أنت هنا
القديس فوتيوس المعترف
بطريرك القسطنطينية (+891م)
6/ 2 غ (19/2 ش )
نشأته:
ولد القديس فوتيوس المعترف سنة 820م لعائلة مميزة. أبوه سرجيوس وأمه إيريني معترفان في الكنيسة. يُعيّد لهما في السنكسار البيزنطي في 13 أيار. قاوما الإمبراطور ثيوفيلوس (829-842م) لسياسته المعادية لإكرام الأيقونات فتعرضا للنفي. وقد ذكر فوتيوس نفسه في رسالة له، فيما بعد، أن عائلته بكاملها بمن فيها عمّه، البطريرك القدّيس تراسيوس (+806م)، أبسلهم أحد المجامع المعادية للأيقونات. ويبدو أن أملاك العائلة، وهي كثيرة، قد صودرت. سيرجيوس، كما ورد، اقترن بإيريني، أخت الإمبراطورة ثيوذوره، المدافعة عن الأيقونات. مصادر أحرى ذكرت أن من تزوّج من أخت الإمبراطورة كان خاله لا شقيقه. في جوٍ مشبعٍ بالاهتمامات الكنسية، إذن، نشأ فوتيوس. الدفاع عن الإيمان القويم كان إرثاً عائلياً درج عليه قدّيسنا طيلة حياته.
إلى ذلك تسنّى لفوتيوس أن يحصل ثقافة واسعة في مختلف ميادين العلم الكنسي والدنيوي في آن. لم يترك مجالاً من مجالات المعرفة في زمانه إلا سبر غوره حتى أضحى أكثر أهل زمانه علماً وأبرز وجوه النهضة الفكرية في بيزنطية بعد مرحلة اضطهاد الأيقونات.
المعلم والموظف الكبير
في إحدى رسائل القدّيس فوتيوس إلى البطاركة الشرقيين ذكر أنه ماتل في شبابه إلى الحياة الرهبانية لكنه التزم التعليم، استاذاً في الجامعة الملكية في قصر مغنورة، بعدما عيّنه فيها ثيوكتيستوس، رئيس وزراء الإمبراطورة ثيوذوره، معلماً للفلسفة الأرسطوطاليسية واللاهوت. وما لبث، بعد حين، أن جرى تعيينه مديراً للمحفوظات الملكية وعضواً في مجلس الشيوخ. في العام 855م ترأس سفارة إلى حاضرة الخليفة العباسي، المتوكل، في بغداد. هناك، فيما يبدو، وبناء لطلب أخيه، وضع ما يُعرف بالميريوبيلوس أو "الكتبة" وهو مؤلف ضمّنه فوتيوس خلاصات مئتين وثمانين من أعمال القدامى وتعليقات عليها. يذكر أن عدداً من الذين كتب فوتيوس عنهم ضاعت أعمالهم ولم يبق لنا غير "المكتبة" شادة لها. مصل هؤلاء ستاسياس وممنون وكونون وذيوذوروس سيكولوس.
بطريركاً رغماً عنه
كان القديس فوتيوس خارج المدينة المتملكة "القسطنطينية" عندما جرت فيها أحداث سياسية غيّرت مجرى الأمور وحملت فوتيوس إلى رأس سلّم الإدارة الكنسية. فلقد نجح برداس، شقيق الإمبراطورة ثيوذوره، بتشجيع من الإمبراطور الحدِث ميخائيل الثالث، في إنهاء ولاية شقيقته بالوصاية عن ابنها بعدما فتك برئيس وزرائها ثيوكتيستوس، ونصّب وصيّاً محلها. أوساط الليبراليين والمفكرين ساندته فيما وقف المحافظون بجانب ثيوذوره. القديس أغناطيوس، بطريرك المدينة المتملكة الذي سبق للإمبراطورة النخلوعة أن عيّنته، كان من المحافظين، لذا فقد حظوته لدى الحكومة الجديدة. ويبدو أن أتباعه أطلقوا للسانهم العنان في إذاعة أخبار مشينة طعنت بحياة برداس الشخصية. فلما جرت محاولة فاشلة لإعادة ثيوذورة إلى الحكم، أُلزمت وبناتها بأخذ النذور الرهبانية. أغناطيوس، من ناحيته، رفض أن يبارك ثوبهن الرهباني دلالة على عدم رضاه وانصياعه لتدبير برداس. وإ بدا كأن أزمة في العلاقة بين الدولة والكنيسة على الأبواب، نصح بعض الأساقفة أغناطيوس بالاستقالة للحؤول دون ذلك فنزل عند رغبتهم وطلب من مناصريه أن يختاروا