أنت هنا
تذكار
أبينا الجليل في القديسين ميلاتيوس
رئيس أساقفة أنطاكية (381م)
12 شباط ش حسب التقويم اليولياني (القديم / شرقي)
(يوافق 25 شباط غريغورياني (الجديد / غربي)
ولد القديس ملاتيوس الإنطاكي في ملاطية، عاصمة أرمينيا الصغرى، لعائلة مرموقة يبدو أنه ترعرع في كنفها على محبة الله والعادات الكنسية الطيبة. ومع أن أسباب الحياة السهلة كانت ميسورة لدية فإنه اتخذ الإمساك والصلاة سبيلاً سلك فيه منذ الشبابيه. في هذا الإطار حصل قسطاً وافراً من العلوم المتاحة لأمثاله في ذلك الزمان. ويظهر معاصروه فيما بعد، أنه كان مبرِّزاً وتمتع بمزايا شخصية باهرة كالماثة والدفء وطيب المعشر والوداعة والبساطة والصدق والأمانة وحب السلام. هذه لفتت الأنظار إليه وأكسبته ثقة العارفين به وتقديرهم له، كلاً من زاويته، ولو اختلفوا فيما بينهم واطرعوا. كان صاحب شخصية جامعة إلى حد بعيد. الآخرون يفارقونه ويعادونه أما هو فلا يفارق أحداً ولا يعاديه.
فلما أُطيح بأفستاتيوس، أسقف سبسطية الأرمنية، وكان آريوسياً معتدلاً، أختير ملاتيوس ليشغل الأسقفية عوضاً عنه. مختاروه كانوا من أتباع آريوس مع أنه لم يكن ثمة ما يشير إلى اقتباله الآريوسية مذهباً. كان ذلك سنة 358م وقيل 360م. غير أن الاضطراب الحاصل في سبسطية وتصلب سكانها حال دون بقاء ملاتيوس فيها طويلاً فنحي عن الأسقفية، وغادر المدينة، كما قيل، إلى الصحراء التماساً لحياة الهدوء والصلاة. ثم ما لبث وتوجه إلى مدينة حلب الشهباء السورية.
في تلك الأثناء كانت مدينة أنطاكية العظمى مستأسَرة لشتى الفرق الآريوسية. فلما أطاح فريق منها بأفذوكسيوس الأسقف الآريوسي، فرغت الساحة فبحثوا عن بديل فلم يجدوا خيراً من ملاتيوس. معظم الفرقاء، فيما يبدو، أرثوذكسياً وآريوسيين، قبلوا به، هؤلاء لظنهم أنه حليف لهم، والأرثوذكسيون لأنهم كانوا عارفين بأخلاقه ومناقبيته واستقامته.
الأزمة الأنطاكية:
إثر إطاحة الأريوسيين بالقديس إفستاثيوس الأنطاكي سنة 327م نشأت أزمة عُرفت بـ "الأزمة الأنطاكية" واستمرت خمساً وثمانين سنة، إلى سنة 415م. فريق الأرثوذكسيين بزعامة الكاهن بولينوس، المُسام بيد إفستاثيوس، اعتزل، وفاء لذكرى إفستاثيوس، وقطع الشركة وكل من لا يقول قوله على الساحة الأنطاكية. المعادلة في نظر هذا الفريق كانت التالية: الأرثوذكسية لا يمثلها غير خط واحد، خط إفستاثيوس وأتباعه، وكل ما عدا ذلك آريوسي الصبغة. أصحاب هذا القول، فيما بدا، كانوا قلة، لكن كان لهم وزنهم المعنوي لا سيما لدى بعض الشخصيات الأرثوذكسية المرموقة في الكراسي الأخرى كالقديس أثناسيوس الكبير. القسم الأكبر من الأرثوذكسيين كان يعي وطأة الآريوسية على أنطاكية ويحذر منها، لكنه لم يشأ أن ينفصل عن الكنيسة الأنطاكية الرسمية اتقاء لشر التشرذم أولاً، وثانياً لأت الأساقفة الذين تعاقبوا على الكرسي الأنطاكي بع إفستاثيوس كان وضع بعضهم على الأقل ملتبساً. وما حدا بالأرثوذكسيين إلى تبني مثل هذا الموقف أن الآريوسية لم تكن فريقاً واحداً. كانت هناك أجنحة أريوسية تفاوت قولها بين الاعتدال والتطرف. وقد استمر موقف هذا الفريق من الأرثوذكسيين، على هذا النحو، حتى وصول ميلاتيوس إلى سدة الأسقفية الأنطاكية، ثم بعد ذلك كان لهم منحاهم الخاص.
