أنت هنا

29/10
 

تذكار القديسة البارة الشهيدة انسطاسية (نسطاس) الرومية (القرن الثالث) 

29/10 غربي(12/11 شرقي )

عاشت القديسة انسطاسية (نسطاس) في مدينة رومية، أيام الإمبراطورين داكيوس وفاليريانوس. وقد توفرت لها كل أسباب العيشة الرغدة، فتوة وغنى وجمالاً، لكنها علقت بشباك السيد واكتشفت اللؤلؤة الأثمن من سائر اللآليء. فكان أن أنفقت قسماً من أموالها على المسيحيين المسجونين لأجل إيمانهم ووزعت الباقي على الفقراء، ثم اعتزلت، هي وبعض العذارى، وأقمن في بيت صغير في طرف المدينة. وقد كانت القيمة عليهن امرأة مقتدرة اسمها صوفيا. هذه أنشأت العذارى على الشهادة اليومية المسيحية، نسكاً وجهاداً ومحاربة للأهواء .

ولما شاع ذكر انسطاسية (نسطاس) بين المسيحيين والوثنيين معاً بين هؤلاء لجمال طلعتها، وبين أولئك لفضيلتها-حرك الشيطان بعض النفوس الصغيرة فأسروا إلى الوالي بروبس خبرها. فأرسل جنده وأتوا بها.

وقفت انسطاسية (نسطاس) أمام الوالي، صبية في العشرين من عمرها، بهية الطلعة ، هادئة النفس، ساكنة المحيا، فأخذ بها. وإذ سألها ما إذا كانت حقاً تتنكر لآلهة الإمبراطورية وتأبى أن تقدم لها فروض الإكرام، أجابت بالإيجاب بثقة وبلا تردد. فحاول الوالي استغلال الأمر لصالحه فلم يلق غير الخيبة. فهددها فألفاها صامدة لا تلين. فقام يتملقها فلم تدع كلماته تنفذ إلى قلبها، ولا استجابت لمواعده. فأسلمها، إذ ذاك، للمعذبين فلم تبد أية علامة من علامات الخوف. ألم تعتد على الشهادة اليومية للمسيح من خلال النسك والجهاد ومحاربة أهواء النفس والجسد !.

وأمعن الجلادون في تعذيب انسطاسية (نسطاس) إلى أن قطعوا هامتها بحد السيف ففازت بإكليل الشهادة. فجاءت معلمتها، صوفيا، وأخذت رفاتها. وقد بقيت هذه الرفات على مدى العصور مصدراً للبركة والتعزية. وهي محفوظة في معظمها، إلى اليوم، في دير القديس جاورجيوس في جبل آثوس.

ويرتبط باسم انسطاسية (نسطاس) اسم آخر هو كيرللس. كيرللس كان شاباً مسيحياً حضر تعذيبات نسطاس. فلما كانت الشهيدة غائصة في آلامها طلبت ماء فأسرع كيرللس وسقاها، فكان نصيبه أن أضحى شريكاً في الشهادة إذ قطع الجند هامته هو أيضاً.

ويغلب الظن أن نسطاس التي تعيد لها الكنيسة اليوم هي إياها من ورد ذكرها أيضا في اليوم الثاني عشر من شهر تشرين الأول.

 

تذكار أبينا البار ابراميوس وابنة أخيه البارة مريم الرهاويين (القرن الرابع للميلاد) 

قولة القديس أفرام فيه: 

كتب لنا سيرة القديس ابراميوس صديقه الحميم القديس أفرام الذي يغلب الظن أنه هو إياه أفرام السرياني المعروف (306-373م).

يقول القديس أفرام عن رفيقه في مقدمة الترجمة أنه "رجل عجيب ذو سيرة بديعة كاملة". كيف لا وقد أبدى تلك الأمانة غير المنقوصة حيال ربه، وحتى الموت! لذلك يدعوه إبراهيم الثاني بعد إبراهيم الخليل، أبي المؤمنين، ويعتبر نفسه بإزائه "إنسانا غليظاً جاهلا". كما يقرب سيرته بخوف ورعدة خشية أن تخفق كلماته في رسم صورة أمينة له، فيتحدث بإسهاب عن صبره العجيب على كافة ألوان الشدائد والضيقات والتجارب، معتبراً إياه "ماسة لم تثلمها الآلام "

ولد القديس ابراميوس في بيت من ذوي اليسر بالقرب من مدينة الرها، فيما بين النهرين. كان والداه تقيين نبيلين فأنشأه على التقوى وكرامة الخلق، كما أفسحا له في المجال لتلقي العلوم فحصل منها قسطاً وافراً. وإذ رغبا في تقديم ولدهما في مراقي العظمة بين الناس، خطبا له، وهو بعد صغير، فتاة ظنّا أنها سوف تكون له خير معين في هذا الاتجاه.