لهم بطريركاً آخر غيره. فلما التأم مجمع محلي للنظر في الأمر، برز الصراع واضحاً وحاداً بين فريقين من الأساقفة. وإذ غلب، في نهاية المطاف، الاتجاه التوفيقي بعدم اختيار بطريرك من بين الأساقفة المتناحرين، استقر رأي الجميع على اختيار رجل من العامة هو فوتيوس، ورقعوا تصويتهم إلى الإمبراطور. حتى أكثر مناصري أغناطيوس ولاء له وافقوا على الرأي المقترح. استصوب برداس التوصية وعيّن فوتيوس بطريركاً. فوتيوس، لما بلغه الخبر استفظعه وحاول التملص بكل الطرق الممكنة. الوقت صعب والمهمة دقيقة وليس سهلاً على من التزم الدرس والتدريس، أستاذاً ومفكراً، أن يتخلى عن عالم نعم فيه بهدوء لا شك فيه، ليخوض غمار عالم صاخب مضطرب محفوف بالمخاطر كبطريركية القسطنطينية. لذا قال في رسالة إعلان إيمانه إلى نيقولاوس، بابا رومية، بعد ذلك بزمن، أنه رُفِّع إلى البطريركية بغير إرادته، وهو يشعر بأنه يقيم فيها بمثابة سجين.
أنّى يكن الأمر فإنه جرى توفيع فوتيوس في سلم الرتب الكهنوتية في خلال أسبوع لأن الوقت كان قريباً من عيد الميلاد وكانت على البطريرك مهام تجدر ممارستها في أقرب وقت ممكن. على هذا جرى تنصيبه بطريركاً يوم الخامس والعشرين من كانون الأول عام 858م.
لم يتح لفوتيوس أن ينعم بالسلام طويلاً لأن المتطرفين من أنصار أغناطيوس ما لبثوا أن رصّوا صفوفهم وأعلنوا رفضهم للبطريرك الجديد رغم الضمانات التي سبق له أن أعطاها بشأن منزلة البطريرك المستقيل. هكذا بدأت متاعب فوتيوس التي فرضت عليه موقف حرجة أملت عليه قرارات صعبة فأثارت بشأنه تساؤلات جمّة وجعلت منه رجل الملمّات عنوة. والحق أنه جمع، في ادائه، بين الوداعة والمواجهة والدقة والرحابة والإحجام والإقدام والفضيلة والمسؤولية.
أول الغيث
ما أن مضى شهران على تنصيب فوتيوس بطريركاً حتى بدأت القلاقل. دماعة أغناطيوس المتطرِّفة تداعت إلى اجتماع في كنيسة القديس إيريني وأعلنت رفضها للبطريرك الجديد وتمسكها بأغناطيوس بطريركاً شرعياً. السبب المباشر للعصيان ليس واضحاً.
حاول فوتيوس اجتناب الصدام وتهدئة الخواطر وأخذ الأمور بالرؤية فلم يُفلح. فدعا إلى مجمع في كنيسة الرسل القديسين للبحث في الأمر واتخاذ القرار المناسب بشأنه. ولكن قبل أن يلفظ المجمع حكمه تدهور الوضع ووقعت حوادث شغب أثارها المتطرِّفون. وإذ أخذت المسألة بعداً سياسياً تصدّى العسكر الملكي للمتظاهرين وقمعهم بقوة السلاح فسالت الدماء وتفاقمت الأزمة. فوتيوس، من ناحيته، ندّد باستعمال القوة وهدّد بالاستقالة. ولكن، أمام إصرار المعارضة على موقفها، من ناحية، وعدم استعداد السلطة المدنية للرضوخ، من ناحية أخرى، طالب برداس الكنيسة بحسم الأمر، فاضطر إلى دعوة المجمع من جديد وإلى اتخاذ قرارات مؤلمة بحق إغناطيوس (859م). فبناء لطلب برداس، أعلن المجمع أن بطريركية إغناطيوس باطلة من أساسها لأن إغناطيوس لم ينتخبه المجمع بل عيّنته ثيوذورة. البطريرك المستقيل كان، خلال حوادث الشغب، قد تعرّض للسجن وبعض من أنصاره. فلما أبطل المجمع بطريركيته تمّ نفيه إلى ميتيلين ثم إلى جزيرة تربنتوس. ولكن تبين بعد حين، أنه لم تكن لأغناطيوس علاقة بحوادث الشغب وهو براء مما أثاره المتطرّفون من أتباعه باسمه فسُمح له بالإقامة في قصر بوسيس في القسطنطينية.