خمسة أساقفة تعاقبوا على الكرسي الأنطاكي قبل تبوء أفذوكسيوس لها: أفلاليوس وافرونيوس وهما آريوسيان غير معلنين، ثم بلاسيلوس الثالث واستفانوس الأول ولاونديوس.
ملاتيوس أسقف أنطاكية:
من أتى بملاتيوس إلى سدة الأسقفية الأنطاكية؟ فريق آريوسي بالطيع. أكاكيوس القيصري وجماعته. الحل والربط، على هذا الصعيد، كان في يدهم. أما الأرثوذكسيون فوافقوا وأبدوا ارتياحهم لأنهم كانوا على معرفة بطينة الرجل. الكل، باستثناء الأفستاتيين، رأوا فيه مغنماً واستبشروا بوروده خيراً. حضر سيامته، في من حضر، قسطنديوس الملك الآريوسي النزعة. ومنذ اليوم الأول لتبوء ميلاتيوس سدة أنطاكية في شتاء 360/361م واجه استحقاقاً صعباً. بين الذين حضروا سيامته أيضاً غريغوريوس اللاذقي وأكاكيوس القيصري. هذان بالإضافة إلى ملاتيوس شاءهم قسطنديوس الملك أن يفسروا له وللشعب معنى ما ورد عن حكمة الله في سفر الأمثال، الإصحاح 8 الآية 22 "الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله". هذه كانت إحدى الآيات التي اتاد الآريوسيون الاستناد إليها لتبرير قولهم بأن الابن، الذي هو حكمة الله، مخلوق. المطلوب، إذاً، كان نوعاً من دستور إيمان علني. أول المتكلمين كان غريغوريوس الذي أعطى القول الكتابي تفسيراً ىريوسياً. ثم تلاه أكاكيوس الذي استعان بشتى الأقوال الفلسفية فجاء كلامه أدنى إلى التعميمات الغامضة المبهمة على نكهة آريوسية. ثم، أخثراً، وقف ملاتيوس فدعا المؤمنين إلى المحبة والسلام وساق الآيات الكتابية التي تورد ولادة الابن من الآب وعلاقته به. اعترف بأن المسيح هو ابن الله، إله من إله، وواحد من واحد. أو كما أورد القديس إبيفانيوس القبرصي في مؤلقه "ضد الهرطقات": "الابن هو الفرع الكامل والثابت للكائن الكامل والثابت في هويته.. وهو الصورة الكاملة للآب". (الهرطقة 73). لكنه تحاشى استعمال الألفاظ التقنية المتداولة آنذاك، خصوصاً كلمتي جوهر وأقنوم. ثم حثّ سامعيه على التماس الرضى الإلهي عوض الخوض في التنظير بشأن ما يسير غوره.
كلام ملاتيوس كان كافياً. الأرثوذكسيون باركوا والآريوسيون خابت آمالهم. مذ ذاك أخذ هؤلاء يرقبون حركاته بحذر واقتبله أولئك بغيرة متناهية. في أقل من شهر كان ملاتيوس قد أخذ بمجامع قلوب الأرثوذكسيين – وهذا واضح في كلام الذهبي الفم – فيما رفع الآريوسيون الصوت احتجاجاً على اجراءاته الإدارية واتهموه بالهرطقة السابليانية (نسبة إلى ساباليوس القرن الثالث، القول بأن ليس في اللاهوت الواحد غير تتال من الأنماط أو العمليات) وطالبوا بعزله وإبعاده فكان لهم، لدى قسطنديوس، ما أرادوا وجرى نفيه إلى أرمينيه. وقد ذكَّر القديس يوحنا ذهبي الفم، 386م، أي بعد وفاة ملاتيوس بخمس سنوات، فخاطب الأنطاكيين بالكلمات التالية: "ما كاد ملاتيوس يصل إلى المدينة حتى نفاه أعداء الحقيقة منها. والله سمح بذلك ليبين فضيلة الرجل وجرأة المؤمنين في آن.. خلال إقامته خلّص المدينة، كموسى في مصر، من ضلالات الهرطقة وقطع عن بقية الجسد الأعضاء المغنغرة والميئوس منها، كما ردّ للكنيسة عافية لا تخامرها علّة. وإذ لم يطق أعداء الحقيقة مكابدة هذا الإصلاح أثروا في الإمبراطور وجعلوه ينفي الأسقف القديس ملاتيوس، ظانين بذلك أنهم انتصروا على الحق ومحوا أثر الإصلاحات المعمولة. ولكن حدث عكس ما أملوا.. في أقل من ثلاثين يوماً ثبّتكم بقوة في غيرة الإيمان حتى إنه بالرغم من شتى الرياح الألف التي نفخت، مذ ذاك، بقيت تعاليمه ولم تتزعزع؛ وأنتم، في أقل من ثلاثين يوماً، قبلتم، بهمة، البذار الذي نثره في نفوسكم، حتى إن جذوره تغلغلت إلى أعماقكم فلم تؤخذوا بأي من التجارب التي حلّت بكم، من ذلك الوقت".
