أنت هنا

الميلاد المجيد
25/12 غربي (7/1 شرقي)
"لما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة،
مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التنبني"
(غلاطية 4:4-5)
بميلاد الرب يسوع المسيح بالجسد من مريم البتول حلَّ ملءُ الزمان فتحقق قصد الله للعالمين وتمَّت مواعيده. هذا هو الذي به وعد الله بأنبيائه (رومية 1: 2) وعنه تحدث موسى والأنبياء والمزامير (لوقا 24: 44) وله تشهد الكتب المقدسة (يوحنا 5: 29). إليه، منذ فجر التاريخ، كان اشتياق كل نفس على نحو اشتياق العروس إليه في نشيد الأنشاد لما هتفت: "أنا لحبيبي وإلى اشتياقه" (نشيد 7: 10). واليوم اكتمل الزمان فبات بإمكاننا أن يخاطب بعضنا بعضاً كما خاطب فيلبس نثانائيل لما قال له: قد وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوعَ ابن يوسف الذي من الناصرة (يوحنا 1: 45)
الميلاد في الإنجيل
الكلام على ميلاد الرب يسوع المسيح بالجسد مفصلاً في إنجيلين وحسب هما إنجيل متى (1: 18، 2: 23) وإنجيل لوقا (2: 1-20).
أما متى الإنجيلي فجعل ولادة الرب يسوع في أيام هيرودس الملك المعروف بالكبير. هذا ملك على اليهودية بين عامين 37 و 4 ق.م هنا يُطرح سؤال كيف يمكن أن يكون هيرودس قد رقد في تاريخ سابق لميلاد الرب يسوع إذا كان الرب يسوع قد وُلد في زمانه؟ الجواب هو أن التاريخ على أساس ميلاد الرب يسوع بدأ في القرن السادس للميلاد بسعي راهب اسمه ذيونيسيوس اكسيفوس. هذا حسب، خطأ، أن ولادة السيد كانت في السنة 753 لتأسيس مدينة روما. ولكن تبين فيما بعد، أن هيرودس رقد قبل ذلك بأربع سنوات، أي في السنة 749 لتأسيس روما. فتكون وفاة هيرودس قد حدثت، وفق تقويم ذيونيسيوس الميلادي في 4 ق.م أما ولادة الرب يسوع فليس تاريخها معروفاً بصورة محددة دقيقة. ويوقعه الدارسون ما بين السنة التاسعة والسنة الرابعة قبل الميلاد.
أما لوقا الإنجيلي فجعل ولادة الرب يسوع بعد ولادة يوحنا بن زكريا بما يقرب من الأشهر الستة. ومع ذلك فقد ربط لوقا ولادة الرب يسوع بحدث تاريخي من زمن اوغسطوس قيصر (29ق.م – 14 ب.م) هو إحصاء السكان في "كل المسكونة" على حد تعبير لوقا، أي في كل الإمبراطورية الرومانية، لأغراض ضريبة أولاً. هذا المسح السكاني أسماه لوقا "الإكتتاب الأول". الوالي الروماني على سوريا، في ذلك الحين، كان يُدعى كيرينيوس، يُظن أنه تولى الاشراف على السياسة الرومانية في الشرق الأدنى منذ العام 12 ق.م
كانت ولادة الرب يسوع في بيت لحم الواقعة في اليهودية تمييزاً لها عن بيت لحم الواقعة في زبلون. تبعد عن أورشليم حوالي ثمانية كيلومترات بجهة الجنوب. لوقا يدعوها "مدينة داود" لأن داود منها (راعوث 1:2)، وفيها اقتبل المسحة الملوكية بيد صموئيل النبي (1 ملوك 16). كذلك بقرب بيت لحم ماتت راحيل قديماً ودفنت ونُصب عمود على قبرها (تكوين 35: 19-20) وعن بيت لحم كتب ميخا النبي يقول: "أما أنت يا بيت لحم، أفراثه، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم من أيام الأزل" (ميخا 5: 2)