لم تهدأ الحال، رغم التدابيرالمتخذة، ولا استكان المتطرّفون، فدعا فوتيوس والإمبراطور ميخائيل الثالث إلى مجمع جديد (861م) وطلبا من البابا نيقولاوس الأول، بابا رومية، إيفاد مبعوثين عنه. الموضوع الأساسي كان دحض هرطقة محاربة الإيقونات وتثبيت القرارات المتّخذة في حينه (843م) برعاية الإمبراطورة ثيوذورة. نيقولاوس، في رسالته الجوابية، اعترض على ترفيع عاميّ إلى درجة البطريركية، لكنه أوفد رادوالد أسقف بورتو وزخريا أسقف أناغني، لاستطلاع الوضع في القسطنطينية تاركاً لنفسه البتّ في شرعية فوتيوس بطريركاً. نيقولاوس كان يتصرّف كمن له سلطان على الكنيسة في كل مكان. هذا لم يكن في حساب فوتيوس ولا كنيسة القسطنطينية. اطّلع المندوبان على الوضع القائم واستجوبا إغناطيوس. فلما بانت لهما الصورة في القسطنطينية على حقيقتها ثبتّا، باسم بابا رومية، قرارات مجمع 859م بشأن لا شرعية بطريركية إغناطيوس. ويبدو أن إغناطيوس رضخ. فظن المبعوثان أنهما، بما فعلا، أكدا سلطة البابا كحكم. لكن سير الأمور بيّن، بعد حين، أن البابا نيقولاوس لم يكن مستعداً للاكتفاء بما جرى وأن صورته عن نفسه، فيما يخص سلطته الكنيسة، كانت غير صورة الآخرين عنه.
تدهور في العلاقات
في تلك الأثناء، وصل إلى رومية عدد من متطرّفي حزب البطريرك إغناطيوس وعلى رأسهم ثيوغنوسطوس الراهب. هؤلاء نقلوا صورة عن الأوضاع في القسطنطينية لم تكن مطابقة لواقع الحال، حتى أنهم ناشدوا البابا، باسم إغناطيوس زوراً، التدخل لإلحاق الحق ووضع الأمور في نصابها. وإذ بدا كأن نيقولاوس كان مهيئاً لقبول شهادة من النوع الذي وصل إليه لأنها تناسب رؤيته وتزكي نزعته إلى الهيمنة، بادر إلى الطعن بالمقف الذي اتخذه مبعوثاه، كما أعلن أن قرارات مجمع 861م باطلة. كذلك أعلن تنحيته لفوتيوس كبطريرك للمدينة المتملكة وادّعى أن لباباوات رومية سلطاناً أن يحكموا في شرعية أو لا شرعية المجامع المحلية. وفي العام 863م جمع نيقولاوس أساقفة من الغرب في رومية أدانوا فوتيوس وأبسلوه هو والأساقفة والكهنة الذين سيموا بيده، وأعلنوا أن إغناطيوس هو البطريرك الشرعي للقسطنطينية. وقد جرى إبلاغ فوتيوس والإمبراطور ميخائيل الثالث بذلك. لم تأخذ القسطنطينية القرارات الباباوية في الاعتبار واحتج الإمبراطور على تدخل رومية في سلطته على الكنيسة الجامعة في القسطنطينية، فصرّح نيقولاوس سنة 865م أنه يستمد سلطته على الكنيسة الجامعة من المسيح نفسه وله حق التدخل في الشؤون الداخلية للكنائس المحلية ساعة يشاء.