كبر ابراميوس وكبر فيه حبه للتوحد وحياة التأمل، وكان والداه يخشيان عليه أن تجنح به هدأته وتأملاته نحو النسك، فرغبا إليه بالزواج، فامتنع ، فأصرا، فأذعن.

وجرى الاحتفال بالعرس، سبعة أيام كاملة، كان ابراميوس خلالها في غير مكان وكأن الأمر لا يعيه. فلما حضر اليوم السابع، اخترق قلبه شعاع من النعمة الإلهية، فقام لتوه، وهولا يعرف بعد زوجته، وخرج سراً من البيت وتوارى. لم يأخذ معه شيئاً سوى زهده، طالباً وجه ربه. كان يومذاك قد بلغ العشرين.

وقادته النعمة إلى قلاية معزولة لا تبعد كثيراً عن المدينة. هناك أقام في الصلاة سبعة عشر يوماً لم يذق خلالها أي طعام ولا بل ريقه بنقطة ماء. أول خروجه كان كمن يريد أن يلتهم الحياة الإلهية التهاماً.

في هذه الأثناء، كان والداه يبحان عنه في كل مكان. لم يدعا موضعاً إلا بحثا فيه عنه، إلى أن بلغاه مغلقاً على نفسه في تلك القلاية. فلما رأياه اندهشا من حاله، وأدركا بالنعمة أن ولدهما قد اختار النصيب الصالح الذي لن ينتزع منه. وبدل أن يصرا عليه بالعودة معهما، أسلما أمرهما لله وتركاه لسعيه ومضيا. فسد إبراهيم الباب على نفسه ولم يترك إلا نافذة صغيرة تصله بالعالم كان القوم يأتونه ببعض الطعام من خلالها، بين وقت وآخر.

هكذا باشر القديس ابراميوس حياته النسكية بهمة لا تعرف الكلل، فكان يجد كمن لا بدن له، مستغرقاً في الدموع والأصوام والأسهار والصلوات. لم تكن عزيمته لتهن يوماً واحداً، ولم يدع يوماً واحداً يمر دون أن يسكب فيه الدموع مدراراً. تعزيات البدن كانت غريبة عنه. وكان فكر الموت رفيقه الدائم. توبته كانت بلا قرار، لذلك كل ما كان يأتيه من جهاد، كان، على مرارته، حلواً وعذباً لأن شوقه إلى النور الإلهي كان فائقاً. وكما قال الرسول بولس " . . . من أجل فضل معرفة المسيح . . .".

ورغم ما كان عليه ابراميوس من شدة في النسك فإنه كان عذب المحيا سليم .البدن، قوياً، طيب المزاج.

ولم يطل به المقام حتى ذاع صيته في تلك الأنحاء فبدأ الناس يتوافدون عليه. كل يخبر عنه، فيتقاطرون ليتأكدوا مما سمعوه طالبين منه النصح، سائلينه البركة والدعاء. وكان القديس ابراميوس يبدي حيالهم محبة وتواضعاً وحناناً عظيماً. يقول عنه القديس أفرام، بهذا المعنى: "كان تواضعه على أعمق ما يكون التواضع وكانت محبته للناس متساوية، لم يعرف محاباة الوجوه أبداً. كان يقابل الجميع، أغنياء وفقراء، صغاراً وكباراً، بنفس الحرارة والحنان المسيحيين. لم يكن للمرارة مكان في قلبه ولا عرف لسانه الكلام القاسي. كل أقواله كانت مملحة بالمحبة واللطف . لم يكن أحد يمل سماعه، بل كانت الأذن تطلب المزيد من أقواله. والقداسة الطافحة من وجهه كانت تشد الناس إلى التطلع إليه فلا يشبعون".

وتوفي والدا ابراميوس بعد عشر سنوات من دخوله الحياة الملائكية. ولما كانا قد خلفا له ثروة طائلة فإنه بعث إلى صديق له صدوق طلب منه تدبير شؤون تلك الثروة بحيث تعود إلى الفقراء والأيتام وقفاً حتى نفاذها.

في ذلك الوقت أيضاً، أو ربما بعد ذلك بقليل، واجهت أسقف المنطقة التي كان ابراميوس ناسكاً فيها مشكلة كأداء. فإن بلدة كان سكانها مستغرقين في وثنياتهم لم تقبل كلمة الإنجيل رغم كثرة الكهنة والشمامسة، وحتى المتوحدين الذين بعث بهم إليها لهدايتها. وإن العلي ألهم الأسقف أن يرسل إليهم ابراميوس. فجاءه، إلى منسكه، وأبدى ما لديه. وبالتوسل والتهديد أذعن ابراميوس لأمر الل . فجعله الأسقف كاهناً وأوفده إلى تلك البلدة الوثنية المتحجرة.

