المسيح وروحك المحيي. لتكن على الدوام عيناك ناظرتين إليه بالرحمة، وأُذناك سامعتين لتضرّعه. أبهجه في أعمال يديه، وفي كلّ نسله، لكي يعترف لك ساجداً وممجّداً اسمك العظيم المتعالي، ويسبّحك على الدوام جميع أيّام حياته".
هذه الصلاة الرائعة الغنيّة بالعمق اللاهوتي توضح نعمة العماد الأساسيّة، وهي الدخول في حياة الثالوث الأقدس. وهذا ما يعنيه وضح اليد على الرأس مع ذكر اسم الثالوث: "باسمك يا رب إله الحق، وباسم ابنك الوحيد وروحك القدّوس". فالمعمودية هي إعلان أنّ الله قد قبل المعتمد وأهّله "لأن يلتجئ إلى اسمه القدّوس ويُحفَظ تحت ستر جناحيه". ثمّ تطلب الصلاة إلى الله أن يملأ المعتمد من الإيمان به والرجاء والمحبة. فبالإيمان يعرف الثالوث الأقدس: "لكي يعلم أنّك أنت الإله الحقيقي وحدك، أنت وابنك الوحيد ربّنا يسوع المسيح وروحك القدّوس"؛ وبالمحبة يحفظ وصايا الله: "أعطه أن يحفظ جميع وصاياك ويصنع ما هو مرضيّ لديك"؛ وبالرجاء "يُكتب اسمه في سفر الحياة" (راجع في 4: 3؛ رؤ 3: 5).
ثمّ تلي هذه الصلاة صلاة أخرى تتبحّر بمفاعيل المعمودية:
"أيّها السيّد الربّ الكائن، يا من خلق الإنسان على صورته ومثاله، وخوّله الحق على الحياة الأبديّة، ولم يُعرض عنه بعد سقوطه في الخطيئة، بل دبّر بتأنّس مسيحه خلاص العالم،
- أنت أنقذ من عبودية العدوّ هذا الولد الذي خلقته،
- إفتح عيني ذهنه ليشرق فيه نور إنجيلك،
- واقرن حياته بملاك منير يخلّصه من كل وسواس العدو ومن صدمة الشرير.
- أبعد عنه كل روح شرّير: روح الضلالة، روح الخبث، روح عبادة الأصنام وكلّ طمع، روح النفاق وكلّ نجاسة تُرتكب حسب تعليم إبليس.
- إجعله خروفاً ناطقاً في قطيع مسيحك المقدّس وعضواً كريماً لكنيستك، وإناءً مقدّساً، وابناً للنور، ووارثاً لملكوتك".
بنعمة الإيمان والمعمودية ينقل الله الإنسان من الضلالة إلى الحق، ومن الظلمة إلى النور، ومن الاستعباد للخطيئة على أنواعها إلى حريّة أبناء الله، فيصير خروفاً ناطقاً في قطيع المسيح، وعضواً في كنيسة الله، ووارثاً لملكوته.

2- إعلان الإيمان من قبل المعتمد

يوجّه الكاهن المزمع أن يعتمد إلى الغرب، رمز الظلمة والخطيئة، ويسأله:
- "هل ترفض الشيطان وأعماله وملائكته وعباداته وأباطيله كلّها؟
فيجيب المعتمد، أو عرّابه، إذا كان طفلاً:
- "نعم أرفض الشيطان وأعماله وملائكته وعباداته وأباطيله كلّها".
ثمّ يوجّهه نحو الشرق، رمز المسيح ويسأله:
- "هل توافق المسيح؟
- نعم أوافق المسيح.
- هل وافقتَ المسيح؟
- نعم وافقتُ المسيح.
- هل تؤمن به؟
- نعم أومن به إنّه ملك وإله".
ثمّ يتلو قانون الإيمان. وبعد ذلك يسأله الكاهن من جديد:
- هل وافقتَ المسيح؟
- نعم قد وافقتُ المسيح.
- فاسجد له أيضاً.
إذّاك يحني المعتمد أو عرّابه رأسه ساجداً ويعلن إيمانه بالثالوث الأقدس الذي سيعتمد على اسمه:
"أسجد للآب والابن والروح القدس، الثالوث الواحد في الجوهر وغير المنفصل".
حينئذٍ يعلن الكاهن مؤكداً إرادة الله أن يبلغ الناس إلى معرفة الحق وإلى الخلاص:
"تبارك الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يبلغون، كل حين الآن وكلّ أوان وإلى دهر الداهرين".
ثمّ يتلو الكاهن الصلاة التالية التي تبيّن أنّ المعمودية ولادة جديدة:
"أيّها السيّد الرب إلهنا، أدع عبدك هذا (أو أمتك هذه) إلى استنارتك المقدّسة. وأهّله لهذه النعمة العظيمة، نعمة معموديّتك المقدّسة. إنزع عنه الإنسان القديم وجدّده للحياة الأبديّة. واملأه من قوّة روحك القدّوس للاتحاد بمسيحك، حتى لا يبقى ابن الجسد، بل يصبح ابن ملكوتك".
نقرأ في عظة للقدّيس كيرلّس الأورشليمي تفسير هذه الرتبة:
"والآن، أنت تسمع الأمر الصادر إليك ببسط يدك نحو الشيطان كما لو كان حاضراً، وبالقول: "أنا أكفر بك، أيّها الشيطان". ومن الضروري أن أقول لكم أيضاً لماذا كنتم واقفين، متّجهين نحو الغرب. فالغرب هو منطقة الظلمات المرئيّة، والشيطان الذي هو ظلام يبسط سلطانه على الظلمات... "أنا أكفر بك، أيّها الشيطان الشرّير القاسي المستبدّ"، أي: أنا لم أعد أخشى قوّتك، لأنّ المسيح سحقها، إذ اشترك معي في الدم واللحم ليبطل الموت بالموت (عب 2: 14- 15)... "وبكل أعمالك". وأعمال الشيطان هي كل خطيئة، ويجب التخلّي عنها، كما يُلقى سلاح الظالم عندما تُترَك خدمته. فكل خطيئة، على مختلف أنواعها، تدخل في أعمال الشيطان... فأنت إذن عندما تكفر بالشيطان تدوس بقدميك كل ميثاق معه (أش 28: 15) وتسحق الأحلاف المعقودة مع الجحيم. وعندئذٍ ينفتح أمامك فردوس الله الذي "غرسه في عدن شرقاً" (تك 2: 8)، وطُرد منه أبونا الأوّل لعصيانه (تك 3: 23). ورمزاً لذلك اتجهتَ من الغرب صوب الشرق الذي هو منطقة النور. وعندئذ طُلب منك أن تقول: أومن بالآب والابن والروح القدس... وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا".
بالإشارة إلى خطيئة آدم في الحديث عن إعلان إيمان المعتمد يبيّن القدّيس كيرلّس أنّ الإيمان هو قبول كياني لله وعودة إلى الحياة معه. وهذا ما يعبّر عنه بشكل سلبي رفض الشيطان وأعماله وبشكل إيجابي موافقة المسيح والإيمان به "بأنّه ملك وإله"، وبأنّه "واحد في الجوهر مع الآب والروح".

