أنت هنا
القائمة:
"القيامة" في الإيقونة... قراءة تأمليّة للإيقونات "القياميّة" الثلاث
1 – مُقدّمة تمهيديّة:
في غمرة فرحنا بقيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات، وبدخولنا الزمن "الخمسينيّ"، زمن النعمة والرجاء و"الحياة بوفرة"، نُقدّم قراءة تأمليّة "للثُلاثيّة الإيقونوغرافيّة" التي تتّصل مُباشرةً بحدث القيامة. وهي قراءة سوف تمتدّ على ثلاث مقالات، ننشرها تِباعاً في الأيام المُقبلة. أما مقالتنا هذه، فهي بمثابة مُقدّمة تمهيديّة لا بدّ منها لقراءة "الثلاثيّة القياميّة"...
لا شكّ في أن قيامة المسيح كانت الحدث الحاسم الذي أرسى تحوّلاً جذريّاً في تاريخ البشريّة، كما أنها كانت ولا تزال، الحدث الأكثر إثارة للجدل منذ حدوثها وحتى يومنا هذا، وذلك لأنها تطرح تحدّياً "إيمانيّاً – حياتيّاً" أمام الإنسان، كل إنسان... حتى ليُمكننا القول "إن ما بعد القيامة ليس أبداً كما ما قبل القيامة"، أو "ما قبل القيامة شيء، وما بعدها شيء آخر كليّاً". فبقيامته، أقام المسيح طبيعتنا البشريّة المائتة بسبب الخطيئة (التغرّب عن الله)، ووهبها حياةً جديدة من حياته، هو القائل عن نفسه "أنا القيامة والحياة"... في هذا الإطار، نقول إنه بقيامته قد أعطى مصداقيّة لمضمون كرازته كاملةً، ولا سيّما لكلامه عن قيامة الأموات وإحيائه أمواتاً بسلطانه الخاصّ، كما أيضاً لكلامه عن الحياة الأبديّة التي ستكون نصيب كل من يؤمن به. وأخيراً وليس آخراً، لكلامه عن موته شخصيّاً، ثم قيامته بسلطانه الخاصّ "لي سلطان أن أبذلها (نفسي)، ولي سلطان أن أسترجعها" (يو 10: 18). فلولا قيامة المسيح، لكانت كرازته بجملتها مُجرّد "حُلم جميل" إنتهت "كابوساً مُريعاً"...
بقيامة المسيح، لم يعد الموت ذاك "الوحش" المُتربّص بكل إنسان منذ ولادته حتى إنتهاء حياته "الترابيّة". بقيامته، لم يعد الموت مصدر قلق مُتواصل يجرّ الإنسان إلى عبادة أوثان ومُمارسات ومُعتقدات غريبة عجيبة. بقيامته، أحيا الرجاء في قلوب البشر، وأعطى معنى جديداً للحياة البشريّة. بقيامته، قال الله كلمته الأخيرة النابعة من محبّته للبشر، محبّة وصلت إلى أقصاها، "حتى الموت" كما يُقال شعبيّاً (أنا بموت فيك). فالله "مات فينا"، لكي نحيا فيه...
لن ندخل في مُطالعة لاهوتيّة حول "القيامة"، بل نكتفي بالقول إنها موضوع إيمان نابع من إختبار حيّ لشخص حيّ، هو "القائم من بين الأموات". في هذا الإطار، لم يكن "القبر الفارغ" دليلاً قاطعاً على قيامة المسيح، بل بالعكس قد يُستخدَم كدليل على "سرقة الجسد" (كما روّج صالبوه، وكما إعتقدت مريم المجدليّة نفسها). لكن السيّد قد "حضر" (ظهر) وسط تلاميذه، ولمريم المجدليّة وآخرين... إنه "الحاضر" وسط الغياب (الظاهريّ)، وقد قام ليكون "حاضراً" معهم (ومعنا) إلى الأبد. وهو قد أظهر نفسه بطريقته الخاصّة لكي يتعرّفوا إليه، هم الذين لا يزالون "تُرابيّين" خاضعين لمقاييس هذا العالم (من زمنيّة ومكانيّة)... وقد دوّن الإنجيليّون الأربعة، كلٌ من زاويته، رواية أحداث "اليوم الأول من الأسبوع" وإختبارهم "للقائم من بين الأموات".