ليس الموضع الذي ولد فيه الطفل يسوع في بيت لحم، محدداً. متى الإنجيلي يكتفي بذكر بيت لحم بعامة. فيما يذكر لوقا أنه لما ولدت مريم ابنها البكر قمطته وأضجعته في المذود "إذ لم يكن لهما موضع في المنزل". المكان، إذاً، مزرب للحيوانات. ولكن، هل كان مزرباً تابعاً لأحد الخانات أم لأحد المنازل في القرية. وأي منزل يكون؟ ليس واضحاً. تجدر الاشارة إلى أن أول من ذكر أن الولادة كانت في مغارة في بيت لحم كان القديس يوستينوس الشهيد (القرن 2م)
أما مدينة الناصرة التي تقع على بعد ستة وثمانين ميلاً شمالي أورشليم، في الجليل، فهي المدينة التي أقام فيها يوسف ومريم قبل وبعد ولادة الرب يسوع. هذا حسب نص لوقا الإنجيلي (2: 39). أما عند متى فالبادي أن يوسف ومريم كانا يسكنان في اليهودية. وربما في بيت لحم بالذات. ثم انتقلا إلى الناصرة. إثر حلم، بعد ولادة الرب يسوع، هوفاً من أرخيلاوس ابن هيرودس الذي كان على اليهودية وكان بطّاشاً (متى 2: 22-23)
ولد الرب يسوع من مريم البتول بعدما حُبل به فيها من الروح القدس (متى 1: 20، لوقا 1: 35) من غير أن تعرف رجلاً. مريم كانت عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف (لوقا 1: 27). هو دُعي رجلها (متى 1: 19) وهي دعُيت امرأته (متى 1: 20) لأن الخطوبة، في الشريعة الموسوية، عقد زواج ملزِم ولو نقصه العرس ليكتمل وأن يأخذ الزوج امرأته إلى خاصته (راجع تثنية 22). تردد يوسف، أول أمره، لما عرف أن مريم حُبلى. خطر بباله أن يُطلقها. وإذ كان باراً ولم يشأ أن يعرضّها للفضيحة وللموت رجماً همَّ أن يفعل ذلك سراً. في الشريعة الموسوية تُرجم الزوجة وكذلك العذراء المخطوبة إذا تبين أنها عرفت رجلاً غير رجلها. هنا تدخل ملاك الرب وكشف له حقيقة أمر مريم ودعاه لأن يأخذها إلى خاصته غير مرتاب. وأن يعطي الابن الموعود اسم يسوع. تسمية المولود الجديد كانت، في العرف، امتيازاً لأب الولد، وكانت بمثابة إقرار منه انه ابنه الشرعي. تجدر الإشارة إلى أن الابن الشرعي عند اليهود كان يحسب من نسب أبيه بغض النظر عما إذا كان من صِلبه أم بالتبني أو بالتربية. لهذا جاز السبب القول عن يسوع أنه ابن يوسف (متى 12: 55، لوقا 4: 22) – مع انه دُعي أحياناً ابين مريم (مرقس 6: 3) ـ وتالياً أنه ابن داود ولو لم يكن هناك ما يؤكد، في النصوص الكتابية، أن مريم أمه كانت هي أيضاً من "بيت داود وعشيرته". على أن هذا لم يمنع بعضاً من الآباء والمعلمين المسيحيين من تأكيد نسبة مريم إلى آل داود. منذ وقت مبكر، كالقديس اغناطيوس الانطاكي (+ 107م) والقديس يوستينوس النابلسي الشهيد (+ 165م) وأوريجانيس المعلم (+254م) والقديس يوحنا ذهبي الفم (+407م)
هذا وان الهمّ الأول لمتى الرسول في روايته كان التأكيد أن هذا هو المسيح المخلص الموعود به لإبراهيم داود. لذا افتتح انجيله بهذا القول: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم، ثم فصّل. كذلك حرص على تبيان أن من تحدثت عنه الكتب المقدسة هو إياه الرب يسوع. لذلك لم يكفّ عن الترداد أن هذا وذاك من تفاصيل ما حدث كان إتماماً لقول الرب بهذا أو ذاك من الأنبياء.
أما لوقا الرسول فكان له في إنجيله أفق مختلف. همّه كان بالأحرى التأكيد أن ولادة الرب يسوع كانت حدثاً تاريخياً وأنها تمتّ إلى آدم وبالتالي إلى كل شعوب الأرض. الخلاص، إذاً لكل المسكونة، يهوداً وأميين.