ثانياً- تقديس الماء والزيت

1- تقديس الماء

إنّ مادّة المعمودية هي الماء. وفي حال خطر الموت يحقّ لأيّ إنسان أن يأخذ بعضاً من الماء العادي ويسكب منه على رأس طالب العماد وهو يقول العبارة التالية: "يُعمَّد عبد الله فلان باسم الآب والابن والروح القدس. آمين".
ولكن في الرتبة الطقسيّة التي يحتفل بها الكاهن في الظروف الاعتيادية، يجب تقديس الماء قبل استعماله للمعمودية. وفي ذلك إشارة إلى أنّ الولادة الجديدة تتمّ "بالماء والروح" (يو 3: 5). وحضور الروح في الماء يتحقق بواسطة تقديسها. إنّ هذا التقديس، الذي يتمّ في رتبة احتفالية يوم عيد الظهور الإلهي دلالةً على أنّه بالروح القدس تتقدّس المادة وتتجدّد الخليقة كلّها، يعاد لدى كل معمودية. يقول القدّيس كيرلّس الأورشليمي:
"إنّ العماد حقًّا لأمر مهمّ، أيّها الإخوة، فتقدَّموا إليه بحرص... بجب على الروح القدس أن يختم نفوسكم... لا تقربوا هذا الغسل كما لو كان يتمّ بماء عادي. لأنّ نعمة الروح القدس هي التي توهَب مع الماء. فكما أنّ التقادم التي تُرفَع في معابد الأوثان، تدنَّس باستدعاء الأصنام، كذلك يتلقّى الماء العادي قوّة مقدّسة باستدعاء الروح القدس والمسيح والآب... فالذي ينزل في الماء لا يقتربنَّ منه كمن يقترب من ماء عاديّ، بل من ماء سيمنحه الخلاص بنعمة الروح القدس".
إنّ رتبة تقديس الماء، كما في سائر الأسرار، تعيد من جديد حضور ما حدث لدى اعتماد السيّد المسيح في الأردن. فالمسيح، باعتماده في الأردن، قدّس المياه وملأها من حضور الروح القدس الذي ينقّي الخليقة كلّها ويجدّدها، كما قال القدّيس أغناطيوس الانطاكي:
"إنّ ربّنا يسوع المسيح قد حمل في أحشاء البتول بتدبير إلهي من زرع داود ومن الروح القدس، ووُلد واعتمد لينقّي بالماء أهواءنا".
لذلك، في الطلبة التي تسبق صلاة تقديس الماء، يطلب الكاهن "أن يُقدَّس هذا الماء بقدرة الروح القدس وفعله وحلوله... أن تنحدر عليه نعمة الفداء وبركة الأردن... أن يحلَّ في هذه المياه فعل الثالوث الفائق الجوهر المنقّي...
"أن يصير للمزمع أن يعتمد فيه حميم الولادة الجديدة لغفران الخطايا وارتداء عدم الفساد.
ثمّ تلي صلاة التقديس التي تحتوي على ثلاثة أقسام:
يبدأ القسم الأوّل على غرار جميع الصلوات في الطقس البيزنطي، فيذكر عمل السيّد المسيح الخلاصي. فالصلوات والأسرار التي نحتفل بها اليوم ليست سوى امتداد على مدى الزمن لما صنعه المسيح في حياته الزمنيّة على الأرض. وهنا تبدأ الصلاة بذكر تجسّد كلمة الله وتقديسه المياه:
"عظيم أنت يا رب وعجيبة أعمالك، وما من قول يكفي للإشادة بعجائبك. فإنّك أنت الإله الأزلي غير المحصور والفائق كلّ وصف، أتيت على الأرض آخذاً صورة عبد صائراً بشراً. لأنّك بحنانك أيّها السيّد لم تحتمل أن ترى جنس البشر تحت استبداد الشيطان، بل أتيت وخلَّصتنا... لأنّك يا إلهنا على الأرض ظهرت وبين الناس تردّدت، أنت قدّست مجاري الأردن، إذ أرسلت من السماء روحك القدّوس".
ويطلب القسم الثاني إلى السيّد المسيح أن يحضر بحلول روحه القدّوس لتقديس المياه:
"فأنت إذن، أيّها الملك المحب البشر، احضر الآن أيضاً بحلول روح قدسك، وقدّس هذا الماء. أعطه نعمة الفداء، بَركة الأردن، اجعله ينبوعاً لعدم الفساد، موهبة للتقديس، غافراً للخطايا..." ويضع القسم الثالث علاقة بين تقديس الماء وتجديد المعتمد فيه. فتقديس المادة في اللاهوت المسيحي لا يتمّ في حدّ ذاته بشكل مجرّد عن الإنسان، بل يتمّ دوماً في علاقة مع إنسان يستخدم تلك المادة ليصل من خلالها إلى الاتحاد بالله وتجديد إنسانيته على صورة السيّد المسيح الإنسان الجديد. هكذا في الأسرار يضفي الإيمان على المادة بُعداً جديداً لا يمكن أن يراه غير المؤمن:
"إظهر يا رب على هذا الماء، وامنح المعتمد فيه أن يتبدّل فيخلع الإنسان العتيق الذي أفسدته شهوات الغرور، ويلبس الإنسان الجديد الذي جدَّدتَه على مثالك أنت خالقه، حتى يُغرَس معك في شبه موتك بالمعمودية، فيصير شريك قيامتك أيضاً. وبعد أن يحفظ موهبة روحك القدّوس وينمي وديعة النعمة، يأخذ جائزة الدعوة العلوية، ويحصى مع الأبكار المكتوبين في السماء".
نلاحظ في هذا القسم ذكراً لبعض مفاعيل المعمودية: الولادة الجديدة بلبس الإنسان الجديد، والاشتراك في مات المسيح وقيامته، والحصول على موهبة الروح القدس ووديعة النعمة، والإحصاء مع الذين كُتبت أسماؤهم في سِفْر الحياة.

2- تقديس الزيت ومسح المعتمد به

بعد تقديس الماء، يقدّس الكاهن الزيت:
"... بارك يا رب هذا الزيت بقوّة روحك القدّوس وفعله وحلوله، ليصبح للممسوحين به أو المتناولين منه بإيمان مسحة لعدم الفساد، سلاحاً للبرّ، تجديداً للنفس والجسد، صيانة من كل الشرور".
ثمّ يسكب الزيت فوق الماء معلناً:
تبارك الله الذي ينير ويقدّس كلّ إنسان آتٍ إلى العالم، كل حين الآن كل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين".
ثمّ يمسح الكاهن بالزيت جبهة المعتمد على شكل صليب قائلاً:
"يمسح عبد الله (فلان) بزيت الابتهاج، باسم الآب والابن والروح القدس"
ثمّ صدر المعتمد وظهره قائلاً: "لشفاء النفس والجسد"
ثمّ أُذنيه قائلاً: "لسماع الإيمان"
ثمّ رجليه قائلاً: "ليسلك سبلك يا رب"
ثمّ يديه قائلاً: "بداك صنعتاني وجبلتاني، فهّمني فأتعلّم وصاياك"
إنّ المسحة بالزيت قبل المعمودية تعود إلى القرون الأولى، ونجدها في معظم الطقوس وفي مختلف الكنائس. ويفسّر آباء الكنيسة معناها في عظاتهم. نقرأ في عظة للقدّيس يوحنا الذهبي الفم:
"وعلى الأثر بعد هذا العهد: الكفر بالشيطان والالتزام بالمسيح، بما أنّك اعترفت بسيادة المسيح وبأقوال فمك انضويت تحت لوائه، يمسحك الكاهن على جبهتك بالزيت الروحي كجنديّ ينزل إلى الحَلَبة الروحية، واضعاً عليها ختم الصليب وقائلاً: يمسح عبد الله باسم الآب والابن والروح القدس. فهو يعلم أنّ العدوّ من الآن فصاعداً غاضب يُصرّ بأسنانه ويجول كأسد زائر، لرؤيته الذين كانوا في الأمس خاضعين لاستبداده قد ثاروا عليه فجأة وارتدّوا عنه والتحقوا بالمسيح وانضووا تحت لوائه. لأجل ذلك يمسحكم الكاهن على جبهتكم واسماً إيّاكم بختم الصليب لكي يحجب ذاك نظره عنكم. فهو لا يجسر على التحديق بكم مواجهة، حين يرى البريق المنبعث من هذه المسحة يشّع ويعمي بصره. فمنذ تلك اللحظة تبدأ المعركة ضدّه ومقاومته. لذلك، كأبطال للمسيح، يدخلكم الكاهن بواسطة هذه المسحة الحَلَبة الروحية".
إنّ هذه المسحة هي وسم الإيمان والالتزام بالمسيح، وهي أيضاً علامة التنقية والتقديس، كما تشير إلى ذلك الصلوات التي ترافقها: "مسحة لعدم الفساد، سلاحاً للبر، تجديداً للنفس والجسد، صيانة من كل الشرور... لسماع الإيمان ليسلك سبلك يا رب...". وهذه المفاعيل تبدو أيضاً عمل الروح القدس: "بارك هذا الزيت بقوّة روحك القدّوس وفعله وحلوله".
وكذلك في الطقس الماروني يقول الكاهن الصلاة التالية:
"ليأتِ أيها السيّد روحك الحيّ القدّوس، ويحلّ على رؤوس عبيدك، ويستقرّ فيهم؛ وليتقبّلوا وسم الآب الحي، والابن الوحيد والروح القدس المعزّي وغافر الذنوب. فلتتقدّس أجساد ونفوس عبيدك الموسومين بك، ولتتثبّت ضمائرهم بمعرفتك، ولتمتلئ أذهانهم من الإيمان بك، ليرفعوا لك التسبحة ولمسيحك ولروحك الحيّ القدّوس، الآن وإلى الأبد".
يظهر أيضاً في هذه الصلاة مفاعيل المسحة: تقديس المعتمد وتنقيته، وتثبيته في معرفة الله كي لا يرجع إلى ظلمات الجهل والضلال، وامتلاؤه من الإيمان بالثالوث الأقدس الذي اعترف به وسيعتمد باسمه.
ونجد كذلك ذكراً لهذه المسحة بالزيت قبل العماد في "القوانين الرسولية" التي كتبت حوالي سنة 380 في سورية:
"تَمسَح أوّلاً بالزيت المقدّس، ثمّ تُعمِّد بالماء، ثمّ تنهي خاتماً بالميرون، كي تكون المسحة اشتراكاً في الروح القدس، والماء علامة الموت، والميرون ختم الالتزام".

