أنت هنا

 
 
 
مريميات الشهر المريمي - العذراء في شهر آب
 
 
 الموضوع الرابع: وجوه التعبّد المختلفة.

بعد ان تحدثنا عن ميّزات التعبد لمريم، راينا من الواحب ايضا، ولاكمال الصورة في هذا الموضوع، ان ناخد الابعاد الحياتية الأخرى لهذا العمل الارضي الالهي. التعبّد كما سبق وشرحنا هو طلب العبادة، هو العمل او الفعل الذي يتم وهدفه المعبود اي الله.
من هذا المنطلق فالتعبّد له عدّة وجوة، منها:
١. وجهٌ ثالوثي ومسيحي وكنائسي.
٢. كتابيّ وليتورجيّ ومسكونيّ وأنسانيّ عام.

١) وجهٌ ثالوثي ومسيحي وكنائسي. فالتعبُّد المسيحيّ هو أصلاً عبادة الآب، بالابن، وفي الرّوح. وإن كانت الكنيسة تؤدّي لمريم والقدِّيسين عبادةَ الإكرام (لا السّجود المختصّ بالله وحده)، فلأنّها تريد أن تحتفل فيهم - هم الذين تألّموا مع المسيح من خلال السرّ الفصحيّ. وإنّ لمريم، في هذا السرّ، علاقة الابنة مع الآب مصدر النّعمة والمجد، وعلاقة الأُمّ مع الابن المتجسّد فيها لخلاص البشر، وعلاقة التجسّد مع الرّوح القدس الذي أخصبها فكوَّن فيها جسد الكلمة الكلّيّ النّقاء. فهي مَسكِنَ الملك ومكان وهيكل الربّ، وتابوت العهد ومِحرابَ الرّوح القدس. وعليه، ينبغي للتعبُّد أن يكون فينا انعكاسًا لهذه العلاقة البنويّة مع الآب، ومع الرّوح، ومع الابن. ولمّا كان للعذراء مريم مكانةٌ كبرى في الكنيسة، اقتضى الأمر أن يدفعنا التعبُّد المريميّ إلى العمل الرَّسوليّ، من أجل نشر التّعليم المسيحيّ، ومساعدة الفقراء والضعفاء، واستتباب السَّلام والوفاق بين البشر، امتدادًا للعناية التي أظهرتْها مريم في الناصرة وعين كارم وقانا والجلجلة والعلّيّة.

12- للتعبُّد المريميّ الصَّحيح، أخيرًا، توجيهٌ كتابيّ وليتورجيّ ومسكونيّ وأنسانيّ عام:

أ- التوجيه الكتابيّ
ينبغي للتعبُّد المريميّ أن يتغذّى بالكتاب المقدّس الذي - من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا - يَعرض التدبير الإلهيّ للخلاص، ويحتوي على تلميحاتٍ واضحة إلى تلك التي هي أُمّ المخلِّص وشريكته. فلْنستوحِ إذًا النصوص الكتابيّة، في صلواتنا ومدائحنا المريميّة.

ب- التوجيه اللّيتورجيّ
ينبغي للممارسات المعتادة أن تراعي الأزمنة الطقسيّة، وتتناغم وإيّاها بلا عشوائيّة، وبدون "خلط شعبان برمضان". إلى ذلك، ينبغي للمتعبِّد المريميّ أن يحيا بروحانيّة الزمن الطقسيّ. هكذا مثلاً في زمن المجيء والميلاد، زمن انتظار المخلّص، ينبغي العيش بروح التفرُّغ للخدمة، والرحابة، والتجدّد، مع مريم في الناصرة وفي عين كارم... وفي زمن الصّوم، زمن تقشُّف وتوبة، ينبغي الإمتناعُ عن الأكل في الأوقات المعلومة، والحملاتُ الخيريّة للصالح العام.... وفي زمن الفصح والعنصرة، زمن الفداء ورسالة الكنيسة، ينبغي الفرحُ المسيحيّ، والإلتزامُ الرّسوليّ معها.