الإحتفال بالميلاد
أولى علائم الإحتفال بعيد ميلاد الرب يسوع له المجد بدت في مصر قرابة العام 200م الإشارة إلى ذلك وردت على لسان القديس كليمنضوس الإسكندري. ويبدو أن المصريين كانوا يحتفلون بميلاد الرب يسوع في 20 أيار. ثم في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي تحدد أن يكون السادس من كانون الثاني، في مصر، عيداً لميلاد الرب يسوع وظهوره (الغطاس). ولكن بدأ من خلال مواعظ للقديس غريغوريوس النيصصي أن المؤمنين في بلاد الكبادوك كانوا يحتفلون بالعيد نفسه ولكن في 25 كانو الأول. أما في أورشليم فتجاهلت الكنيسة عيد الميلاد حتى القرن السادس م. فيما يبدو أن القديس يوحنا الذهبي الفم أدخله إلى أنطاكية في حدود العام 386م وإلى القسطنطينية ما بين العامين 398 و 402م أما في روما فقد أخذت الكنيسة تحتفل بميلاد السيد منذ العام 354م
لماذ اختير الخامس والعشرون من كانون الأول موعداً للاحتفال بالعيد؟ لا نعرف تماماً. ولكن بغلب الظن أن ذلك مرتبط بقصد الكنيسة في إفراغ الأعياد الوثنية من مضمونها الوثني وصرف أنظار المهتدين الجدد عن الأوثان، التي كانوا يعبدونها، إلى المسيح، وكذلك تنقية الأعياد والممارسات، التي سبق لهم أن اتبعوها، مما لا يتفق والإيمان الجديد. تغييرل وجهة هذه الأعياد من دون الطعن بها في الشكل أو السعي إلى إلغائها كان عمل حكمة فذاً لأن ما هو راسخ في وجدان الناس لا يُلغى بقرار. تحويله أيسر وأكثر واقعية. من ذلك مثلاً عيد مولد الشمس التي لا تُقهر. هذا كان يٌحتفل به عند الوثنيين يوم 25 كانون الأول بالذات. القديس كبريانوس القرطاجي (القرن 3م) يذكر أن الاحتفال بميلاد الشمس التي لا تُقهر إنما يجد كماله في الاحتفال بميلاد الرب يسوع الذي هو وحده شمس البر التي لا تُقهر.
لاهوت الميلاد
في الميلاد نحتفل بالتجسد الإلهي، أن ابن الله الوحيد صار إنساناً. عندما نقول ابن الله الوحيد نقصد من ورد الكلام عنه بشيء من التفصيل في دستور الإيمان حيق جاء: "أؤمن... وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنس.." ولكن ما معنى ذلك؟ ما معنى ان ابن الله الوحيد صار إنساناً؟ معناه أن ابن الله الوحيد اتخذ، كشخص، طبيعتنا البشرية، اتحد بها، صارت له وفيه. كل ما هو بشري فينا اشترك هو فيه. ليست هناك وضعية أو إمكانية بشرية واحدة الا ولها أصول طبيعية، اشترك الرب يسوع المسيح فيها. شيء واحد لم يشترك الرب يسوع معنا فيه: الخطيئة. ابن الله المتجسد منزه عن الخطيئة من طبيعة الإنسان بل من عمل إرادته. الله خلقنا أصحاب إرادة نريد أو لا نريد. نقبل أو نرفض. فكانت لنا من ذلك رفعة عظيمة لأن الله جعلنا نظيره، على صورته كما تقول كتبنا. أعطانا أن نختار بين أن نكون معه وأن نكون من دونه. الاختيار هنا مرتبط بالمحبة. لا إكراه في المحبة. فإذا ما أحببناه اتحدنا به. نحن فيه وهو فينا. صرنا مثله. وإذا لم نحببه انقطعنا عنه. هذا الانقطاع عن الله نسميه خطيئة. من التصق بالله لم يعرف خطيئة. لذا قيل: "كل من ولد من الله لا يخطئ" (1 يوحنا 5: 18). ثم الخطيئة تلوّث الطبيعة البشرية، تضعفها، تستعبدها، تذلها، تميل بها إلى اتجاهات ليست مطبوعة عليها في الأساس. الخطيئة الأولى كانت بآدم وحواء. كل إنسان، منذ ذاك، احتضن، رغماً عنه، طبيعة بشرية معيوبة ومعطوبة. هذا العيب الذي انطوى، في الحقيقة، على آثار الخطيئة والميل التلقائي إليها، ورثناه عن الذين سبقونا. وحده الرب يسوع كان خالياً من هذا العيب. والسبب أنه الوحيد الذي لم يولد من زرع بشري. لذا قلنا إن الرب يسوع كان من دون خطيئة. وقد وضعته أمه من دون ألم لأنها حبلت به من دون هوى (القديس غريغوريوس بالاماس).