ثالثاً- التغطيس بالماء

بعد المسحة بالزيت، يمسك الكاهن طالب العماد موجّهاً إيّاه نحو الشرق، ويعمّده قائلاً:
"يُعمَّد عبد الله فلان (أو تُعمَّد أمة الله فلانة) باسم الآب والابن والروح القدس. آمين".
وعلى كل اسم من الأقانيم الإلهية الثلاثة يغطّسه في الماء وينتشله. ولا تُقال آمين يعد كل اسم من أسماء الثالوث، بل في الآخر فقط، للتأكيد على وحدة الجوهر في الأقانيم الثلاثة.

1- طريقة العماد

إنّ العماد بالتغطيس هو تقليد قديم في الكنيسة. ففي القرون الأولى كان العماد يجري قرب الأنهر. والمعتمدون ينزلون إلى النهر ويعمّدون فيه. ولكن هذه الطريقة لم تكن إلزامية، حتى في القرون الأولى. ففي كتاب "الذيذاخية" أي "تعليم الرسل الاثني عشر"، الذي كُتب في أنطاكية في النصف الأوّل من القرن الثاني، نقرأ التوصية التالية:
"إمنحوا سرّ العماد وفقاً للتعاليم التالية: بعد الإرشادات السابقة، عمّدوا باسم الآب والابن والروح القدس. وإن لم يكن هناك ماء جارٍ، فليُعمَّد بخلافه، وإن لم يكن هناك ماء بارد، فليُعمَّد بالماء الساخن. وإن لم يكن ماء كافٍ من هذا وذاك، فاسكب على الرأس قليلاً من الماء ثلاث مرّات باسم الآب والابن والروح القدس".
إنّ سرّ العماد يمنح اليوم في "جرن" خاص بالمعمودية يوضع على مدخل الكنيسة. أمّا في القرون الأولى فبسبب كثرة معمودية البالغين كانت تُقام إلى جانب كل كنيسة "بِرْكة" صغيرة ينزل إليها المعتمد بدرج ثمّ يصعد منها بدرج آخر من الجهة المقابلة، كما نرى ذلك في كنيسة مار سمعان العمودي بالقرب من حلب. في هذا الموضوع يقول القديس كيرلّس الأورشليمي:
"واقتُدْتم بعد ذلك إلى البركة المقدّسة للعماد الإلهي، كما حُمل المسيح من الصليب حتى القبر الذي كان قريباً (يو 19: 42)، وهو أمامكم. وسُئِل كل منكم هل يؤمن باسم الآب والابن والروح القدس، فأدليتم بهذا الاعتراف الخلاصي. ثم غطّستم في الماء ثلاث مرّات وخرجتم منه، ممثّلين بذلك دفن المسيح الذي استغرق ثلاثة أيّام".

2- صيغة العماد

في التقليد البيزنطي تستعمل في العماد صيغة المجهول: "يُعمَّد عبد الله فلان...". وفي ذلك إشارة إلى أنّ الأسرار ليست عمل الكاهن الذي يمنح السرّ، بل عمل الله نفسه بالاشتراك مع حرية المعتمد كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. في النصّ التالي يؤكّد يوحنا الذهبي الفم عمل الله في العماد:
"لكي ندرك أنّ للآب والابن والروح القدس جوهراً واحداً، أنظر كيف تمنح المعمودية: فعندما يعلن الكاهن "يعمّد عبد الله فلان باسم الآب والابن والروح القدس"، يغطس رأس المعتمد ثلاث مرّات في الماء، ثم يرفعه، مؤهّلاً إيّاه بواسطة هذه الرتبة السريّة لتقبّل سكنى الروح القدس. إذ إنّ من يلمس رأسك ليس الكاهن وحسب، بل يمين المسيح أيضاً. وهذا ما يتّضح من كلام المحتفل. فهو لا يقول: "أنا اعمّد فلاناً"، بل "يعمّد فلان"، مبيّناً بذلك أنّه ليس سوى خادم النعمة، وأنّه يعير يده وقد انتدبه الروح لهذه الخدمة. أمّا الذي يكمّل كل شيء فهو الثالوث غير المنقسم، الآب والابن والروح القدس. فالإيمان بالثالوث هو الذي يمنحنا مغفرة الخطايا، والاعتراف به ينعم علينا بالتبنّي".
"ليس الكاهن هو الذي يعمّد، بل الله الذي يمسك رأس المعتمد بقدرته غير المنظورة".

رابعاً- إرتداء الثوب الجديد

بعد العماد يلقي الكاهن على جسم المعتمد ثوبه الجديد قائلاً:
"يُلبَس عبد الله فلان ثوبَ البر+ باسم الآب والابن والروح القدس".
ويرتّل الحاضرون بالنشيد التالي:
"إمنحني ثوباً منيراً يا لابس النور مثل الثوب، أيّها المسيح الجزيل الرحمة إلهنا".
قبل العماد يخلع المعتمد ثيابه العتيقة رمزاً للتخلّي عن الإنسان العتيق، وبعد العماد يلبسه ثياباً جديدة رمزاً لولادته الجديدة وحياته الجديدة في المسيح. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
"إنّ الذين بالإيمان بالمسيح قد تحرروا من ثقل خطاياهم وخلعوها عنهم كما تُخلَع الثياب العتيقة، يرتدون ثياباً جديدة برّاقة، ثياباً ملكية. فإنّهم قد انعتقوا من الضلال واستناروا بشمس البرّ. لهذا يقول بولس: إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة، فالقديم قد اضمحلّ، وكلّ شيء قد تجدّد (2 كو 5: 17).
لذلك يرتّل بعد العماد النشيد التالي المستقى من الرسالة إلى الغلاطيين:
"أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم. هللويا" (غلا 3: 27).

البَابُ الثالِث سِرُّ الميرُون أو التثبيت

توطئة

"أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم" (غلا 3: 27).
إنّ الذين يعتمدون بالمسيح يصيرون على مثاله مسحاء. ولكنّ المسيح كان ممتلئاً من الروح القدس منذ الحبل به. إنّ بشريّته قد مُسحت بروح الألوهة منذ تكوينها في أحشاء مريم العذراء. وما حلول الروح القدس عليه بعد معموديته إلاَّ اعتلان لما هو في عمق كيانه. أمّا الذين يعتمدون بالمسيح فهم بحاجة إلى سرّ آخر يكمّل المعمودية، أي يوصلها إلى كمال معناها، ويمنح المعتمدين "ختم موهبة الروح القدس". وهذا السرّ يدعوه التقليد الشرقي سرّ "مسحة الميرون" والتقليد الغربي سرّ "التثبيت".
لا شك أنّ المعمودية تتمّ بقدرة الروح القدس، وفقاً لما جاء في كلام المسيح عن الولادة "من الماء والروح" (يو 3: 5). والأسرار كلّها تتمّ بقدرة الروح القدس، لأنّها أعمال إنسانية وإلهية في آنٍ واحد. والعنصر الإلهي فيها هو روح الله الذي يعمل فيها. ولكنّ سرّ "مسحة الميرون" هو السرّ الذي يمنح الروح القدس بنوع خاص للمعتمدين، لتكتمل فيهم صورة المسيح الممتلئ من الروح القدس والشاهد للحق في حياته وقوته.

