أنت هنا

27/11
 

تذكار القدّيس العظيم في الشهداء

يعقوب الفارسي المقطع( القرن الخامس)

27/11

كانت ولادة القدّيس يعقوب ونشأته، فيما يبدو، في مدينة اسمها لابات، في ناحية سوز الفارسية، على بعد ثلاثمئة كيلومتر تقريباً شمالي الخليج الفارسي. وكان من عائلة ثرية من فئة النبلاء، قيل امتازت بالكرم وإضافة الغرباء، وكانت على المسيحية.

رجل الدنيا

تلقى يعقوب قسطا وافرا من علوم عصره وكان دمثاً، غيوراً على خدمة الناس، وديعاً. ارتبط بصداقة حميمة بالشاه الفارسي، يزدجرد الأول (399 ــ 425). وقد اسبغ عليه هذا الأخير امتيازات شتى فبات اكثر معشر يعقوب أهل القصر واكثر أجوائه مجالس كبار القوم. كل ذلك أثّر في وجدانه وجعله سكير المقامات والأمجاد العالمية. يومذاك كانت المسيحية في بلاد فارس مرذولة ومضطهدة، لا سيما بعدما عمد أسقف المدائن، عبدا الشهيد، الى إحراق معبد الشمس حيث اعتاد يزدجرد الأول تقديم ذبائحه ( 411م). واذ كان على يعقوب أن يختار بين إيمانه بالرب يسوع والحظوى لدى الشاه، اختار امتيازات هذا الدهر وأمجاده وبات شريك الشاه في عبادة الأوثان.

ثاب الى رشده

وبلغ المسيحيين خبر سقوط يعقوب فكان له فيهم وقع الصاعقة لا سيما وأن يعقوب أحد أعمدتهم. ثم ان والدة يعقوب وزوجته بلّغاه انهما يقطعان به كل علاقة لأنه آثر مجدا عابرا على محبة المسيح ووعد الحياة الأبدية. وثمة رسالة قيل إنهما وجّهتاها اليه، بهذا المعنى، وقيل أيضاً إنها من رعية المسيحيين. جاء في الرسالة:" عار على من هو مثلك، رفيع في الحسب والنسب والإيمان أيضا، أن يسقط في جبّ الضلال العالمي طمعاً في أمجاد تافهة مزيفة. من المؤسف كل الأسف أن تؤثر الملك الأرضي على الملك السماوي، ملك الملوك ورب الأرباب. ماذا نقول فيك يا مستحق النوح والبكاء والشفقة؟ أية عطية سيجزل لك يا عديم العقل؟ اننا ننوح من القلب ودموعنا تتساقط مدرارة حزنا على صنيعك الممقوت. لكننا نضرع الى الرب أن يفتح عينيك المغمضتين وأن يلقي بنوره الإلهي في صدرك كي تعود عن غيّك وضلالك. حاول أن تفهم ما آلت اليه حالك. جرّب أن تدرك الخطيئة العظيمة التي وقعت فيها. فكّر في أنك كنت ابناً للنور فأصبحت ابناً لجهنم. لا تفوّت فرصة خلاصك، ولا تؤّجل عمل التوبة. مدّ الى العلّي يد التضرع والانسحاق. عد الى رشدك وصوابك فيعود فرحنا بك. ولا تنس ان إصرارك على ما أنت فيه سيجعل بينك وبيننا قطيعة".

وأفاق يعقوب من سكره وبكى بكاء مرّا. كل همّه بات أن يمحو خيانته لرب السماوات والأرض، وبالدم اذا لزم الأمر. لذلك جاهر بإيمانه بالرب يسوع ونبذ الأوثان. لم يترك مناسبة الا فعل كذلك الى أن بلغ خبره الشاه نفسه، فاستدعاه وسأله عن حقيقة الأمر، فاعترف ولم ينكر. بدا الشاه لبعض الوقت غير مصدّق، لكن يعقوب أصرّ. حاول يزدجرد اغراءه بالمناصب والمال والأمجاد فلم يبال. قال انه مستعد أن يهبه حتى نصف مملكته فلم يصغ. ذكّره بالشباب وحلاوات الحياة الدنيا فلم يتزحزح. هدّده فلم يكترث. اذ ذاك خرج الشاه عن طوره وأسلمه، في غضب شديد، الى التعذيب.