وإذ تجسد ابن الله الوحيد من مريم البتول حمل خطايانا وكل ما ترتب عليها في جسده. حملها وكأنها خطاياه هو. هذه هي صورة عبد الله كما رسمها أشعياء النبي (53: 4-8) "حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا... طُعن بسبب معاصينا وسُحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من أجل سلامنا.. كلنا ضللنا كالغنم.. فألقى الرب عليه إثمنا كلنا.. وبسبب معصية شعبي ضُرب حى الموت". والرسول بولس عبر عن تدبير الله الآب في هذا الشأن: "جعل الذي لم يعرف خطيّة، خطيّةً لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كورنثوس 5: 21). "صار لعنة لأجلنا" (غلاطية 3: 13) على حد تعبيره. وأول من لامس سر تدبير الله هذا، سر البراءة المبذولة كان لص اليمين لما قال عن نفسه، وبالأحرى عن الناس أجمعين: "أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلناه وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله، ثم قال ليسوع: اذكرني يا رب متى أتيتَ في ملكوتك" فجاءه الجواب على الفور: "الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوي" (لوقا 23: 41-43).
لماذا فعل الله ما فعله؟ لأنخ محبة. لا نقول فقط لأنه يحب. هو الحبيب وهو المحبوب وهو المحبة في آن، المحبة هي الله فينا. والمحبة تفترض أن يشترك الحبيب في ما لحبيبه. لهذا اتخذ ابن الله الوحيد جسدنا واشترك في شقائنا وعانى من خطايانا. كما تفترض المحبة أن يبادر الحبيب إلى نجدة حبيبه. إلى مواجهة ما أخفق حبيبه في مواجهته، إلى خوض معركته عنه، إلى إطلاقه من أسر الخطيئة والموت له. لهذا لم دخل الرب يسوع مجمع الناصرة، في مستهل بشارته قرأ من سفر اشعياء النبي هذه الكلمات: "روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالاطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لوقا 4: 18-19). ثم عقب بالقول: "اليوم تمّ هذا المكتوب في مسامعكم". والرب يسوع فعل ذلك، مات لأجل الجميع "كي يعيش الأحياء فيما بعد لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام" (2 كورنثوس 5: 15). المحبة تستدعي المحبة. "يا بني أعطني قلبك"(أمثال 23: 26)
ةإذا كان الرب الإله قد اتخذ ما لنا فقد أعطانا أيضاً ما له. أعطانا نفسه. أعطانا روحه. أعطانا جسده. هو لنا بمثابة آدم الجديد. ولدنا من جديد بروحه القدوس. ولدنا من فوق (يوحنا 3). "ولدنا ثانية" (1 بطرس 1: 3). كل ما حققه الرب يسوع في جسده: الغلبة على الموت، الغلبة على الخطيئة، الغلبة على الشرير.. كل ها حياتنا ورجاءنا، إذا ما أسلمنا أنفسنا إليه بالمحبة. إذا ما عشنا من أجله. هذا هو مضمون الإيمان الحي الخلاصي بالمسيح. "من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يُدّن" (مرقس 1+6:16). والخلاص لا يعني الخلاص من الخطيئة والموت وحسب، ولا يعني العودة إلى الحالة التي كان عليها آدم قبل السقوط فقط، بل، بالأحرى، اقتناء روح الرب، أن تكون حياته فينا، أن نعرفه، أي أن ندخل معه في شركة المحبة، أن تكون محبته فينا. أن نعاينه كما هو. "أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يُظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو" (1 يوحنا 3: 2). الخليقة الجديدة، بهذا المعنى الخليقة بآدم الجديد. أعظم بما لا يُقاس من الخليقة العتيقة بآدم الأول. وفي تدبير الله أن الحليقة الأولى كانت من أجل الثانية. هذا تسميه كتبنا ويسميه آباؤنا