هكذا بدأت المرحلة الثانية من سيرة ابراميوس الممدوحة، رسولاً لا يعبأ بالأخطار والجراح والضرب، صابراً على قساة الرقاب حتى نفاذ الكلمة الإلهية إلى قلوبهم.

أول ما صنعه ابراميوس أنه بنى كنيسة جميلة ببعض الأموال المتبقية من تركة والديه. لم يتعرض له الوثنيون بأذى، ربما لأن الله منعهم من ذلك وربما لأنهم خشوا السلطات الرسمية التي أخذت تنظر إلى المسيحيين بعين الرضى بعد مرسوم ميلانو (313 للميلاد).

كان القديس ابراميوس يئن ويتنهد في روحه، كل يوم، للظلمة التي كان هذا الشعب قابعاً فيها. وكان يصلي ويقول: "أيها السيد! ردّ هذا الشعب الضال إليك، اجمعه في هذا البيت المقدس. افتح أعين قلبه، أضئه بنور نعمتك لكي يعاين بطلان أصنامه ويعرفك أنت الإله الحقيقي وحدك".

وبقي كذلك إلى أن جاء يوم احتدت فيه روحه وقال له روح الرب أن يقلب هياكل الأوثان كلها ويحطم الأصنام، فقام عليها ودكها كلها إلى آخرها. فكان لذلك وقع الصاعقة في نفوس الناس فانقضوا عليه وأشبعوه ضرباً ولكما وأخرجوه خارج البلدة وألقوه هناك. لكنه عاد في منتصف الليل ودخل الكنيسة وأقام فيها مصلياً باكياً مسترحماً الله على قساوة قلب هذا الشعب.

وحل الصباح واكتشف الوثنيون أنه في الكنيسة يصلي. فجاءوه مندهشين. وما أن فتح فاه ليكلمهم حتى هجموا عليه من جديد وضربوه وجروه بحبل وأخرجوه من البلدة، ثم انهالوا عليه بالحجارة فأغمي عليه فظنوه قد مات فألقوه بين الأقذار وعادوا.

وفي منتصف الليل عادت روحه إليه فأخذ يصرخ ربه ويقول: "لماذا، ربي، تصرف وجهك عن ضعتي؟ لما تحول عينيك عني؟ لما تتغاضى عن رغبة قلبي؟ لماذا تحتقر جبلة يديك؟ أتوسل إليك يا اله الصلاح الذي لا حد له، ألق بناظر رأفاتك على هذا الشعب المسكين. أنعم عليه بأن يعرفك وأنك أنت الإله الوحيد ولا إله سواك".

وردّ الرب قوى ابراميوس إليه فقام ودخل المدينة تحت جنح الظلام وأخذ يسبح الله في الكنيسة إلى صباح اليوم التالي.

وعاد الوثنيون إلى الكنية فألفوه هناك كأنهم لم يخرجوه في اليوم السابق، فثارت ثائرتهم عليه من جديد.

وهكذا بقي القديس ابراميوس مدة ثلاث سنوات يحتمل الاضطهاد والضرب والتعيير وكل إساءة يمكن تصورها. كان الشيطان قوياً في هؤلاء القوم، قوياً بشراسته ودناءته وقذارته، لكن الرب الإله كان في ابراميوس أقوى، تواضعاً وصبراً محبة ودموعاً إلى المنتهى. كالماس كان لا يتزعزع. لا غضب عليهم ولا قسا. محبته كانت في ازدياد وشراستهم وقساوة قلوبهم في تضاؤل. وبدأوا قليلاً قليلاً يسمعونه. كان يخاطبهم بروح القوة حيناً وبالوداعة أحياناً. الشيوخ بينهم كان يعاملهم كآبائه والشباب كإخوته والصغار كأولاده. هذا رغم ما كانوا يقابلونه به من ازدراء واحتقار.

وجاء اليوم الذي كان لا بد فيه للصلوات والدموع أن تستجاب. فلقد نفذت النعمة الإلهية إلى قلوب سكان البلدة فاعترفوا بإله ابراميوس إلهاً لهم حقيقياً وحيداً. فعمدهم وعلمهم الإنجيل سنة كاملة. ثم في ليلة لا يدرونها تركهم لاهتمام الأسقف وعاد إلى نسكه، فبكوه بكاءً مراً.