تحت التعذيب

كانت المرحلة الأولى من التعذيب عادية، لكن حمية يعقوب واستخفافه بها جعلا يزدجرد في هياج، فأمر اذ ذاك بإنزال أقسى وأصعب أنواع التعذيب بيعقوب: تقطيعة قطعة قطعة حتى يلفظ نفسه الأخير. وشاء الشاه أن يدعو المدينة كلها الى هذا المشهد المريع. ولما حضرت الساعة، بدا بعض الناس حزانى باكين فقال فيهم يعقوب: " لا تبكوا عليّ ايها البائسون، ابكوا أنفسكم وشهواتكم وملذاتكم. سأتوجع قليلاً، ثم ينتهي كل شيء. أما أنتم فمصيركم هنا غير مضمون" 

ثم ان الجلاّدين بدأوا بتنفيذ الحكم فقطعوا أصابع يديه ورجليه ثم ذراعيه وساقيه. واذ كان يعقوب في آلام فظيعة صرخ الى الرب يسوع:" أغثني يا رب!" فجاءت قوة من عند الله جعلته غريبا عن الألم، وكأن ما يجري كان على جسد شخص آخر. اخيرا قطع الجلاّد رأسه فتوقف مجرى الأوجاع وأكمل يعقوب الشهادة أمانة وتكفيراً.

وقد جاء في التراث انه عندما قطع الجلاّد ابهامه قال:" هكذا تقلّم الكرمة لكي تنموا جديدا في أوانها". وعندما قطع اصبعه التالي قال: "تقبّل، يا رب الغصن الثاني من زرعك". ولما قطع الثالث قال: " أبارك الآب والابن والروح القدس". وعندما قطع الرابع قال: "يا من قبلت مديحا من الحيوانات الأربع، اقبل ألم هذه الأصابع الأربع". وعند الخامس قال: " ليت فرحي يكون عظيما كفرح العذارى الخمس العاقلات". وعند السادس قال: "المجد لك يا رب، يا من مددت يديك الطاهرتين على الصليب، في الساعة السادسة وجعلتني مستحقا أن أقدّم لك أصابعي الستة". وعند السابع قال: "كمثل داود الذي سبّحك سبع مرّات في اليوم، هكذا أنا اليوم أسبحك بأصابعي السبعة المبتورة من أجلك". وعند الثامن: "أنت يا رب استرحت في اليوم الثامن". وعند التاسع: "في الساعة التاسعة، يا رب، استودعت روحك يدي أبيك، يا مسيحي، وأنا أقدم لك الشكر لألم الاصبع التاسع هذا". وأخيرا لما قطع الجلاّد آخر أصبع من أصابعه قال: " أرتل لك، يا رب، على عود ذي عشرة أوتار وأباركك لأنك أهّلتني لاحتمال قطع أصابع يديّ الاثنتين من أجل وصاياك العشر المكتوبة على ألواح الحجر".

كان استشهاد يعقوب في مدينة بابل على نهر الفرات وقيل انه كان يوم جمعة. وقد تمكن بعض الأتقياء من سرقة الجثمان ولملمة الأطراف ونقل الهامة لتوارى الثرى بإكرام وخشوع.

هذا، ورفات القدّيس اليوم في أكثر من موضع في العام؛ فالهامة في روما وبعض من عظامه في بلاد البرتغال حيث يحتفل بعيده في اليوم الثاني والعشرين من شهر أيار. تجدر الإشارة إلى أن العديد من الكنائس والأديرة عندنا، لاسيما في شمال لبنان، يتخذ القدّيس يعقوب شفيعا.

والكنيسة المقدّسة تنشد له صلاة السحر، في عيده، النشيد التالي:

" يا محبي المشاهد، اذ تجتمعون اليوم بالإيمان، تأملوا العجب والجهاد الغريب ليعقوب الشهيد الذي تألق الينا من فارس كمثل النجم الذي سبق ان ظهر للمجوس، مرشدا إياهم الى المعرفة الحقيقية. لأن هذا الشجاع بسقوطه أسقط الأعداء، وبتقطيع أوصاله أضنى المغتصبين لأن العناية الإلهية قوّته من السماء ومكنته من الهتاف: حتى ولو قطّعتم أعضائي، هنا، أسفل، فاني أحتفظ بذاتي كاملة، أي بالمسيح. وأيضا، اذ سبق فعاين الحياة العتيدة بر الموت الموعود للجميع، أسرع الى هناك. واذ وجد تلك الحياة التمس لنا من الإله المانح الأكاليل الصفح والنور ونعمة الخلاص، نحن المقيمين تذكاره المقدّس".