أوّلاً- سرّ الميرون في الكتاب المقدّس

لقد رأى آباء الكنيسة رموز هذا السرّ في العهد القديم، وكمال تحقيق تلك الرموز في السيّد المسيح الذي مسحه الروح القدس بعد معموديته، وفي الرسل الذين مسحهم الروح القدس يوم العنصرة، والذين كانوا يضعون أيديهم على مَن ينالون المعمودية ليمنحوهم الروح القدس.

1- رموز الميرون في العهد القديم

يقول القدّيس كيرلّس الأورشليمي:
"يجب أن تعلموا أنّ هذه المسحة لها مثالها في العهد القديم. إذ عندما أبلغ موسى أخاه أمْرَ الله، ونصَّبه رئيس كهنة، غسله بالماء أوّلاً ثمّ مسحه (أح 8: 1- 12). ودُعي هرون "مسيحاً" بسبب هذه المسحة التي كانت رمزاً. وكذلك عندما نادى رئيس الكهنة بسليمان ملكاً، مسحه في جيحون بعد أن جعله يستحمّ (3 مل 1: 33- 39). وكلّ هذه الأمور أُجريت لهم على سبيل الرمز. أمّا لكم فلم تكن رمزاً بل حقيقة واقعية. إذ إنّ مبدأ خلاصكم يرجع إلى ذاك الذي مسحه الروح القدس. هو الباكورة حقًّا، وأنتم العجين. "وإن كانت الباكورة مقدّسة، فالعجين كلّه مقدّس" (رو 11: 16).

2- مثال السيّد المسيح

كذلك يرى القدّيس كيرلّس الأورشليمي مثال مسحة الميرون في شخص السيّد المسيح:
"إنّكم أصبحتم مُسَحاء بنيلكم ختم الروح القدس. كلّ شيء تمّ فيكم بالامتثال، بما أنّكم صورة المسيح. فعندما تعمّد المسيح في نهر الأردنّ، ومنح المياهَ ملامسة ألوهيّته، صعد منها، فحلَّ الروح القدس بذاته عليه، واستقرّ المشابه على المشابه له. وأنتم كذلك، عندما خرجتم من بِرْكة المياه المقدّسة، قبلتم مسحة الميرون، وهي الصورة الحقيقية لمسحة المسيح، وأعني بها الروح القدس الذي تحدّث عنه الطوباوي أشعيا إذ تنبّأ عنه وتكلّم على لسان الرب قائلاً: "إنّ روح الربّ عليّ، لأنّه مسحني وأرسلني لأُبشّر المساكين" (أش 61: 1؛ لو 4: 18).

3- مثال الرسل

إنّ الرسل اعتمدوا بموت المسيح وقيامته باشتراكهم الحيّ في آلام المسيح وموته وبمشاهدتهم وجهاً لوجه المسيح القائم من بين الأموات، الذي تراءى لهم وثبّت إيمانهم به، وبواسطة هذا الإيمان نقلهم من الموت إلى الحياة. تلك كانت معموديتهم. وفي هذه المعمودية مُنحوا أيضاً الروح القدس، على ما جاء في إنجيل يوحنا: "خذوا الروح القدس. فمَن غفرتم خطاياهم غُفِرَت لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسِكَت " (يو 20: 22).
إنّ الروح الذي ناله الرسل في معموديتهم يوم قيامة المسيح هو روح الإيمان والولادة الجديدة: فقد وُلدوا من جديد عندما تراءى لهم المسيح حيًّا، وكان هذا الترائي فصحهم، أي عبورهم من الشكّ إلى الإيمان، ومن اليأس إلى الرجاء، ومن الموت إلى الحياة. وتوما الرسول الذي لم يكن مع التلاميذ في الترائي الأوّل، تعمّد بدوره، عندما تراءى المسيح للتلاميذ من جديد بعد ثمانية أيام، وثبّت إيمان توما (يو 20: 26- 29).
إنّ معمودية الرسل هذه التي ملأتهم بروح الإيمان ومنحتهم حياة جديدة قد اكتملت يوم العنصرة عندما حلّ عليهم روح الشهادة، ليكرزوا بالحياة الجديدة التي اختبروها في قيامة المسيح وفي إيمانهم بهذه القيامة. وهذا معنى قول السيّد المسيح لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء:
"لا تبرحوا أورشليم، بل انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه منّي. فإنّ يوحنّا قد عمّد بالماء، أمّا أنتم فستعمَّدون بالروح القدس بعد أيام قليلة... إنّكم ستنالون قوّة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي جميع اليهودية والسامرة وإلى أقاصي الأرض" (أع 1: 4- 8).
ولمّا حلّ عليهم الروح القدس يوم العنصرة "امتلأوا كلّهم من الروح القدس، وطفقوا يتكلّمون بلغات أخرى كما آتاهم الروح أن ينطقوا" (أع 2: 1- 4)، وراحوا يبشّرون بقيامة المسيح، ويكرزون بأنّ الله، إذ أقام يسوع، أعلن أنّه هو المسيح والرب والمخلّص (أع 2: 36، 38).
ويروي سفر أعمال الرسل حدثين يظهر من خلالهما وجود سرّ آخر يكمّل المعمودية ويمنح الروح القدس للشهادة بالمسيح.

أ) منح الروح القدس للّذين اعتمدوا في السامرة

الحدث الأوّل هو ذهاب الرسل إلى السامرة لوضع الأيدي على الذين عمّدهم فيلبّس الشمّاس:
لمّا آمنوا بما كان يبشّر به فيلبّس عن ملكوت الله واسم يسوع المسيح، أخذوا يعتمدون رجالاً ونساء... ولمّا سمع الرسل الذين في أورشليم أنّ السامرة قد قبلت كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنّا، فانحدرا وصلَّيا لأجلهم لكي ينالوا الروح القدس، إذ لم يكن بعد قد حلَّ على أحد منهم، بل كانوا قد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع، عندئذٍ وضعا أيديهما عليهم فنالوا الروح القدس" (أع 8: 12- 17).
إنّ منح الروح القدس بواسطة وضع أيدي الرسل بعد معمودية قام بها شمّاس يبيّن الأهمية الكبرى التي كانت الكنيسة الأولى تعلّقها من جهة على دور الروح القدس لإكمال المعمودية، ومن جهة أخرى على دور الرسل في المحافظة على وحدة الكنيسة بمنحهم هم أنفسهم الروح القدس الواحد لجميع المعتمدين.

ب) بولس الرسول وتلاميذ أفسس

الحدث الثاني هو لقاء بولس مع بعض التلاميذ في أفسس:
"فقال لهم: هل نلغ الروح القدس لمّا آمنتم؟ فقالوا له: بل ما سمعنا بأنّه يوجد روح قدس. فقال: بأيّ معمودية إذن اعتمدتم؟ قالوا: بمعمودية يوحنا. حينئذٍ قال بولس: إنّ يوحنا قد عمّد بمعمودية توبة، وكان يقول للشعب ليؤمنوا بالذي يأتي بعده، أي بيسوع. فلمّا سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع. وإذ وضع بولس يديه عليهم حلَّ الروح القدس عليهم فطفقوا ينطقون بلغات ويتنبّأون" (أع 19: 2- 6).
هنا أيضاً يبدو بوضوح أنّ "المعمودية باسم الرب يسوع" يعقبها "وضع اليد" و"حلول الروح القدس" على المعتمدين. وهذا الروح القدس يمنح المعتمدين نعمة خاصّة هي "النطق بلغات التنبّؤ"، أي الشهادة للمسيح.