هذا ويحكى أنه فيما كان حاكم المدينة يرافق القديس ملاتيوس في ساحة المدينة، في طريقه إلى المنفى، انهمر عليه – أي على الحاكم – وابل من الحجارة. لم يُطق المؤمنون أن يؤخذ أسقفهم عنهم. فما كان من ملاتيوس سوى أن شمل الحاكم بردائه حفاظاً عليه. وقد علّق الذهبي الفم على هذه الحادثة بقوله: "إذ أربك ميلاتيوس خصومه بصلاحه الفائق، على هذا النحو، علم تلاميذه أي صبر يجدر بنا التحلي به حيال من يضطهدوننا.."
وأُخرج ميلاتيوس وجُعل أفظويوس الآريوسي، شماس الإسكندرية السابق، محله. مذ ذاك أخذ الأرثوذكسيون يجتمعون على حدة في كنيسة الرسل، خارج المدينة في ضاحية بالايا وكان لهم كهنتهم، فيما بقي الافستاتيون في كنيسة صغيرة داخل المدينة.
ولم يطل الزمن حتى أخذت رياح التغيير تنفخ. 3/11/361م مات قسطنديوس في مبسوكرينه الكيليكية، إثر عودته من الحرب الفارسية. وقد حلّ محله يوليانوس الجاحد الذي اهتم بضرب الكنيسة واستعادة الوثنية. وتحقيقاً لرغبته سمح بعودة جميع الأساقفة المنفيين إلى كراسيهم مبقياً على الآريوسيين. كان يأمل في تأجيج الصراعات داخل الكنيسة بالأكثر لإيهانا. في المقابل أطلق العنان للوثنية وضرب بيد من حديد كل من تجرأ فوقف في وجهها وقاومها.
وضع يزداد نعقيداً
في ربيع العام 362م سلك ميلاتيوس طريق العودة من منفاه في أرمينيا إلى أنطاكية. ويبدو أنه تأخر قليلاً. القديس أثناسيوس الكبير عاد إلى الإسكندرية أبكر منه في آذار وجمع مجمعاً صغيراً بحث، فيما بحث، الوضع الأنطاكي. الأفستاثيون كانوا لديه حصن الأرثوذكسية الأنطاكية. سنة 346م حين مرّ بأنطاكية أقام الذبيحة الإلهية عندهم. لهذا السبب قال المجمع بانضمام الميلاتيين إلى الأفستاثيين وبضوروة قبول هؤلاء لأولئك. وتسهيلاً للأمر أوفد المجمع رسولين، أفسافيوس أسقف برقلة وأستاريوس البترائي، للقيام بالاتصالات التمهيدية لذلك. ولكن قبل أن يصلا إلى أنطاكية سبقهما متطرف نيقاوي عجول هو لوسيفوروس غاكلياري الذي قام بسيامة بولينوس الكاهن أسقفاً لأنطاكية واضعاً المجمع أمام الأمر الواقع. وهكذا باءت بالفشل محاولة القديس أثناسيوس ومجمعه لرأب الصدع بين الجماعتين الأرثوذكسيتين في أنطاكية.
فلما بلغ ملاتيوس أنطاكية ألفى الوضع في أسوء حال. خمس فئات متناحرة برزت على الساحة، يومذاك: الملاتيون بزعامة ملاتيوس، الأفستاثيون بزعامة بولينوس، الآريوسيون المعتدلون بزعامة أفظويوس، الآريوسيون المتطرفون بزعامة ثيوفيلوس الهندي، والأبوليناريون بزعامة فيتاليس.
حاول ميلاتيوس الامتداد صوب الأفستاثيون فصدوه. فأخذ يرعى شعبه ويلملم شتاته وينفخ فيه روح الثبات والمواجهة بإزاء الضغوط الوثنية المتنامية التي عمل يوليانوس الملك على إزكائها بقوة وعنف. بقيت الحال مشدودة على هذا النحو إلى أن قضى يوليانوس الملك نحبه متأثراً بجراحه في 26/7/363م، بعدما أصيب في إحدى المعارك ضد الفرس فخلفه جوفيانوس.
