أنت هنا
القائمة:
الأحد 28 حزيران 2020
الأحد الرابع بعد "العنصرة" – أحد "شفاء غلام قائد المئة"
نقرأ فيه الإنجيل بحسب متى (متى 8: 5-13)، وفيه يشفي الربّ يسوع غلام قائد المئة، الذي جاءه مُظهراً إيماناً كبيراً بشخصه، يفوق إيمان "أبناء الموعد".
مُلخّص عبرة إنجيل اليوم:
* يسوع ينظر إلى كلّ منا كإنسان (على صورة الله ومثاله)، وليس بحسب إنتمائنا، أيّاً كان.
* الإيمان هو مركز (أو قلب) العلاقة مع الله، هو كل ما يطلبه الله إلى الإنسان.
* الإيمان أساسيّ في الحياة الملكوتيّة لدرجة قلب المقاييس، فكثيرون أوّلون يُصبحون آخِرين، وآخِرون يُصبحون أوّلين.
************************************************
أولاً – مُقدّمة لإنجيل اليوم:
يحسن بنا أن نتذكّر دوماً أن الإنجيل بحسب متى، الذي نحن بصدد قراءته في زمن "العنصرة"، قد كُتِب أصلاً إلى جمهور مسيحيّ "مؤمن حديثاً" من أصل يهوديّ Judéo-Chrétien (يتكلّم الآراميّة)، كان لا يزال متشرّباً من الشريعة الموسويّة والنبوءات، كما أيضاً من العادات والتقاليد الإجتماعيّة القديمة... وكان الهدف الرئيسيّ للكاتب المُلهَم من كتابة إنجيله، إظهار أن يسوع الناصريّ الذي "ظهر إنساناً نبيّاً مُقتدِراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب" (لو 24: 19)، والذي مات على صليب العار ثم قام في اليوم الثالث، هو فعلاً المسيح الذي سبق الله ووعد به شعبه على لسان الأنبياء. وتحتلّ فكرة "ملكوت السماوات" محور كرازته، كما سبق الأنبياء وتكلّموا عنه ووصفوه... لذلك، سُمّيَ إنجيل متى عن حقّ ب"إنجيل ملكوت السماوات".
لكن فكرة أساسيّة سوف نستشفّها من إنجيل متى (ولا سيّما في المقطع الإنجيليّ لهذا الأحد)، مُناقِضة تماماً للمُعتقدات السائدة آنذاك في الأوساط العبرانيّة، وهي أن هذا الملكوت (والتدبير الخلاصيّ) يتخطّى حدود شعب مُعيّن، ليشمل أمم الأرض قاطبةً...
اليوم، وبعد "خطبته الطويلة والشهيرة على الجبل"، التي عرض فيها "شرعة ملكوت السماوات" (التطويبات وما تبعها من عظات وتوصيات عمليّة)، والتي إستحوذت على ثلاثة فصول كاملة من الإنجيل "المتّاويّ" (5 و6 و7)، يبدأ الربّ يسوع سلسلةً من الآيات على صُعُد مُختلفة، آيات ليست إلا علامات حسيّة لظهور ملكوت الله بين البشر، علامات "إفتقاد الله لشعبه"، وأيضاً إثباتاً لمصداقيّة يسوع في كرازته...
اليوم، وبعد الكلام الكثير في بداية الكرازة، حان وقت العمل الكثير، وإقران القول بالفعل. وها إن متى يروي لنا قصة لقاء يسوع بقائد مئة (وثنيّ)، أتى يطلب إليه إبراء غلامه المفلوج، مُظهِراً إيماناً مُلفِتاً يفوق إيمان "أبناء الموعد". يُذكَر أن لوقا الإنجيليّ أورد أيضاً هذه الرواية (لو 7: 1-10)، مع بعض الفوارق في التفاصيل، كما أن هذه الآية نتج عنها ما يُمكن تسميته ب"الإبراء عن بُعد"، على خلاف عموم آيات يسوع، حيث يكون لقاء فإبراء مُباشر...
------------------------------------------------
ثانياً – قراءة تأمليّة لإنجيل اليوم:
يأتي "اللقاء" المنصوص عنه في إنجيل اليوم، بعد إنتهاء "الزارع" يسوع من "زرع كلام الله"، وإنتهاء "الصياد" من "رمي شبكة صيد البشر إلى الملكوت"، وبعد آية أولى شفى فيها السيّد رجلاً أبرص، جاء مُسترحِماً طالباً أن يَطهُر، فكان له ما أراد... الجدير ذكره في بداية تأملنا، هو أن الآيات "الملكوتيّة" التي سوف تتوالى بعد "خطبة الجبل"، والتي سوف نقرأها على مدى الآحاد المُقبِلة، تُظهِر لنا سلطان "الماسيّا" المُنتظَر على عناصر الخليقة كلّها، وهو سلطان إلهيّ حصراً (شفاء المرضى على إختلاف أمراضهم من جسديّة ونفسيّة وروحيّة، تهدئة العاصفة، إحياء الموتى، تكثير الخبزات والسمكات، غفران الخطايا...).