ج- التوجيه المسكونيّ
ينبغي للتعبُّد المريميّ أن يَعكِس هموم الكنيسة، لا سيّما إعادة الوحدة بين المسيحيِّين. التعبُّد المريميِّ هو الجامع المشترك بيننا وبين إخوتنا من الأرثوذكس، وأيضّا الأنجليكان، وحتّى والبروتستانت الذين يسبِّحون الله بكلام العذراء نفسها. فمَن غيرُ مريم التي وحّدت كل البشرية، لا يمكن أن نعمل، للوحدة التامَّة بين المسيحيِّين أولادِها، في المحبّة والحقّ، هي التي كانت، ما بين الفصح والعنصرة، رباط الوحدة والتجمّع بالنسبة إلى التلاميذ الضائعين الحائرين...

د- التوجيه الأنسانيّ
ينبغي للتعبُّد المريميّ أن يَعكِس أيضًا آمال البشر، في زمنٍ اصبح الافق ضيق والتحديات كثيرة، وامور الدين والعبادة ليست هي "لعصرنا" كما يدّعي البعض انه عصر المساواة بين الرّجل والمرأة، عصر إعتاق المرأة، وهكذا يبدو أنّ مريم ليست لعصرنا. ولكن الكنيسة بوحيٍ من الكتاب المقدس، تَعرِض مريم مثالاً للمؤمنين، مثالًا لكل انسان، لا بنَمَطِ حياتها الذي قد يكون غير مناسب الزّمن الحاضر، بل لأنّها، في حياتها اليوميّة، قد التزمت كلّيًّا وبحريّة، بمشيئة الله وإيحاءات الرّوح ورسالة المخلّص، وذلك بصفتها عذراءَ وقرينةً وأُمًّا، تلك السِّمات الثلاث المميَّزة للوضع الأُنثَويّ اليوم في "العالم الجديد". أجل، إنّ مريم هي، على حدِّ قول البابا بولس السَّادس، "المرأة التي تعكس آمال الإنسان المعاصر". هكذا مثلاً، على المرأة التي تريد أن تشارك الرَّجل في التقرير والإختيار، أن تتأمَّل في مريم التي مَنَحَتْ موافقتها الفاعلة والحرّة، ليس على حلِّ مسألة ثانويّة، بل على "حَدَثِ الأزمنة"، أي تجسُّد الكلمة. هذا وإنّ اختيار مريم الحرّ الشجاع لحال التبتُّل لم يكن منها انغلاقًا على قيم الزواج، بل كان تكريسًا كلّيًّا للحبّ الإلهيّ. ومريم الناصرة لم تكن، على كونها مستسلمةً كلّيًّا لإرادة الله، امرأةً خاضعة بخنوع، بل المرأة التي لم تخشَ أن تُعلِن بالفم الملآن أنّ الله يُنهِض المتواضعين والمظلومين، ويَحُطّ أقوياءَ العالم عن عروشهم. ومريم امرأة قويّة اختبرت الفقر والعذاب، الهرب والنّفي، الأمر الذي لا يسعه إلاّ أن يَلفِت نظر من يريد أن يساعد، بروحٍ إنجيليّة، قوى التحرّر الكامنة في الإنسان والمجتمع. هذه الأمثلة تُظهِر بوضوح أنّ شخصيَّة مريم لا تخيِّب ما في الإنسان المعاصر من ترقُّب عميق، بل هي تقدِّم له المثال الكامل لتلميذ، المسيح، أي باني المدينة الأرضيّة الزمنيّة، وإن في مسيرةٍ ناشطة نحو المدينة السماويّة الأبديّة، والدّاعي إلى العدالة المحرّرة والمحبَّة المُعيَّنة، وإن يكن، فوق كلِّ ذلك، الشَّاهد الفعّال للحبِّ الذي يبني المسيح في القلوب"....
(يتبع غدا).

 

المطران د. يوسف متى