تأليهاً. "نحن ذرية الله" (أعمال 17: 29). "شركاء الطبيعة الإلهية" (2 بطرس 1: 4) القول المزموري "أنا قلت إنكم آلهة وأبناء العلي أجمعون" (مزمور 81: 6) حسبه الأقدميون مجازياً. أما وقد تجسد ابن الله الوحيد وأعطانا أن نصير، بالإيمان به، أبناء للعلي" (يوحنا 1: 12) فلم يعد كذلك لأن الإنسان قد صار بالنعمة بالتبني، بروح الرب، إلهاً حقاً. وقد أوجز آباؤنا تدبير الله، في هذا الشأن، بالمقولة المشهورة: "صار الله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً" (القديس أثناسيوس الكبير وغيره)
يبقى على الإنسان، متى آمن بالرب يسوع، أن يحفظ الأمانة إلى آخر أيام حياته على الأرض. "كن أميناً إلى الموت فأعطيك إكليل الحياة" (رؤيا 2:10). والأمانة تحتاج إلى تعب وجهد. بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السموات" (أعمال 14: 22) كيف لا والجسد ضعيف! الله لم يلغ ضعف الناس بل سكن فيه. السقوط دائماً وارد. المهم متى سقطنا أن ننهض من جديد. هذا العزم على النهوض من جديد، هو ما نسميه التوبة. المهم ألا نيأس، أن يكون لنا رجاء. أن نثبت على الأمانة ومن "يثبت إلى المنتهى فهذا يخلص" (متى 10: 22). كل ما نمر به، في نهاية المطاف، ينفعنا إذا كنا نحب الله ونلتمس إرادته. كل ما يأتي علينا من ضيقات ومشقات يعزز فينا تواضع القلب إذا ما وضعنا رجاءنا في الله. وما بغير التواضع نماثل الله ونستوعب عطيته التي لا يعبّر عنها. "تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" (متى 11: 29). لقد كان التواضع طريق ابن الله الوحيد إلينا بالتجسد لكيما يكون التواضع طريق المؤمنين إليه بالقداسة. التواضع طريق الكاملين.
ذكرى سجود المجوس
ورد الكلام عنهم في إنجيل متى وحده
بالعودة إلى ما يطلعنا عليه تاريخ الأقدمين، تُنسب إلى المجوس جملة من الاختصاصات كان بعضها معروفاً عنهم في هذا الزمان وبعضها في ذاك. فقد ذكر أنهم تعاطوا علم الفلك وعلم التنجيم وتفسير الأحلام والرؤى والعرافة، وأنهم كانوا، في بعض الأوقات، كهنة أو سحرة. أما الصفة الغالبة عليهم في إنجيل متى فهي أنهم كانوا خبراء في التنجيم.
من أين المجوس تماماً؟ ليس واضحاً. بعض الدارسين يحسبهم من بلاد فارس والبعض الآخر من العربية أو من الصحراء السورية.
بالنسبة للنجم الذي رآه المجوس لا يبدو أنه كان نجماً كبقية النجوم، بل هادياً نورانياً مرسلاً إليهم من الله. نقول هذا، خصوصاً لأن حركته تدلّ عليه، فإنه ظهر في المشرق ثم تقدمهم ووقف حيث كان الصبي فهو، والحال هذه. أدنى إلى الملاك الذي اتخذ شكل النجم لينقل للمجوس رسالة بلغة يفهمونها.
ليس عدد المجوس في نص متى الإنجيلي محدداً، ولكن ورد أنهم لما أتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع أمه، خروا وسجدوا وقدموا له هدايا. ذهباً ولباناً ومراً. على أن القدامى، منذ القرن الثالث للميلاد أشاروا إلى أكثر من عدد لهم، إثنين أو ثلاثة أو أربعة أو حتى اثني عشر.
أما القول بأن المجوس كانوا ملوكاً من المشرق فقد أخذ يتردد بين بعض المسيحيين منذ القرن الثاني للميلاد. ربما اعتقاداً منهم أن ما ورد في المزمور 72 قد تمّ بسجود المجوس للطفل الإلهي. تالآيتان 10و11 تذكران كيف أن "ملوك ترسيس والجزائر يحملون إليه الهدايا. ملوك العرب وسبأ يقربون له العطايا. وله يسجد جميع الملوك. وله تتعبد كل الأمم". ويستتبع ذلك الظن أن المجوس كانوا طليعة الأمميين الذين آمنوا بالمسيح وتعبدوا له.