ثانياً- سرّ الميرون في تاريخ الكنيسة وتعليم الآباء

نرى منذ القرون الأولى وفي مختلف الكنائس في الشرق والغرب وجود رتبة خاصة تلي العماد بالماء وتقوم تارة على وضع اليد وتارة على المسح بزيت خاص ممزوج بعطور (يدعى باليونانيّة ميروناً)، وفي معظم الأحيان على الاثنين معاً.

1- في الشرق

فالقدّيس كيرلّس الأورشليمي يكرّس إحدى عظاته التي تعود إلى حوالى سنة 348 لتفسير سرّ مسحة الميرون، ولكنّه لا يذكر وضع اليد.
والقوانين الرسولية التي كتبت في سورية حوالى سنة 380 تتكلّم عن "مسحة بالميرون وقوم بها الأسقف على الذين اعتمدوا" (الكتاب الثالث، 16). وفي الكتاب السابع، نقرأ:
"تَمسح أوّلاً بالزيت المقدّس، تمّ تُعمِّد بالماء، وتُنهي بختم الميرون، لتكون المسحة اشتراكاً في الروح القدس، والماء رمز الموت، والميرون ختم الالتزام".
وينقل إلينا كتاب عهد الرب تقليد كنيسة أنطاكية في القرن الخامس. فيتكلّم عن مسحتين بعد العماد: مسحة أولى يقوم بها الكاهن، ومسحة ثانية يقوم بها الأسقف بعد صلاة يتلوها على المعتمدين وهو واضع يده عليهم:
"بعد ذلك، عندما يصعد (المعتمد) من المياه، يمسحه الكاهن بالزيت الذي تلي عليه الشكران، قائلاً عليه: أمسحك بالزيت، باسم يسوع المسيح. أمّا النساء، فتمسحهنّ الأرامل اللواتي لهنّ حق الصدارة، بينما يتلو الكاهن عليهنّ الصلاة...
حينئذٍ يجتمعون معاً في الكنيسة، ويضع الأسقف اليد عليهم، بعد العماد، قائلاً داعياً عليهم هكذا: أيها الرب الإله، يا مَن ملأ رسله القدّيسين من الروح القدس، بواسطة ابنه الحبيب يسوع المسيح، وأمر أنبياءه المغبوطين أن ينطقوا بواسطة الروح؛ يا من، بواسطة مسيحه، أهَّل عبيده هؤلاء لغفران الخطايا بغسل الميلاد الثاني، ونقّاهم من كل ضباب وظلمة الكفر، أهِّلهم، بمحبتك للبشر، أن يمتلئوا من روحك القدّوس، فتمنحهم نعمتك ليخدموك حقاً حسب مشيئتك، يا ألله، ويعملوا بوصاياك بنقاوة...
كذلك عندما يسكب الأسقف الزيت وهو واضع اليد على رأس المعمَّد، يقول: أمسحك مسحاً في الله الضابط الكلّ وفي المسيح يسوع وفي الروح القدس، لتكون له جنديًّا ذا إيمان كامل، وإناء يَحسُن له. وعندما يختمه بين عينيه، يعطيه السلام قائلاً: الرب إله المتواضعين يكون معك. والمختوم يجيب قائلاً: ومع روحك. وهكذا يفعل كلّ بمفرده".
إنّ العبارة التي تستعمل اليوم في الطقس البيزنطي "ختم موهبة الروح القدس"، والتي ترافق مسحة الميرون نجد ذكرهـا في أواسط القرن الخامس في رسالة من القسطنطينيّة إلى مرتيريوس بطريرك أنطاكية.
في مصر، يميّز أيضاً خولاجي القديس سيرابيون، أسقف تاميس (+ 350)، بين المسحة بالزيت التي تسبق المعموديّة، ومسحة الميرون التي تلي المعموديّة. وتطلب صلاة الميرون الى الله أن يُتمّ عمله الالهيّ في الميرون "حتّى يصبح المعمّدون الذين يُمسَحون به مطبوعين بعلامة الصليب الخلاصيّ... ويشتركون في موهبة الروح القدس، ويظلّوا، بعد تثبيتهم بهذا الختم، ثابتين غير متزعزعين، بلا خطيئة ولا لوم".
قد أكّد الشرق على الدوام وحدة سرّي المعموديّة والميرون ومنحه في رتبة واحدة، وإن كان هناك تردّد في القرون الأولى لتحديد طريقة منح سرّ الميرون. ففي بعض المخطوطات السريانيّة التي تعود إلى ما قبل القرن الرابع لا نجد ذكرًا لمسحة بالميرون تلي المعموديّة، بل يُكتفى بذكر وضع اليد وختم الصليب على جبهة المعمَّد. ويبدو أنّ الكنيسة السريانيّة الشرقيّة (أي الأشورية) لم تُدخل المسح بالميرون إلاّ في القرن السابع.
وتظهر هذه المسحة في المخطوطات المارونيّة والسريانيّة، وهي مرفقة بالصيغة التالية: "بالميرون المقدّس، رائحة المسيح الإله الذكيّة، وختم ورسم الإيمان الحق وكمال مواهب الروح القدس، يوسم (فلان) باسم الآب والابن والروح القدس للحياة الأبدية".

2- في الغرب

يتكلّم ترتليانوس عن مسحة تلي العماد وتشير إلى التماثل بين المعتمد والمسيح الذي مسحه الآب. ثمّ تنتهي الرتبة بصلاة يتلوها الأسقف وهو واضع يده على رأس المعتمد ثمّ ببركة المعتمد مع رسم الصليب على بهته. وهذه الرتبة التي تلي المسحة تهدف، حسب ترتليانوس، إلى منح الروح القدس للمعتمد ليستقرّ فيه. فكأنّ المسحة مرتبطة بالعماد، وصلاة استدعاء الروح القدس مع وضع اليد والوسم بالصليب هي رتبة سرّ التثبيت.
نجد أيضاً ذكراً واضحاً لسرّ التثبيت في كتاب التقليد الرسولي الذي وضعه الكاهن الروماني هيبوليتوس حوالي سنة 215 باليونانيّة. يعكس هذا الكتاب تقليد كنيسة رومة وربما أيضاً تقليد كنيسة الاسكندرية.
فبعد العماد يذكر الكتاب مسحة يقوم بها الكاهن، ومسحة أخرى يقوم بها الأسقف بعد صلاة وضع اليد:
"عندما يصعد (المعتمد) من الماء، فليمسحه الكاهن بزيت الشكر قائلاً: إنّي أمسحك بالزيت المقدّس باسم يسوع المسيح. وبعد ذلك يلبسون ثيابهم، ثمّ يدخلون الكنيسة. ويجعل الأسقف يده عليهم ويصلّي قائلاً: أيّها الربّ الإله، الذي جعل هؤلاء مستحقين غفران الخطايا بغسل الولادة الثانية، إجعلهم مستحقين أن يمتلئوا من الروح القدس. وأرسل عليهم نعمتك ليخدموك حسب إرادتك. لأنّ لك المجد أيها الآب والابن والروح القدس في الكنيسة المقدّسة، الآن وإلى دهر الداهرين. آمين.
وبعد ذلك، فليسكب في يده من زيت الشكر، ويسكب على رأس كل واحد منهم قائلاً: إنّني أمسحك بالزيت المقدّس باسم الله الآب الضابط الكلّ، والمسيح يسوع (الابن الوحيد)، والروح القدس".
لقد كان سرّ التثبيت في الكنيسة الغربيّة مندمجاً في رتبة واحدة مع المعمودية، كما في الكنيسة الشرقيّة. ولم يتمّ فصله إلاَّ تدريجياً ابتداء من القرن الرابع. أمّا سبب هذا الفصل فهو امتداد الكنيسة وكثرة الارتدادات والعمادات، ولا سيّما عمادات الأطفال، وتكوّن الرعايا المتعدّدة في الأبرشيّة الواحدة. ففي الشرق حافظت الكنيسة على وحدة السرَّين، إلاَّ أنّها أعطت الكهنة سلطة منح الميرون حالاً بعد المعمودية، على أن يستعملوا الميرون الذي يكرّسه البطريرك أو الأسقف. ولا تزال اليوم كنائس الشرق تسير على هذا التقليد. ففي خطر الموت، يمكن منح المعمودية منفصلة عن الميرون، وحتى عن يد علماني، إذا تعذّر وجود كاهن. ولكن، إذا عاد هذا الشخص المعمّد إلى الحياة، لا يُمنَح سرَّ الميرون منفصلاً، بل بمناسبة معمودية شخص آخر.
أمّا في الغرب ففصلت الكنيسة بين السرَّين: فسرّ المعمودية يمنحه الكاهن، وسرّ التثبيت يمنحه الأسقف، على قدر ما يتيسّر له زيارة رعاياه، في رتبة خاصة منفصلة عن المعمودية؛ سرّ المعمودية يُمنَح للأطفال، فيما سرّ التثبيت يُمنَح للأولاد متى بلغوا سنّ الرشد.
في المجمع الفاتيكاني الثاني، يقول الدستور العقائدي في الكنيسة "إنّ الأساقفة هم خَدَمَة سرّ التثبيت الأصيلون" (رقم 26).
وفي المرسوم "في الكنائس الشرقيّة" يقول:
"إن المجمع المسكوني يثبّت ويقرّر نظام الأسرار القديم الساري في الكنائس الشرقيّة، والطريقة المتّبعة في القيام بها ومَنْحها. ويتمنّى الرجوع إلى هذه الطريقة حيث تقضي الحال بذلك.
ثمّ ينبغي الرجوع كليًّا إلى النظام الذي سار عليه الشرقيّون، منذ الأزمنة القديمة جدًّا، في ما يتعلّق بخادم سرّ الميرون المقدّس. فيحق إذاً للكهنة أن يمنحوا هذا السرّ مستعملين فيه الميرون الذي يباركه البطريرك أو الأسقف" (رقم 12- 13).