نحن اليوم برفقة يسوع في بلدة كفرناحوم، البلدة التي أصبحت تُعرَف ب"مدينته"، بعد أن ترك الناصرة (التي أخذت منه موقفاً رافضاً) وأتى يسكن ضفاف "بحر الجليل" (متى 4: 13). ومعنى إسم "كفرناحوم" هو "قرية التعزية"، وكم لهذا الإسم من رمزيّة... فقد كان مجيء إبن الله إلى العالم "فِعل تعزية" من لدن الآب لبني البشر في مخاضهم الحياتيّ مع الخطيئة والموت. وسوف يأتي الوقت الذي فيه يُقرِّع يسوع هذه المدينة (وغيرها) لعدم إيمانها، رغم كثرة الآيات التي أجراها فيها (متى 11: 23-24)...
عند دخوله البلدة، بادر إليه "قائد مئة"، قد يكون على الأرجح رومانيّاً (كما قد يكون من أزلام هيرودس)، إلا أنه وثنيّ بكل الأحوال (في الرواية نفسها عند لوقا، لم يأتِ القائد شخصيّاً إليه، بل بعث إليه بمرسَلين، وعلى دفعتَين). ربما يكون قد سمع سابقاً عن يسوع وعن الآيات التي كان يُجريها في المدينة والجوار، فأتى إليه اليوم على هذا الأساس، عارضاً عليه مشكلته: "غلامه مريض"...
لا بدّ من كلمة هنا في ما خصّ البادرة بحدّ ذاتها... فإن إهتمام شخص ذي منزلة رفيعة نسبيّاً كقائد المئة هذا، بشخص هو (على الأرجح) عبد عنده أو خادم (أي أقلّ منزلة منه)، هو أمر إستثنائيّ إن صحّ التعبير، في تلك الأزمنة والبيئات التي تميّزت بالعبوديّة وبرخص الحياة البشريّة... هذا الإهتمام يصلح جداً لأيامنا الحاضرة، حيث صحيح أنه لم تعد العبوديّة سياسةً رسميّةً كما كانت سابقاً، إلا أننا لا نزال نرى رواسب لها تتظهّر من خلال التمييز بين البشر، سواء كان هذا التمييز طبقيّاً أو عرقيّاً أو دينيّاً... فالحجج الواهية حاضرة على الدوام...
كما يلفتنا أيضاً في كلامه، أنه لم يطلب أيّ شيء إلى يسوع، لم يقل له مثلاً "أرجوكَ إشفِ غلامي المريض"، لم يقل له "قد سمعتُ بآياتكَ، فأرجو أن تلبّي طلبي"... لا شيء من كل ذلك. فقط عرض عليه مشكلته... إلا أن يسوع، الذي جاء ليَخدِم لا ليُخدَم، قد فهِم الرسالة، فأخذ المبادرة وهمَّ بالذهاب معه ليشفي الغلام المفلوج، وفي ذلك صورة ناصعة عن أن الله هو دائماً المُبادِر إلى الإنسان، ساعياً إلى خلاصه... بجوابه الفوريّ، أظهر يسوع أنه لا يكترث لهويّة الرجل أو لمركزه الإجتماعيّ أو لمهنته أو لدينه، فقد رأى أمامه إنساناً مُحتاجاً إلى العون، بكل بساطة... يُدرك يسوع جيداً أنه أُرسِلَ إلى "الخراف الضالّة من آل إسرائيل"، وهو حصر كرازته في "شعب الموعد"، على أن تنتقل فيما بعد إلى كل الأمم، بحسب التدبير الخلاصيّ. لكن "الإله المُتجسّد" لا يقف عند إعتبارات وتقاليد إجتماعيّة ودينيّة بالية، تكبّل الإنسان أكثر ممّا تحرّره. وإن يسوع "إبن البشر" ينظر إلى البشر كبشر بالدرجة الأولى، فإن "أفكاره هي أفكار الله، وليست أفكار بشر".