وأتيحت الفرصة لجمع أثناسيوس الكبير وميلاتيوس في أنطاكية في خريف 363م. جوفيانوس دعا أثناسيوس إلى لقائه في أنطاكية، وكان جوفيانوس أرثوذكسياً، فلبى أثناسيوس الدعوة. وإذ بُذلت المحاولة للجمع بين قطبي الإسكندرية وأنطاكية تلكأ ميلاتيوس، ربما بتأثير من حاشيته من الذين لم ترق لهم علاقة أثناسيوس بيولينوس، فاعترف أثناسيوس بأسقفية بولينوس وعاد إلى الإسكندرية، كما ذكر القديس باسيليوس الكبير في بعض رسائله (89، 214، 258). فازداد الأمر تعقيداً على تعقيد.
إلى المنفى من جديد
لم يعش جوفيانوس الملك طويلاً. في شباط 364م رقد فجلس والنس (364-378م) على سدة الإمبراطورية. هذا ما لبث أن وقع تحت تأثير زوجته الآريوسية فانحاز إليها مذهباً.
عادت الآريوسية إلى الواجهة مجدداً، وبوشر بإخراج الأساقفة الأرثوذكسيين من كراسيهم. ميلاتيوس كان في عداد هؤلاء. أوصى أفظويوس الأنطاكي الأريوسي بنفي وإبعاد ملاتيوس فتم له ذلك خلال العام 365م وانتُزعت الكنائس من المؤمنين. لكن يبدو أن ملاتيوس تمكن من العودة إلى كرسيه سنة 367م مستفيداً من انشغال والنس الملك بحربه ضد القوط وماولة انقلاب بروكوبيوس عليه. في تلك الفترة بالذات في حدود العام 369م عمّد ملاتيوس يوحنا العتيد أن يُلقب بـ "الذهبي الفم" وهو في سن الثامنة عشرة. لكن والنس ما لبث أن تخلص من أعدائه فجرى إبعاد ميلاتيوس من جديد سنة 371م، وقد بقي مبعداً في أرمينية إلى ما بعد وفاة والنس الملك في 9 آب 378م.
أرثوذكسية أنطاكية: كيف انخفظت؟
أكثر الأوقات التي كان فيها ملاتيوس أسقفاً على أنطاكية قضاها في المنفى. السؤال الذي لا بد من طرحه، والحال هذه، هو كيف انحفظت أرثوذكسية أنطاكية في غيابه عنها؟
أربعة عوامل أساسية فعلت في هذا الصدد:
أولاً: منذ تولي ملاتيوس سدة أنطاكية كان لشخصه على المؤمنين، ولو كانت الفترات التي لازمهم فيها محدودة، تأثير قوي بلغ حدّ الأسطورة لا سيما لما كابده من أجل الإيمان القويم. أضحى في الوجدان رمزاً للكنيسة الصامدة وأنموذجاً للشهادة الحيّة. الذهبي الفم عبَّر عن هذا الواقع في نفوس الأنطاكيين في عظته عن ملاتيوس بعد سنوات من وفاته. مما قاله عنه: "لا دروسه فقط ولا كلامه وحسب، بل مجرّدٍ مرآه كان كافياً ليجعل كل تعليم الفضيلة يخترق نفوس سامعيه". ثم أضاف، معرِّجاً على موقف الشعب منه، إثر إحدى عوداته من المنفى: "لما عاد إليكم، بعضكم ممن كان قريباً منه قبّل يديه ورجليه وسمع صوته، والآخرون الذين حالت دون اقترابهم منه كثافة الجموع، وشاهدوه عن بعد، كان لهم مجرّد منظره بركة كافية، وإذ حسبوا أنهم اشتركوا فيه كالأقربين، عادوا إلى بيوتهم ممثلين تماماً. حاله كانت محال الرسل.. فإن ضرباً من المجد الروحي فاض من هامة ميلاتيوس المقدسة، فشعر به كل من تعذّر عليه الدنو منه حتى إنهم عادوا أدراجهم مملوئين من كل أنواع البركات مع أنهم شاهدوه وحسب.."
ثانياً: بقي الشعب على اتصال براعيه. كان العديدون يذهبون إليه في منفاه ليتبركوا منه ويتزودوا بنصائحه ويتسلّحوا بتوجيهاته. أقنية الاتصال، إذن، بقيت مفتوحة رغم كل شيء.