ثالثاً- رتبة سرّ الميرون

1- في الطقس البيزنطي

تشمل رتبة هذا السرّ في الطقس البيزنطي قسمين: صلاة يتلوها الكاهن وهو واضع يده على رأس المعتمد، ثمّ مسح المعتمد بالميرون المقدّس.

أ) صلاة استدعاء الروح القدس

"مبارك أنت أيّها الرب القدير، ينبوع الخيرات وشمس العدل؛ يا من أظهر للذين في الظلمة نور الخلاص بظهور ابنه الوحيد إلهنا، ومنحنا نحن غير المستحقّين التنقية السعيدة بالماء المقدّس، والتقدير الإلهي بالمسحة المحيية؛ يا مَن سُرَّ الآن أيضاً بأن يُجدَّد ميلادُ عبده المستنير حديثاً بالماء والروح، ومنحه غفران الخطايا الاختياريّة وغير الاختياريّة.
أنت أيّها السيّد ملك الكل الجزيل التحنّن، هب له أيضاً ختم موهبة روحك القدّوس القدير والمسجود له، وتناول جسد مسيحك المقدّس ودمه الكريم. واحفظه في قداستك، ثبِّته في الإيمان القويم، ونجِّه من الشرير ومن جميع أخلاقه. أحرس نفسه بمخافتك الخلاصية في الطهارة والبرّ، حتى يرضيك في كل عمل وقول، فيصير ابناً ووارثاً لملكوتك السماوي.
لأنّك أنت يا إلهنا إله الرحمة والخلاص، وإليك نرفع المجد، أيّها الآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين"

ب) المسح بالميرون المقدّس

ثمّ يمسح الكاهن المعتمد بالميرون المقدّس بشكل صليب على جبهته، وعينيه، ومنخريه، وفمه، وأُذُنيه، وصدره، ويديه، ورجليه، قائلاً على كل مسحة: ختم موهبة الروح القدس. آمين.

2- في الطقس الماروني

أمّا في الطقس الماروني، فيتلو أوّلاً الكاهن الصلاة التالية وهو واضع يده على رأس المعتمدين:
"أللهمّ، يا من أعطى الأرضيين الكهنوت ليتنقّوا به، وأقام البشر على الأرض بدرجة أرفع من درجة الملائكة، أنت أيها الإله الرحيم، المملوء كنزك كلّ خير ولذّة لمن يدعوك، أبسط يمين تحنّنك مع يميني أنا الخاطئ، وبارك هؤلاء الساجدين لك، الذين يُمسَحون بهذا الميرون المقدّس. ضع فيه ينابيع المعونة لأجسادهم، وليكن غافراً وحافظاً ومقدّساً ومقوّياً لنفوسهم، لأجل اسمك الحيّ الذي دُعي عليهم، أيّها الآب والابن والروح القدس، لك المجد إلى الأبد. آمين".
ثمّ يسم الكاهن المعتمد على جبهته بالميرون المقدّس بشكل صليب ثلاث مرّات وهو يقول:
"بميرون المسيح الإله، رائحة الإيمان الحق العذبة، طابع دمك نعمة الروح القدس، يُطبَع عبد الله... باسم الآب والابن والروح القدس. آمين".
ثمّ يقول لجميع المتثبّتين:
"ها قد لبستم الآب الحيّ، وأخذتم الابن المسيح، واتّشحتم بالروح القدس، وقبلتم حلّة المجد التي خلعها آدم".
ثمّ يَسِم المثبّتين بالصليب قائلاً:
"ثبِّت يا رب عبيدك هؤلاء في قداسة النفس والجسد. كمّلهم بموهبة الروح القدس. وطِّد نفوسهم في سبُل وصاياك المحيية، لكي يؤَهَّلوا للتنعّم بلذّة التبنّي ولميراث الملكوت السماوي، أيّها الآب والابن والروح القدس، لك المجد إلى الأبد. آمين".

3- مادة سرّ مسحة الميرون

إنّ مادّة هذا السرّ هي الميرون، أي زيت الزيتون الممزوج بعطورات متنوّعة (يصل عددها حسب التقليد البيزنطي إلى 57). وهذا الميرون يباركه البطريرك يوم خميس الأسرار في رتبة خاصة، ثمَّ يوزّعه على جميع أساقفة بطريركيّته وكهنتها، وفي ذلك إشارة إلى وحدة الكنيسة ووحدة الإيمان ووحدة الشهادة.
أمّا "وضع اليد" الذي هو العلامة التقليديّة لمنح الروح القدس، فيرافق الصلاة، وهو أيضاً متضمّن في المسحة نفسها على شكل صليب.

رابعاً- أبعاد سرّ الميرون ومعانيه

يدعى هذا السرّ في التقليد الشرقي "مسحة الميرون"، وفي التقليد الغربي "التثبيت". وفي كل من هذين الاسمين نجد بُعداً أساسياً من أبعاد هذا السرّ ومعانيه. فالميرون يمنح "ختم موهبة الروح القدس"، ويهدف إلى "التثبيت في الإيمان"، ويجعل من المسيحي "مسيحاً" آخر، ويُشركه في كيان السيّد المسيح ووظائفه.