بناءً على ذلك، وبما أن موضوع مقالتنا هو "القيامة من خلال الإيقونة"، لا بدّ من التذكير بأن الإيقونة ترتكز في الأساس إلى النصوص الكتابيّة... فكما أن الأناجيل كُتبت بهدف لاهوتيّ تعليميّ، وبالإرتكاز إلى إختبار الرسل "للحيّ القائم من بين الأموات"، كذلك الإيقونة ترتكز إلى إختبار هؤلاء وإختبار الكنيسة، لتوصِل لنا الفكرة اللاهوتيّة بشكل منظور. بذلك، تكون الإيقونة أداة أخرى للكرازة، تعمل على مُخاطبة حاسّة البصر عندنا، من أجل أن "نرفع قلوبنا إلى العلاء"، من "البشريّ" إلى "الإلهيّ"، ومن "الأرضيّ" إلى "السماويّ"، ومن "الزمنيّ" إلى "الأبديّ"... فإننا إلى هذا "الإرتفاع" مدعوّون.
نبدأ بالتأكيد أنه في الفنّ الإيقونوغرافيّ البيزنطيّ (التقليديّ على الأقل)، لا توجد أيّة إيقونة تُصوّر لنا المسيح لحظة قيامته وخروجه من القبر (كما هو شائع في الإيقونات والصوَر الغربيّة)، وذلك تماشياً مع النصوص الإنجيليّة التي لا تأتي أبداً على وصف تلك اللحظة، لأن تلك اللحظة هي (1) من أسرار وخصوصيّات ربنا، و(2) لم يكن أحد شاهداً عليها في الأساس... لذلك، ليست هناك أيّة إيقونة ل"فعل القيامة" بالمعنى الحرفيّ للكلمة، بل إيقونات تتمحور حول حدث "القيامة" وشخص "القائم".
في هذا السياق، نجد في الفنّ الإيقونوغرافيّ البيزنطيّ، ثلاث إيقونات رئيسيّة تتمحور حول حدث قيامة المسيح، ويُكمّل بعضها بعضاً، ألا وهي: (1) "الإنحدار إلى الجحيم"، (2) "حاملات الطيب عند القبر الفارغ"، و(3) "ظهور السيّد لمريم المجدليّة" (التي ظنّت أنه البستانيّ)... الأولى تستند إلى تقليد كان سائداً عن مصير النفس البشريّة بعد الموت الجسديّ (فكرة "الجحيم" = مثوى الأموات)، والذي نرى أصداء عديدة له تتردّد منذ "العهد القديم" وصولاً إلى "العهد الجديد" والكتابات الآبائيّة. والإثنتان الأُخرَيان تستندان صراحةً إلى الروايات الإنجيليّة المتعلّقة بأحداث صباح ذلك اليوم، "الأول من الأسبوع"...
وبالعودة إلى نصوص هذه الروايات (عند الإنجيليّين الأربعة)، نلاحظ أن البعض وجد القبر فارغاً (النسوة أولاً، ثم بطرس ويوحنا)، ومنهم من تلقّى بُشرى القيامة من الملاك الجالس على الحجر المُدحرَج (النسوة)، ومنهم من إلتقى ب"القائم من بين الأموات" (مريم المجدليّة أولاً، ثم التلاميذ بشكل متفرّق وجماعيّ)... لذلك، فإن شهادة من نُسمّيهم ب"شهود العيان" (التلاميذ ومريم المجدليّة)، مُرتكِزة إلى لقائهم ب"الحيّ القائم من بين الأموات"، الذي أظهر ذاته لهم بإرادته، وليست مُرتكِزة إلى رؤيته "لحظة خروجه من القبر". فالإيمان بالقيامة هو ثمرة إختبار حضور شخص "القائم من بين الأموات" في حياة الإنسان أو وسط الجماعة. فتأتي الإيقونة لتبني على النصوص الإنجيليّة، وتُترجِم هذا الإيمان بالأشكال والألوان، وجُلّ همّها أن تُدخِلنا في السرّ العظيم الذي تجلّى في صبيحة ذلك اليوم.
نختم هذه المُقدّمة التمهيديّة بالتذكير بأن "الثلاثيّة القياميّة" سوف تُنشَر تباعاً في الأيام المُقبلة، راجين من قرّائنا الأحبّاء أن يذكرونا في صلواتهم، لا سيّما في "هذا الموسم البهيّ السَنيّ"...
"المسيح قام – حقاً قام"
ملاحظة: الإيقونات الثلاث أدناه تنتمي إلى إحدى مجموعات إيقونات دير "ستافرونيكيتا" (جبل آثوس – اليونان)، وهي تُنسَب إلى "ثيوفانيس الكريتيّ" من القرن السادس عشر.
بقلم توفيق ناصر (خريستوفيلوس)