ثالثاً: المؤمنون هم كانوا حفظة الكنيسة في غياب راعيها عنها. بين هؤلاء كان هناك رجال بارزون. إسمان حفظهمها لنا التاريخ: فلافيانوس وذيوذوروس. هذان صارا كاهنين في حدود 363م. فلافيوس هو إياه أسقف أنطاكية العتيد وذيوذوروس أسقف طرسوس. وإلى هذين انضم، فيما بعد، يوحنا ذهبي الفم.
رابعاً: كذلك لعب الرهبان والنسّاك دوراً مشهوداً له في تثبيت المؤمنين في أرثوذكسية الرأي. من الأدلة على ذلك ما أورده ثيوذوريتوس القورشي في "تاريخ أصفياء الله" عن أرآات الفارسي ويوليانوس الرهّاوي. عن الأول قال، بعدما وصف انقضاض والنس الملك على المؤمنين وتشريده لهم وملاحقتهم في كل مكان، أنه، أي أفرآات، تطوع من تلقاء نفسه للمعارك الدائرة. ورغم ممارسته الطويلة لحياة الهدوء والسكينة التي اختارها لنفسه، عائشاً في مأمن من كل النوائب، لما شدّة القتال القائم، لم يعد يسأل – كما يقال – عن راحته، بل قال الوداع مؤقتاً للسكينة وانضم إلى صفوف المؤمنين المجاهدين في الطليعة. وكان الفتّاك سيرة حياته وكلامه وعجائبه. وأضاف ثيوذوروس قائلاً إن والنس الملك كان يصادف أفرآات أحياناً ذاهباً إلى الميدان العسكري حيث كان المحلّ المقرّر لاجتماع إخوة الثالوث ولم يكن يعلم ماذا يجري هناك. وذات مرة، إذ كان أفرآات يسير على شاطئ النهر والملك يتطلع من فوق بوابة قصره، لفت أحد الحاضرين نظر الملك إليه، فسأله إلى أين يذهب بهذه السرعة فأجاب: أن ذاهب لأصلي لأجل المسكونة ولأجل مُلكك. قال الملك: ولكنك ناذر الحياة النسكية فكيف تترك مقرّ الهدوء.. فأجابه أفرآات: قبل أن تلومني على تركي الحياة النسكية لُمْ نفسك لأنك أنت وضعت النار في بيت الله. فلا تلمني لأني أحاول أن أخمدها..
هذا وقد عاد أفرآات إلى متابعة سيرته الاعتيادية بعدما هدأت العاصفة.
أما القديس يوليانوس الرهّاوي فادعى أتباعُ آريوس أنه انضم إليهم وبدا كأن لغطاً على وشك أن يضرب المؤمنين البسطاء فأرسل فلافيانوس وذيوذوروس بمن أطلع يوليانوس على ما حصل. للحال ودّع الشيخ الحياة النسكية إلى حين ونزل إلى أنطاكية دونما خوف من اضطرابات المدينة التي لم يعتد عليها. هناك احتضن المؤمنين وشفى مرضاهم وبلسم جراحات نفوسهم وشدّدهم في الإيمان القويم إلى أن عاد إلى مقره.
لغط ومساع
سنة 370م صار باسيليوس الكبير أسقفاً لقيصرية الكبادوك. باسيليوس كان يكن لميلاتيوس احتراماً وتقديراً كبيرين. كان يعتبره أسقف أنطاكية العظمى الأوحد. هذا الموضوع لا يقبل المناقشة لديه. أكثر أرثوذكس الشرق كانوا يقفون موقفه كأمفيلوخيوس الإيقوني وبلاجيوس اللاذقي وأفسافيوس السميساطي وكيرللس الأورشليمي وغريغوريوس النيصصي وغريغوريوس اللاهوتي، وكلهم قدّيسون في كنيسة المسيح. كما كان باسيليوس يعتبر أنطاكية أعظم كنائس المسكونة ويألم للحال الصعبة التي صارت إليها. اهتمامه بعافية أنطاكية كان حثيثاً من منطلق القناعة التي عبّر عنها لما لفظ قوله الشهير: "هل هناك أعظم من أنطاكية بين كنائس المسكونة!؟ فإذا ما ساد التفاهم فيها عاد الوفاق والوئام إلى غيرها" (رسالة 67). بناء عليه باشر باسيليوس اتصالاته بالقديس أثناسيوس الإسكندري، ومن خلاله بكنيسة الغرب، نظراً لمكانة هذا الأخير هناك. وقد أبدى القديس أثناسيوس تفهماً وتعاوناً طيبين، لكن المساعي التي بُذلت شطر الغرب لم تثمر الغرب لم تثمر لأن مفتنين عديدين كانوا على خط الاتصالات فبقيت صورة الكنيسة في الغرب، عن الوضع في أنطاكية، والمشرق عموماً، مبتورة وغير مطابقة للواقع، إن لم نقل مشوّهة، الأمر الذي عقد الأمور وأطال الأزمنة. كان باسيليوس يشكو عدم اطّلاع الغرب على حقيقة الوضع القائم في الشرق، لذا دعا وطالب بمبعوثين غربيين لاستطلاع الحقائق. ولكن عبثاً حاول فأُصيب بالاحباط. وعاد الأمر فتعقّد بالأكثر بعد وفاة القديس أثناسيوس سنة 373م وخلافة بطرس له. هذا كان معادياً لميلاتيوس وقد أحبط محاولة لإصلاح ذات البين بين ملاتيوس والغرب، لاسيما بعدما بعث باسيليوس وملاتيوس وعدد من أساقفة الشرق برسائل وبيانات إيمانية إلى بابا رومية ذاماسوس. بطرس الإسكندري الذي كان في رومية، في خريف 377م، ردّ بعنف وطلب إدانة ملاتيوس. باسيليوس استعرب الطعن بأرثوذكسية ملاتيوس. أليس إبعاد الآريوسيين المتكرّر لملاتيوس شهادة كافية لاستقامة رأيه؟
بقي وضع أنطاكية بقي متأزماً فيما لازم ملاتيوس المنفى إلى ما بعد وفاة والنس الملك صريعاً بيط القوط.
... واخيراً عاد
عاد ميلاتيوس إلى كرسيه مظفراً فب أواخر العام 378م. فعلى أثر تولّي غراتيانوس الحكم تم استدعاء المبعدين من منافيهم. بعد قليل من ذلك أوفد الإمبراطور أحد جنرالاته، شابور، لتسليم الفريق الأرثوذكسي ما سبق فاغتصبه الأفرقاء الآريوسيون من كنائس. كما قام ميلاتيوس بمحاولة أخيرة لتوحيد صف الملاتيين والأفستاتيين الأرثوذكسيين. اقترح أن يشترك ميلاتيوس وبولينوس برعاية الكنيسة معاً، رفض بولينوس الاقتراح فسلم شابور ملاتيوس جمل الكنائس المستردة. ولما توفي القديس باسيليوس الكبير في أول كانون الثاني 379م أضحى ملاتيوس وريث قيادة كنيسة المشرق ورمز الأرثوذكسية الصامدة وأب الآباء.
في خريف 379م دعا ملاتيوس إلى مجمع في أنطاكية ضمّ مئة وخمسين من الأساقفة. همّهم كان لملمة الكنيسة وتأكيد الإيمان القويم والامتداد صوب رومية وسواها من مراكز الثقل تثبيتاً لوحدة الكنيسة، وإزالة للغط السابق حصوله خلال مرحلة هيمنة الآريوسية، وتعالياً على الجراح التي أحدثتها تلك الهيمنة في تعاطي أقطاب الإيمان القويم الواحد، هنا وثمة، فيما بينهم. وقد تبيّن أن هذا المجمع كان بمثابة تمهيد للمجمع المسكوني الثاني 381م الذي دعا إليه ثيوذوسيوس الملك المعيّن إمبراطوراً للشرق بدءاً من السنة 379م وامتداداً إلى السنة 395م.
رئيساً للمجمع المسكوني الثاني
انعقد المجمع المسكوني الثاني في ربيع العام 381م. ميلاتيوس كان الأب والشيخ الأبرز. المجمع كان برئاسته. في هذا المجمع جرى، بهمّة واحتضان مرتيوس، تثبيت وتتويج غريغوريوس اللاهوتي أسقفاً على القسطنطينية.
وفاته
ما إن تقدّم المجمع المقدس في أبحاثه قليلاً حتى مرض ملاتيوس ومات. كان ذلك حوالي منتصف شهر أيار من ذلك العام، 381م، فبكاه آباء المجمع. حضر الإمبراطور مراسيم الدفن ورثاه عدد من الآباء البارزين بينهم القديس غريغوريوس النيصصي والقديس أمفلوخيوس الإقوني. ثم جرى، بعد ذلك، نقله إلى أنطاكية. سوزومينوس المؤرخ ذكر أنه "في ذلك الوقت نُقل جثمان ميلاتيوس إلى أنطاكية ودُفن بجوار ضريح الشهيد بيلا. ويقال أيضاً أنه بموجب أمر ملكي وجب تزييح الجثمان في الجادات الرئيسية داخل الأسوار في كل المدن التي مرّ بها بالصلوات والتراتيل إلى أن وصل أنطاكية". بعض من رفاته اليوم موجود في كنيسة القيامة في القدس وبعضها في المعهد اللاهوتي في خالكي، اسطنبول (القسطنطينية).