1- ختم موهبة الروح القدس

إنّ المعنى الأوّل لسرّ الميرون هو أنّه يمنح الروح القدس للمعتمد، على مثال السيّد المسيح الذي حلَّ عليه الروح القدس فور صعوده من مياه الأردن.
ومنح الروح القدس يتمّ بواسطة الميرون الذي يصير بعد تقديسه حاملاً الروح.
وهذا ما تشير إليه صلاة تقديس الميرون التي تشبه استدعاء الروح القدس على الخبز والخمر ليصيرا جسد المسيح ودمه:
"يا ربّ الرحمة وأبا الأنوار... أرسل روحك الكليّ قدسه على هذا الميرون، واجعله مسحة ملوكية، مسحة روحية، حفظاً للحياة، تقديساً للنفوس والأجساد، زيت الابتهاج... اجعله بحلول روح قدسك المسجود له رداء عدم الفساد، وختماً كاملاً راسماً في المتقبّلين حميمك الإلهي تسميتك المكرّمة واسم ابنك الوحيد وروح قدسك المحيي،... لكي يصيروا بختم هذا الميرون الطاهر شعباً خاصاً، كهنوتاً ملوكياً، أمَّة مقدّسة، ويكونوا حاملين مسيحك في قلوبهم لسكناك أيّها الآب بالروح القدس إلى الدهور".
يقول إفدوكيموف:
"إنّ ما يحلّ على المعتمد في هذه المسحة ليس فقط قدرة صادرة عن الروح القدس، كما في الصلاة اللاتينيّة، بل هو المسيح في الروح، إنّه مجيئه ليمنح لنا ذاته".
هذا ما يقوله القدّيس كيرلّس الأورشليمي:
"حذارِ أن تظنّ أنّ الزيت المقدّس ليس إلاَّ زيتاً. لأنّه كما أنّ خبز الإفخارستيّا بعد استدعاء الروح القدس أ يعد خبزاً عادياً، إنّمَا صار جسد المسيِح، كذلك هذا الزيت المقدّس لم يعد، بعد الاستدعاء، زيتاً بسيطاً عادياً، ولا زيتاً مشتركاً، بل هو عطاء المسيح وقد صار بحضور الروح القدس، مانحاً لاهوته. بهذا أريت مُسحت سرّيًّا علما جبينك وسائر حواسّك. وفي الوقت الذي يُمسَح فيه جسدك بالزيت المنظور، تُقدَّس نفسك بالروح القدس المحيي".
إنّ ما يحلّ في قلب المسيحي من خلال مسحة الميرون هو، حسب الآباء الشرقيين، الروح القدس نفسه، أي الحياة الإلهيّة غير المخلوقة. فعبارة "موهبة الروح القدس" لا تعني الموهبة التي تأتي من الروح القدس، بل "الوهبة التي هي الروح القدس". إنّ هبة الله المبشّر، أو نعمة الله، حسب الآباء الشرقيين، هي الروح القدس نفسه. فالواهب هو نفسه الموهبة، والمعطي هو نفسه العطيّة. وهذه النظرة إلى الإنسان هي في أساس عقيدة "التألّه" التي بنى عليها الآباء الشرقيون كل نظرتهم اللاهوتيّة والروحيّة.

2- التثبيت في الإيمان والقداسة

"إحفظه في قداستك، ثبِّته في الإيمان القويم، نجِّه من الشرير ومن جميع أخلاقه، أحرس نفسه بمخافتك الخلاصيّة في الطهارة والبرّ، حتى يرضيك في كل عمل وقول".
هذا ما تقوله صلاة وضع اليد قبل المسحة بالميرون. بالميرون ينتقل الإنسان من حالة الخطيئة إلى حالة القداسة وحالة الإيمان. وبالميرون يُحفَظ في القداسة ويثبَّت في الإيمان. نعمة المعمودية تشمل كيان الإنسان، ونعمة الميرون تشمل عمله. إنّ صورة المسيح التي ينالها المعتمد بالمعمودية تصير فاعلة بقدرة الروح القدس الذي يناله في مسحة الميرون.
يقول كاباسيلاس عن التكامل بين المعمودية والميرون:
"هذه الولادة الروحية وهذا التجديد بالمعمودية يستدعيان أفعالاً ونشاطات تتناسب معهـا. فالمسحة هي التي تعطي هذه الأفعال، وتجعل القوى الروحيّة كلّ القول، في حركة وفقاً لقابليّة الفاعل، وتعطي المعتمدين النتيجة التي كانت تُعطى بواسطة وضع الأيدي على المستنيرين حديثاً من قِبَل الرسل: "بوضع أيدي الرسل يُعطى الروح القدس" (أع 8: 18). وهكذا ينزل المعزّي في أيامنا على المثبَّتين"
لذلك يمكننا القول إنّ مسحة الميرون هي "عنصرة" المعتمدين. فكما أنّ الرسل بعد أن آمنوا بقيامة المسيح حلَّ عليهم الروح القدس يوم العنصرة وثبَّتهم في الإيمان، وراحوا يبشّرون بالمسيح القائم من بين الأموات وبكلّ تعاليمه، هكذا المسيحي، بالمعمودية يشترك في قيامة المسيح، وبمسحة الميرون يُختَم بموهبة الروح القدس، فتصير أعماله كلّها شهادة لإيمانه.
لذلك لا تُمنَح مسحة الميرون فقط على جبين المعتمد بل على كل أعضاء جسده، ليصير الإنسان مختوماً بختم الروح القدس في كلّ كيانه وكلّ أعماله. في هذا يقول القدّيس كيرلّس الأورشليمي:
"لقد مُسحتم أوّلاً على الجبين، لكي تتحرّروا من وصمة العار التي كان يحملها في كل مكان الإنسان الأوّل العاصي، ولكي تعكسوا بوجهكم المكشوف كما في مرآة مجدَ الرب" (2 كو 2: 15).
ثمّ على الأُذُنين، لكي تحصلوا على آذان تسمع الأسرار الإلهيّة، وهي التي قال عنها أشعيا: "أعطاني الرب أُذُناً للسمع" (أش 50: 4)، والرب يسوع في الإنجيل: "مَن كان له أُذُنان للسماع فليسمع" (متى 11: 15).
ثمّ على المنخرين، حتى إذا تنشّقتم العطر الإلهي، تستطيعون أن تقولوا مع بولس الرسول: "إنّا، لله، نفحة المسيح الطيّب" (2 كو 2: 15).
ثمّ على الصدر، لكي تتمكّنوا، وقد لبستم درع البرّ، من محاربة حِيَل إبليس. فكما أنّ المخلّص، بعد عماده وحلول الروح القدس عليه، حارب رئيس الظلام وانتصر عليه، كذلك أنتم، بعد العماد المقدّس والمسحة السرّية، وبعد أن تسلّحتم بسلاح الروح القدس، قاوموا قوّة الشرّ وحاربوها قائلين: "إنّي أستطيع كلّ شيء في الذي يقوّيني" (في 4: 13).

3- الاشتراك في كهنوت المسيح الملوكي

في العهد القديم كانت مسحة الروح القدس محصورة في الملوك والكهنة والأنبياء. أمّا في العهد الجديد، فالمسحة تشمل جميع المسيحيين، لأنّهم باعتمادهم يصيرون واحداً مع المسيح الذي جمع في ذاته رسالة الملوك والكهنة والأنبياء. فالمسيحي الذي يعتمد ويُمسَح بالميرون المقدّس يشترك في رسالة المسيح الثلاثيّة هذه ويصير معه ملكاً وكاهناً ونبيًّا، على ما تشير إليه صلاة تقديس الميرون:
"أيّها المخلّص الذي أعطى نعمته للأنبياء والملوك والكهنة، امنحها أيضاً بواسطة هذا الميرون للذين سيُمسَحون به".

أ) الاشتراك في الخدمة الملوكية

لمَ يقول القدّيس غريغوريوس النيصي: "النفس تظهر كرامتها الملوكية في السيطرة الحرّة على رغائبها. إنّ السيادة على كل شيء هي أن خصائص الطبيعة الملكية".
بنعمة مسحة الميرون، يستطيع الإنسان أن يتحرّر من استعباد الشهوة والخطيئة، ويصير إنساناً روحيًّا، أي خاضعاً لإلهامات الروح القدس، ويعمل على أن يتشرّب العالمُ روح المسيح، على ما علّم المجمع الفاتيكاني الثاني:
"إنّ المسيح... قد آتى تلاميذه هذا السلطان لكي يكونوا هم أيضاً مُقامين في الحرية الملكية، فينتزعوا، بإنكار أنفسهم وقداسة حياتهم، سلطان الخطيئة فيهم... وعلى المؤمنين، من خلال أعمالهم الزمنيّة أيضاً، أن يتعاونوا في سبيل حياة أقدس، لكي يتشرّب العالم روح المسيح، ويدرك، بفعالية أوفر، غايته في البرّ والمحبة والسلام"