هذا وقد أخذ المجوس يظهرون في رسوم المسيحيين الأولى في دياميس روما ابتداء من القرن الثاني للميلاد. كما يذكر التاريخ أن الإمبراطور البيزنطي زينون استقدم رفاتهم من فارس إلى مدينته المتملكة، القسطنطينية، عام 490م. وان هذه الرفات انتقلت إلى ميلانو الإيطالية عندما سلبها الصليبيون، وفي عام 1162م نقلت إلى مقاطعة كولونيا حيث ما يزال أكثرها إلى اليوم.
أما تاويل القول بأن الهدايا التي قدمها المجوس كانت تعبيراً عن إيمانهم به ملكاً (الذهب) وإلهاً (اللبان) وفادياً متألماً (المرّ)، هذا التأويل ظهر أو ما ظهر عند القديس إيرينيوس اليوني في القرن الثاني للميلاد. ولكن وردت أيضاً في التراث تأويلات أخرى كمثل أن الذهب يشير إلى الفضيلة واللبان إلى الصلاة والمرّ إلى ألألم.
عندما وصل المجوس إلى أورشليم سمع بهم هيرودس الملك المدعو بالكبير. وعلم أنهم يبحثون عن يسوع ملك اليهود. فخاف على ملكه. فاستدعاهم وطلب منهم أن يبحثوا عن الطفل يسوع ويعلموه مدعياً أنه يريد زيارته وتقديم له الهدايا. ولكن ما حدث غير ما كان هيرودس يشتهي. فبعد أن زار المجوس الطفل يسوع في مغارة بيت لحم. وهم في طريقهم جلسوا يستريحوا في مغارة تبعد نحو خمسة كيلومرات عن بيت لحم. فظهر لهم ملاك الرب وأخبرهم أن لا يعودوا إلى هيرودس بل يذهبوا بسرعة إلى بلادهم لأن هيرودس مزمع بقتل الطفل يسوع. وهذكا فعلوا بحسب أمر الملاك.
المغارة التي ظهر بها الملاك للمجوس موجودة اليوم في دير القديس ثيوذوسيوس رئيس الأديرة أو ما يسمى من السكان المحليين دير ابن عبيد. وهو موجود على طريق أورشليم بيت لحم القديمة. وهو على مفترق طرق منه يتجه الحاج إلى دير القديس سابا المتقدس.
ذكرى الرعاة الذين عاينوا السيّد طفلاً
ورد ذكرهم في إنجيل لوقا (2: 8-20)
كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم على بعد ما يقرب الميلين من بيت لحم اليهودية بجهة البحر الميت. موسم الرعاية في تلك الأصقاع يمتد في العادة ما بين شهري آذار وتشرين الثاني. ولادة الطفل يسوع يمكن أن تكون قد تمت بين هذين الحدّين.
وقف ملاك الرب بالرعاة في الليل. ارتعد الرعاة لرؤية ملاك الرب فهدأ من روعهم ثم بشرهم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. والخبر هو "أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب" الرعاة، بحسب هذا الكلام هم طليعة المبشرين بورود المخلص.
ثم أن ملاك الرب أعطى الرعاة علامة "تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود". مولود مسيحنا لم يكن موضع اهتمام كثير كملوك هذا الدهر. ولادته كانت لا في الحرير بل في مذود حقير. ولعل مذود السيد صدى لقول شاع بين المعلمين اليهود قديماً أن آدم بعدما ما حلّت به اللعنة سأل: أمشدوداً إلى مذود أكون. أشارك حماري علفه؟ ربما! أو ليس السيد في كل حال، آدم الجديد ولوقا الإنجيلي يربطه في سلسلة أنسابه، بآدم ابن الله؟ أم لعل لوقا شاء أن يبرز إقبال المخلص على الأمميين استناداً إلى قول أشعياء النبي "الثور يعرف قانيه والحمار معلف سيده أما إسرائيل فلا يعرفني شعبي لم يفهمني" (1: 3)
وكان أن خرج الرعاة إلى بيت لحم فلما نظروا ما أعلمهم به الرب شهدوا بما قيل لهم وسبحوا الله على ما سمعوا ورأوا.
أما المكان الذي ظهر به ملاك الرب للرعاة، أشادت الملكة هيلانه عليه كنيسة الرعاة، وما زالت آثار هذه الكنيسة موجودة بجانب كنيسة الرعاة الجديدة التابعة لدير مار سابا في بلدة بيت ساحور.