شهادات بشأنه
القديس يوحنا الذهبي الفم في عظته الرثائية الشهيرة التي تفوّه بها في 12 شباط سنة 386م دعا ميلاتيوس قدّيساً وذكره كأب محب. كل أنطاكية كانت حاضرة. تحدث عن محبة المدينة لأبيها، قال: "إن المغبوط ملاتيوس، الموارى في هذا الصندوق، ليس بعد مرئياً لعيون الجسد، ولكنه بكم، أنتم ثماره، يُظهر لنا قوّة النعمة التي فيه. حتى ولو لزمتُ الصمت فإن هذا المحفل وحرارة غيرتكم كفيلان بأن يدويا بقوة أشد من دوي البوق محبةَ ملاتيوس لأولاده. فلقد أضرم نفوسكم بمحبته لدرجة أنه بمجرد ذكر اسمه تشتعل النفوس وتندفع". وتابع الذهبي الفم فأشار إلى أنه قلّما توجد عائلة أنطاكية ليس ميلاتيوس اسم أحد أفرادها. الناس تخلّوا عن عادة اتخاذ أسماء آبائهم وأجدادهم بالجسد واستبدلوها باسم مرتيوس تبرّكاً. اسمه أضحى لبيوت المؤمنين زينة وضمانة وخلاصاً وتعزية. حيثما حللت في الأزقة والساحات، في الحقول والطرقات، سمعت اسم ميلاتيوس يتردّد. وهناك قوم كثيرون حفروا رسمه على فحوص خواتهم وأختامهم وطاساتهم وجدران أخدارهم.
وقد وصف الذهبي الفم إقبال المؤمنين على بقايا القديس ملاتيوس بأنه كاجتماع النحل على الشهد.
أم القديس باسيليوس الكبير فعمل بلا كلل على توحيد الكرسي الأنطاكي حول ميلاتيوس. ولما أثيرت التساؤلات حول استقامة إيمانه شهد له بأنه لا غبار عليه. عن رئاسة الرجل لقطيع أنطاكية قال في رسالة بعث بها إلى القديس أثناسيوس الكبير: "هذا أمر مرغوب فيه في كل المشرق وعندنا نحن المتّحدين معه في كل شيء. كلنا يرغب في أن يرأس كنيسة الرب هذا الذي لا مأخذ على إيمانه ولا يشقّ له غبار في الفضيلة وقداسة السيرة ولا أحقّ منه بالرئاسة على كل كنيسة أنطاكية. ومن الضروري، وبالنتيجة، ومن صالح الكنيسة، أن يلتفّ الجميع حوله ويّحوابرعايته كما تتحد الأنهار الصغيرة بالنهر الكبير".
من جهة أخرى وصف القديس غريغوريوس اللاهوتي ملاتيوس بأنه أسقف قدّيس، تقي، وديع، مخلص في عمله، لطيف في معشره، كريم النفس، متواضع القلب، وكنا نرى أنوار الروح القدس تتلألأ على محيّاه.
القدّيس أفسافيوس السميساطي الذي ورد أن قسطنديوس وقّع صكاً بشرعية ملاتيوس أسقفاً لإنطاكية وسلّمه إليه، أي إلى أفسافيوس، لما عاد الملك عن رأ]ه ورغب في استرداد الصك، أرسل يتهدده بتسليم ما لديه أو تُقطع يده، فمدّ يديه الإثنتين لمهدِّديه قائلاً: "إنه لأيسر عليّ أن تُقطع يداي من أن أخون ضميري ورجل الله ملاتيوس".
القّيس يوحنا الدمشقي، فيما بعد، اعتبر ميلاتيوس شهيداً.
أما القدّيس غريغوريوس النيصصي الذي كان أحد مؤبنيه فقال عنه: "ان عدد الرسل قد ازداد بانضمام هذا الرسول الأخير إليهم. أولئك القدّيسون اجتذبوا إليهم واحداً من معدنهم. المصارعون ضمّوا إليهم مصارعاً مثلهم، المتوّجون متوّجاً آخر نظيرهم، أنقياء القلب بتولاً في النفس، أولئك الخدّام للكلمة بشيراً للكلمة. مغبوط جداً، بالفعل، هو أبونا لانضمامه إلى الجوق الرسولي وخروجه إلى المسيح... إنه لموجع لنا أن نُحرم من توجيهه الأبوي.. الوقت حاجة إلى نصح وناصحُنا ساكن.. زعيمنا ليس بعد.. كوكبنا أفل.."