ب) الاشتراك في الخدمة الكهنوتية

يقول بولس الرسول في رسالته إلى الرومانيين:
"أُحرّضكم أيّها الإخوة، بمراحم الله، أن تقرّبوا أجسادكم ذبيحة حيّة، مقدّسة، مرضية لله. تلك هي العبادة النبيّ يقتضيها العقل منكم. ولا تتشبّهوا بهذا العالم، بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد عقلكم، لكي يتهيّأ لكم أن تميِّزوا ما مشيئة الله، وما هو صالح، وما يرضيه، وما هو كامل" (12: 2).
المسيحي يمارس كهنوته بتقديم ذاته ذبيحة حيّة. وأوريجانوس يربط نعمة مسحة الميرون بهذه التقدمة الكهنوتيّة، فيقول:
"كلّ الذين تشرّبوا مسحة الميرون المقدّس صاروا كهنة... كلّ منهم يحمل في ذاته ذبيحته. وهو نفسه يضع النار على الهيكل... لكي يذوب على الدوام. عندما أتخلّى عن كلّ ما أملك، وأحمل صليبي وأتبع المسيح، فإنّي بذلك أُقدّم ذبيحة لهيكل الله؛ عندما أبذل جسدي... وأحبّ إخوتي حتى إني أعطي ذاتي لأجلهم، عندما أحارب حتى الموت في سبيل العدالة والحقّ، عندما أُميت ذاتي... عندما يُصلَب العالم لي وأنا أُصلَب للعالم، فإني بذلك أُقدّم ذبيحة هيكل الله، وأصير أنا كاهن ذبيحتي الخاصة". 
والقدّيس غريغوريوس النزينزي يصف الموقف الليتورجي الصحيح بقوله: "لا أحد يستطيع أن يشترك في الذبيحة ما لم يقدّم أوّلاً ذاته ذبيحة".
ثمّ إنّ حياة المسيحي تصير كلّها تقدمة كهنوتية عندما يعمل على "أن يرضي الله في كل عمل وقول"، كما تقول صلاة وضع اليد قبل مسحة الميرون.
هذا ما يبيّنه المجمع الفاتيكاني الثاني في النصّ التالي: "إنّ المسيح الرب، الحبر المأخوذ من بين الناس (عب 5: 1- 5)، قد جعل من الشعب الجديد "ملكوتاً وكهنة لأبيه" (رؤ 1: 6؛ 5: 9- 10). ذلك بأنّ المعمَّدين قد تكرّسوا بالميلاد الثاني وسمحة الروح القدس لكي يكونوا مسكناً روحياً وكهنوتاً مقدّساً، ويقرّبوا بعملهم المسيحي كلّه قرابين روحية، ويعلنوا قدرة ذاك الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب (1 بط 2: 4- 10). فليقرّب إذن جميع تلاميذ المسيح أنفسهم، مواظبين على الصلاة وحمد الله، قرابين حيّة، مقدّسة، مرضيّة لله، ويشهدوا للمسيح في كل مكان، ويقيموا الدليل، في كل مطلب، على الرجاء الذي فيهم للحياة الأبدية...
إنّ المؤمنين... بسرّ التثبيت يتوثّق ارتباطهم بالكنيسة على وجه أكمل، ويؤتيهم الروح القدس قوّة خاصة، فيلتزمون من ثمّ التزاماً أشدّ بنشر الإيمان، والذود عنه بالقول والعمل، فِعْلَ شهود للمسيح حقيقيين. وباشتراكهم في ذبيحة الإفخارستيّا، منبع الحياة المسيحيّة كلّها وقمّتها، يقرّبون لله الذبيحة الإلهيّة، ويقرّبون معها أنفسهم أيضاً. وهكذا بالتقدمة والتناول يقومون جميعهم، لا في غير تمييز بل كلٌّ حسب طريقته، بقسطهم الخاص في العمل الليتورجي. وإذ يتغذّون بجسد المسيح في الجماعة المقدّسة يظهرون، بوجه حسّيّ، وحدة شعب الله التي يعبِّر عنها هذا السرّ العظيم أكمل تعبير. ويحقِّقها أروع تحقيق".

ج) الاشتراك في الخدمة النبويّة

النبيّ ليس من يتنبّأ عن أحداث المستقبل، بل من يدرك تصميم الله في العالم، ويعرف أن يقرأ إرادته من خلال الأحداث
في مملكة قيصر يرى النبيّ ما يجب فعله لإحلال ملكوت الله. إنّ وجه هذا العالم يجب أن يتجدّد ويتغيّر ليمتلئ من روح المسيح. وعلى كلّ مسيحي أن يسهم في هذا التجديد، ليس فقط بكرازته بل أوّلاً بعمله، على مثال السيّد المسيح، كما جاء في المجمع الفاتيكاني الثاني:
"إن المسيح، النبيّ الأعظم، الذي أعلن ملكوت الآب بشهادة حياته وقوّة كلمته، يتابع عمله النبوي إلى أن يتمّ ملء تجلّي المجد، وذلك ليس فقط بواسطة السلطة الكنسيّة التي تعلّم باسمه وبسلطانه، بل أيضاً بواسطة العمانيّين الذين يجعلهم من أجل ذلك عينه شهوداً بما يوليهم من حاسّة الإيمان ونعمة الكلمة (أع 2: 17- 18؛ رؤ 19: 10)، لكي تشّع قوّة الإنجيل في الحياة اليومية، العيليّة والمجتمعيّة. ويظهرون أنفسهم أبناءً للموعد عندما يستثمرون، وهم راسخون في الإيمان والرجاء، الوقت الحاضر (أف 5: 16؛ كو 4: 5)، وينتظرون في ثباتٍ المجدَ الآتي. وهذا الرجاء لا يجوز لهم أن يواروه في سرّ قلوبهم بل أن يظهروه أيضاً من خلال بُنَى الحياة العالميّة بارتداد مستمرّ، و"بمصارعتهم سلطات هذا العالم، عالم الظلمة، وأرواح الشرّ" (أف 6: 12)...
إن بعض العلمانيّين، بما لهم من وسائل، يسدّون، في بعض الخِدَم المقدّسة، مسدّ الخدّام المكرَّسين إذا فُقد هؤلاء أو ضُربوا بالعجز من جرّاء نظام مضطهد، وغيرُهم، أكثر عدداً، يبذلون أنفسهم بكل قواهم في العمل الرسولي، وإنّما على الجميع واجب الإسهام في امتداد ملكوت المسيح ونموّه في العالم".

خلاصة

المعمودية تلد الإنسان لحياة جديدة، والميرون يمنحه قوّة الروح القدس لتنمو فيه هذه الحياة وتصل إلى ملئها في واقع وجوده الشخصي والجماعي. المعموديّة تصيِّر الإنسان كائناً جديداً والميرون يتيح لهذا الكائن الجديد أن يحقّق ذاته في كل أبعاده.
إنّ الروح القدس الذي ينسكب بالميرون في قلب المسيحي المعتمد، ويملأ ثنايا جسده وروحه، يضع فيه بذور الحريّة وبذور النضج الروحي. فالمسيحي مدعو إلى أن يتمّم أعماله كلّها في الانقياد الحرّ لروح الله، حتى يبلغ بقدرة هذا الروح عينه "إلى حمالة الإنسان البالغ إلى ملء اكتمال المسيح" (أف 4: 13).
إنّ الأسرار المقدّسة هي سلسلة متّصلة تشمل مختلف مراحل حياة المسيحي. وتبدأ بسرَّين متكاملين: بالمعمودية التي تجعل الإنسان ابناً لله، وبالميرون الذي به "يرسل الله إلى قلوبنا روح ابنه ليصرخ فيها: أبّا! أيّها الآب"، مؤكّداً لنا "أنّنا لسنا بعد عبيداً بل أبناء، وورثة لله" (غلا 4: 6- 7).
إنّ الروح القدس الذي بالميرون يملأ كيان المسيحي لا يني يهمس له في أعماق قلبه ما أنعم به عليه الله ويقوده إلى سائر الأسرار. لذلك انطلاقاً من سرّ الميرون يتاح للمسيحي التقرّب إلى سائر الأسرار بحرية ومسؤولية ووعي للالتزامات الناتجة عن هذا التقرّب: فيقدّم ذاته مع السيّد المسيح في سرّ الإفخارستيّا، ويتحمّل مسؤولية ذنوبه ويتوب عن خطاياه في سرّ التوبة، ويقوى على العذاب في سرّ مسحة المرضى، ويلتزم الحب في سرّ الزواج على مثال محبة المسيح للكنيسة، ويتكرّس لخدمة شعب الله في سرّ الخدمة الكهنوتيّة.

البَابُ الرّابع سِرُّ الإفخارستيَّا