ذكرى الهروب إلى مصر
وشاء هيرودس الملك أن يفتك بالطفل يسوع فظهر ملاك الرب ليوسف في الحلم وأمره أن يأخذ الطفل وأمه ويهرب إلى مصر ويبقى فيها حتى يقول له. فقام يوسف وانضرف إلى مصر كما أمره ملاك الرب وبقي فيها إلى وفاة هيرودس. إذ ذاك عاد إلى بلاده فتمّ ما قيل بهوشع النبي القائل: "من مصر دعوت ابني"(هوشع11: 1)
كم بقي يسوع في مصر؟ لا نعلم بالتأكيد. ما بين سنة وخمسة سنوات على حسب تقدير الدارسين. مصر، منذ القديم، كانت ملاذاً لليهود الهاربين من بلادهم لسبب أو لآخر.
ما تعرض له يوسف ومريم والطفل يسوع في هروبهم إلى مصر يمكن أن يتعرض له كل إنسان. لقد ماثل الرب الإله المتأنس تماماً. كان يمكن له أن يتجنب ويجنب أمه ويوسف مشقات كثيرة. لكنه لم بفعل. لم يظهر عجائبه لأنه شاء أن يؤكد إنسانيته. أنه صار إنساناً بكل معنى الكلمة وعانى كما يعاني الناس ومما يعانونه. بكلمات القديس يوحنا الذهبي الفم "لو أنه منذ طفولته المبكرة أظهر عجائبه لما حُسب إنساناً" (الموعظة 8 حول متى). لهذا السبب لم تقبل الكنيسة ما ورد في كتب الأبوكريفا والمنحولة عن عجائب وغرائب أتاها الرب يسوع وهو طفل. ان قوة الله وعنايته تظهران، والحال هذه، في الضعف البشري. لقد أخلى الله نفسه وأخذ صورة عبد وصار على مثال الناس. (فيلبي 2: 7).
ثم أن ما جرى للرب يسوع المسيح طفلاً يعطينا صورة عما يجب علينا أن نتوقعه في حياتنا كمؤمنين به وما يجب أن تكون عليه سيرتنا. لم يواجه الرب الإله الشرّ بالشرّ ولا ألغى ضيقات الناس بل اتخذها. أي ملأها من حضوره وجعلها سبيلاً إليه. فليس بعد غريباً أن نقرأ أنه "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السموات". ولا يعثرنا، في ضوء هذا الكلام، ما تعرض له رسل المسيح وشهداؤه وما يتعرض له المؤمنون به، بعامة، في كل زمان وماكن. مثل هذا ما ذكره الرسول بولس عن الآلام والأخطار التي عبر بها لأجل البشارة: "...تثقلنا جداً فوق الطاقة حتى يئسنا من الحياة أيضاً، لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين على أنفسنا بل على الله الذي يقيم الأموات" (2 كورنثوس 1: 8-9). هذه هي حال المؤمنين بالمسيح في كل جيل: "مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين. متحيّرين لكن غير يائسين. مضطهدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين. حاملين في الجسد كل حين اماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا. (2 كورنثوس 4: 8-10)
ثم أن خروج الرب يسوع المسيح طفلاً إلى أرض مصر باركها وزرع الروح فيها وزرع أصنامها. فكأنه تحقق اليوم قول أشعياء النبي: "هوذا الرب راكب على سحابة خفيفة سريعة وقادم إلى مصر. فترتجف أوثان مصر من جهة ويذوب قلب مصر داخلها.. في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر.. فيُعرف الرب في مصر ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم ويقدمون ذبيحة وتقدمة للرب انذاراً ويعرفون به.. مبارك شعبي مثر" (أشعياء 9). ها هي الأرض التي عانقها الرب الإله بجسده وروحه تتحول فردوساً، لا سيما براريها، لتصير موطناً للرهبان أشباه الملائكة. وها هو الذهبي الفم يدعو المؤمنين إلى مصر الرهبنة والشهداء قائلاً: "هلموا إلى برية مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات من الطغمات الملائكية في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليين.. لقد تهدم طغيان الشيطان. وأشرق ملكوت المسيح ببهائه".
طروبارية الميلاد باللحن الرابع
ميلادك أيها المسيح إلهنا. قد أطلع نور المعرفة للعالم. لأن الساجدين للكواكب به تعلموا من الكوكب السجود لك يا شمس العدل وأن يعرفوا أنك من مشارق العلو أتيت يا رب المجد لك.