وحارب الشيطان ابراميوس بعدما عاد إلى طريقة حياته. حاربه بكل الأسلحة الموفورة لديه. هاجمه بأفكار الكبرياء والمجد الباطل. حاول أن يوهمه أنه قد بلغ من القداسة شأواً عظيماً فتكسرت نصاله على صخرة تواضع القديس وصبره. ظهر له بصور وأشكال مرعبة، بأصوات وصراخ فلم يؤثر في القديس قيد أنملة. كل تدابير الشيطان كانت تزيد من حبه لإلهه وفرحه في الإمحاء أمام عظمته واقتبال مشيته.

وكانت التجربة الأخيرة في حياته ما حل بابنة أخيه وحزنه الشديد عليها. فإن أخاً للقديس ابراميوس توفي وترك ابنة اسمها مريم في ربيعها السابع. هذه حملها بعض أقارب القديس إليه فآخذها ورباها على حياة الفضيلة فنمت في النعمة والقامة إلى أن بلغت العشرين وكانت على جانب كبير من الجمال.

وأن راهباً مزيفاً كان يتردد على القديس وينظر إلى مريم بطرف عينيه، إلى أن بدأ يتودد إليها. وبقي هذا الراهب المزيف سنة كاملة على هذا المنوال إلى أن تمكن من الإيقاع بها. فلما أفاقت من دوار الخطيئة انتابها حياء وخجل فظيعين. وآذ لم ترد أن تجرح عمها يئست من حالها فقامت وغادرت المكان إلى المدينة وأخذت تتعاطى الفجور سنتين كاملتين.

وافتقد ابراميوس ابنة أخيه فلم يجدها فتعجب. وإذ لم يبن لها أثر حزن لها أشد الحزن. فراح يصلي من أجلها إلى أن علم في رؤيا أن مريم قد سقطت في الخطيئة. ولكن أين هي؟!.

ومرت الأيام ومريم غارقة في الفجور والقديس في صلاته إلى أن جاء من أخبر ابراميوس عن مكانها. كان قد مر على خروجها سنتان. فقام القديس للحال وطلب زي ضابط وغطى رأسه ومعظم وجهه بقبعة واسعة من قبعات ذلك الزمان، وجمع بعض المال وركب حصاناً وجاء إلى المدينة.

هناك في المدينة، قدم نفسه كأحد طالبي الفتاة. وبعدما أكل لحما وشرب خمراً معها، اختلى بها. وفي خلوته كشف عن وجهه فعرفته، في فطأطأت رأسها خجلاً، فأخذ هو يتوسل إليها بدموع: "يا ابنتي مريم، ماذا حصل لك ؟ أين جمال طهارتك ؟ أين دموعك وأسهارك؟ كيف هبطت من علو السماء إلى هذا الجب السحيق؟ لما لم تكشفي لي التجربة التي أثارها الشيطان عليك؟ أكان عليك بعدما سقطت في الخطيئة الأولى أن تسقطي في خطيئة أعظم، خطيئة اليأس؟ لقد تألمت عليك كثيراً. ولكن يا ابنتي، لا تخشي، فليس غير الله منزّهاً عن كل عيب... لا بأس عليك يا ابنتي ماري فأنا أحمل خطيئتك عنك وأنا أجيب عنها أمام عرش الله. فقط اتبعي نصيحتي ولنعد معاً إلى بيتنا الأول... ارحمي  شيخوختي ولا تأبي أن تتبعيني...".

وسحّت دموع مريم من عينيها وسجدت لأبراميوس وأمسكت بقدميه وسبّحت الله على حنانه العظيم إلى الصباح. وأطل الصباح فقام الاثنان من الصلاة والدموع وانطلقا إلى القلاية لمتابعة ما انقطع. وكانت توبة مريم عظيمة حق إن الله من عليها في ثلاث بموهبة صنع  العجائب علامة من عنده على رضاه عنها ولم يعش القديس ابراميوس طويلاً بعد توبة ابنة أخيه، فرقد رقود الآباء القديسين وهو في السبعين وقد مض عليه خمسون سنة في النسك والجهاد. كان ذلك عام 370للميلاد. وقد علق القديس أفرام على رقاد صديقه بالقول أنه خرج من العالم بعدما نجا من كل الفخاخ التي نصبها له عدو البشر، ولأن وجهه عند خروجه كان يطفح بشراً وجمالاً حتى بدا أن الملائكة حضرت لتلقى روحه الطاهرة.

أما مريم فعاشت خنس سنوات بعد رقاد عمها ثم انضمت إليه مكلّلة بالمجد الأبدي.