ومضى غريغوريوس، في حديث القلب عن ملاتيوس، فأسماه "العريس النبيل" ووصفه "بالسراج القائم فوق رؤوسنا" وبالسفينة "المحمّلة ألف بالة من الخيرات" وبالمركب البهي "الممتلئ من الروح القدس" وبمقبض دفّة مركب نفوسنا الذي يقودنا سالمين فيما نبحر وسط أمواج الهرطقة العاتية. وهو المرساة غير المتزعزعة للحكمة التي تحفظنا في أمان مطلق، والربّان الممتاز والقدّيس وأب الآباء.
وتابع غريغوريوس أنشودته عن ملاتيوس فقال أنه كان أحد نبلاء المشرق، لا عيب فيه، باراً، أصيلاً، غيوراً، بريئاً من كل شرّ. ثم أردف بلوعة قائلاً: "تلك العين التي عاينت السماويات ليست بعد فيما بيننا، ولا تلك الأذن التي سمعت صوت الله، ولا ذلك اللسان المبذول للحق. وتساءل: "أين الصفاء الحلو لعينيه؟ أين ابتسامته المشرقة على شفتيه؟ الينبوع قد خاب وجدول الماء قد نضب".
كذلك نوّه غريغوريوس بإيمان أنطاكية القويم وكيف أنها رأت في ميلاتيوس صورة الله وعاينت المحبة تدفق منه النعمة تنسكب على شفتيه. كما أشار فيه إلى كمال التواضع وإلى لطف كلطف داود وحكمة كحكمة سليمان، وصلاح كصلاح موسى، وصرامة كصرامة صموئيل، وعفّة كعفّة يوسف، وبراعة كبراعة دانيال، وغيرة على الإيمان كغيرة إيليا النبي، ونقاوة كنقاوة يوحنا المعمدان ومحبة فائقة كمحبة بولس.
أخيراً وليس آخراً، أشار غريغوريوس إلى الثوب الذي حاكته نقاوة سيرة ملاتيوس فجعلته ثوب المجد. ووجّه كلامه إلى الإنطاكيين قائلاً: "أخبروهم كيف أن المناديل التي لُفّ بها وجهه قد انتزعها المؤمنون لتكون لهم بركة منه.."
ملاتيوس في الليتورجيا
قانون صلاة السحر في خدمة اليوم هو من نظم ثيوفانيس. من الصفات التي تسبغها الخدمة عليه أنه قد بلغ مرتبة اللاهج بالله وسار سيرة الرسل وكان أصلب من الماس ومتّقداً غيرة في الإيمان. كما قالت عنه أنه اجتاز الغيمة المظلمة، المخبوءة جسدياً، وتلألأ في الروح، وأنه لما جاور الجمال الأول مماثلاً بهاءه ومستنيراً بالعزة الإلهية أمسى، بالشركة، للكنيسة نوراً ثانياً ومنارة للمؤمنين المبادرين إليه (قطعة الذكصا – الأودية الرابعة). وعن كيفية مواجهة ملاتيوس لبدعة آريوس، قالت: "ان البدعة الخرقاء التي ألحقت بالكنيسة أضرارً جمّة، قد تمكّنتَ منها، أيها الأب القدّيس، بشفافية روحك ونبلها، وبصلابة إيمانك وطهارتك، يا رئيس الكهنة ملاتيوس المغبوط" (طروبارية الأودية الخامسة).
هذا هو القديس ملاتيوس الذي لم يترك لنا كلمات كغيره من الآباء القديسين. فقط ترك لنا نفسه كلمة من الكلمة. وكما قال عنه القديس غريغوريوس النيصصي: "أنه يرى الله الآن وجهاً لوجه ويصلّي من أجلنا ومن أجل جهالة الشعب". بركاته تشملنا، آمين.
تحتفل كنيستنا الرومية الأرثوذكسية بتذكاره في الثاني عشر من شهر شباط من كل عام.
الأبوليتيكية على اللحن الرابع
لقد أظهرتك حقيقة الأحوال لرعيتك دستوراً للإيمان وتمثالاً للوداعة ومعلماً للإمساك أيها الأب البار ميلاتيوس. فلذلك اقتنيت بالتواضع الرِفعة وأحرزت بالفقر الغنَى. فتشفّع إلى المسيح الإله في خلاص نفوسنا.