وفيما يسوع يهُمّ بالذهاب معه، أبدى قائد المئة موقفاً غير متوقّع، فهو ربّما لم يُرِد إحراج يسوع (كونه يهوديّاً وهو وثنيّ، ويعرف العادات السائدة آنذاك)، أو أنه شعر بعدم أهليته لإستقبال الضيف الكريم تحت سقف بيته... وهذا بالضبط ما فهمته الكنيسة جيداً، فأدخلت جملته الشهيرة في ليترجيّتها الإلهيّة (ولا سيّما في ليترجيا الكنيسة اللاتينيّة قبل المناولة مباشرةً)... مهما يكن السبب، فقد بَيّن ليسوع أنه يكفيه أن يقول كلمته، لأنه هو نفسه رجل كلمة، وكلمته مسموعة ويثق بأن رجاله يلتزمون بما يطلبه إليهم. وكأنّي به يقول "إنه واثق ومؤمن بأن كلمة من يسوع هي كافية لنيل ما يطلب"، إذ كما هو من خلال مركزه، يستمدّ سلطته ممّن هو أعلى وأرفع منه (قيصر مثلاً) ويُمثّله في أمور مُعيّنة، كذلك يسوع يستمدّ سلطته من الله ويُمثل حضور الله على الأرض...
بدا الرجل قارئاً جيّداً للأمور، مع أنه لم يعرف يسوع في السابق، وهو على الأرجح لم يُعاين آية من آياته... وهو بكلامه، أبهر يسوع الذي لم يَدَع المناسبة تمرّ دون أن يُنوِّه بإيمان ذلك الرجل (نُذكّر بأنه وثنيّ). فأعلن الربّ عالياً عظمة إيمان الرجل، الذي لم يجد نظيراً له حتى عند "أبناء الموعد"، المُفترَض بهم حمل ثمار هذا "الموعد" (نتذكّر فصل "صاحب الحقل والشجرة التي لا تثمر"، كما فصل "التينة الملعونة"). وهو سوف يمتدح في مشهد آخر، إيمان المرأة الكنعانيّة التي أصرّت على طلبها حتى النهاية، متقبّلة كلام يسوع "القاسي" في ظاهره بحقّها، وكانت النهاية سعيدة... لذلك، أتى كلامه اليوم بمثابة تبكيت "لأبناء الملكوت" الأوّلين (صورة "الإبن البكر")، الذين لطالما تشدّقوا بأنهم "أبناء إبراهيم" (يو 8: 33 و39)، الذين لم يكونوا على المستوى الإيمانيّ المطلوب منهم، بعد إفتقاد الله لهم وتكوينه إياهم شعباً خاصاً به، يحمل رسالة خلاص للعالم أجمع.
------------------------------------------------
ثالثاً – الخُلاصة الروحيّة:
الإيمان، ثم الإيمان...
إن قمنا بجولة عامة عبر الأناجيل، لوجدنا بوضوح أن الإيمان يحتلّ مركز العلاقة بين الله والإنسان (أيّ إنسان)... كان الربّ يُشدّد دائماً على هذه النقطة، ويعتمد الإيمان معياراً، وكان يُظهِر ذلك في أقواله وأعماله. وما أكثر ما وردت هذه الكلمة في الأناجيل، ولسنا هنا في معرض سرد المراجع لأن ذلك يتخطّى هدف تأملنا في إنجيل اليوم. نذكر فقط أن مسألة الإيمان تمتدّ من بشارة زكريّا الذي لم يؤمن بكلام الملاك له (لو 1: 20)، مروراً بإيمان توما بعد شكّ (يو 20: 27)، وصولاً إلى كلام الربّ لدى إرساله التلاميذ عند صعوده "من آمن وإعتمد يخلُص، ومن لم يؤمن يُدَن" (مر 16: 16)... وفي إنجيل اليوم، نرى بالفعل ما هو مُهِمّ ومَرضِيّ بنظر ربنا، إذ لا فائدة من الأنساب أو الإنتماءات البشريّة والعِرقيّة والدينيّة والطبقيّة... فالمقياس الوحيد الذي يقيس به الربّ يسوع، هو الإيمان فقط، الإيمان المُتّقِد لا الكلاميّ.
في خُلاصة "إيمانيّة" بإمتياز، هذا الفصل الإنجيليّ هو بمثابة درس كبير لنا نحن المسيحيّين، الذين "إعتمدنا بالمسيح ولبسنا المسيح"، إذ أصبحنا "مُسحاء" وأبناء على صورة الإبن الوحيد. إن إنجيل اليوم هو تنبيه لنا على عدم الوقوع بما وقع به "أبناء الموعد"، من إعتزاز فارغ بصفتهم تلك، ناسين أن "الله قادر أن يجعل من الحجارة أبناء لإبراهيم" (متى 3: 9). فلا نقع في الزهوّ والتشدّق بكوننا مسيحيّين... وكفى. فيصحّ حينذاك قول الربّ عن المدعوّين إلى الملكوت السماويّ: "كثيرون أوّلون يكونون آخِرين، وآخِرون أوّلين" (متى 19: 30).
بقلم الاخ توفيق ناصر (خريستوفيلوس)