زيت على النار
على صعيد آخر، وجه فوتيوس رفه ناحية الشعوب السلافية راغباً في تبشيرها. وقد وقع اختياره، لهذه الغاية، على أحد أصدقائه، قسطنطين، الذي كان عالماً فذاً. هذا نعرفه في الكنيسة باسم القديس كيرللس. وكذلك استدعى فوتيوس شقيق هذا الأخير، وهو ناسك في جبل الأولمبوس، يدعى مثوذيوس. هذان شرعا بمهمة رسولية لدى الخازار في روسيا الجنوبية، ثم انتقلا إلى مورافيا بناء لطلب أميرها. هذا كان إيذاناً بالبدء بهداية الشعوب السلافية إلى المسيح. وقد جرت، بعد حين معمودية بوريس (ميخائيل) أمير بلغاريا. هذا عمّده فوتيوس وكان الإمبراطور عرّابه. بمعمودية بوريس، أنشدّت بلغاريا المسيحية. لكن بوريس ما لبث أن دخل في خلاف مع القسطنطينية. السبب أنه طمح في أن يكون للبلغار بطريرك خاص بهم. فلما لم يستجب فوتيوس والإمبراطور لرغبته حوّل نظره شطر رومية. كان ذلك عام 866م. فاغتنم البابا نيقولاوس الفرصة وبعث بمرسلين لاتين أخذوا يبثّون بين البلغار اللاهوت الغربي والعادات اللاتينية. وقد ورد أن من جملة ما أخذ يشيع، آنئذ، التعليم، الخاطئ، الخاص بانبثاق الروح القدس من الآب والابن معاً (الفيليوكوي). وكان طبيعياً أن يصطدم الروم واللاتين هناك. الروم كانوا موجودين على الأرض. الصراع بدا مكشوفاً. الروم اعتبروا الخطوة اللاتينية اقتحاماً لنطاق خاص بهم واللاتين مجالاً لتأكيد سلطة البابا ونشر عادات الكنيسة اللاتينية وفكرها اللاهوتي الشبوه. فلم يلبث فوتيوس، رداً على الهجمة اللاتينية، أن بعث برسالة إلى أساقفة الشرق بيّن فيها ضلالات اللاتين، لاسيما لجهة مسألة الإنبثاق. ثم دعا إلى مجمع كبير في القسطنطينية، عام 867م، أكد الإيمان القويم وأبسل البابا ومرسليه في بلغاريا. وعليه طلب الإمبراطور الرومي البيزنطي من إمبراطور الجمرماني لويس الثاني الإطاحة بنيقولاوس. ولكن قبل أن تصل إلى نيقولاوس قرارات مجمع القسطنطينية رقد.
تغيٌّر الرياح السياسية
في أيلول 867م فتك باسيليوس الأول الذي سبق أن عيّنه ميخائيل الثالث إمبراطوراً مشاركاً، أقول فتك بميخائيل بعدما كان أن فتك بعمّه برداس. ولكي يكسب ود المحافظين عمد إلى إقالة فوتيوس وإعادة إغناطيوس إلى سدّة البطريركية. وإذ دخل إكليروس القسطنطينية فس صراع فيما يبنهم وساد البلبال، رأى الإمبراطور أن يستعين برومية لوضع الأمور في نصابها. فدعا البابا أدريانوس الثاني إلى مجمع انعقد في القسطنطينية عام 869م. هذا اعتبره اللاتين بمثابة مجمع مسكوني ثامن. في هذا المجمع الذي ضمّ مائة وعشر أساقفة وحسب جرت إدانة فوتيوس وإبطال مجمع 867م. كما جرت إقالة مائتي أسقف وتجريد العديد من الكهنة ممن سامهم فوتيوس أو كانوا من مناصريه. أما فوتيوس فأوقف أمام المجمع ليجيب عن التهم الموجهة إليه فلزم الصمت مكتفياً بالقول: "الله يسمع صوت الصامت.. تبريري ليس من هذا العالم". ثلاث سنوات بقي في الإقامة الجبريّة مقطوعاً عن أصحابه ومحروماً من كتبه. لا اشتكى ولا تذمّر. ولا حمل على أحد. عانى المرض. صبر صبراً عجيباً. واكتفى بتوجيه رسائل تشجيع وتشديد للذين كانوا يتألمون من أصدقائه.
رياح دافئة
لم يكن عمل إغناطيوس في الفترة الجديدة من بطريركيته سهلاً. وما لبث أن وجد نفسه في صراع مع البابا يوحنا الثامن. لكنه احتضن بوريس (ميخائيل) البلغاري بعدما ارتدّ عن رومية إلى القسطنطينية. وإذ ازدادت القناعة في المدينة المتملكة أن الدور الذي أُتيح لرومية لعبة عظّم شأنها على حساب القسطنطينية نصح الأساقفة باسيليوس الملك، توحيداً للكنيسة فيها ورفعاً لشأنها، بإبطال قرارات مجمع 870م وإطلاق سراح فوتيوس. فعمد الإمبراطور إلى استعادة فوتيوس بإكرام بالغ وأسماه مربيّاً لأولاده. وكانت أول بادرة فوتيوس أتاها أنه التقى وأغناطيوس وتصالحا وأعلن دعمه له ووقوفه بجانبه. إناطيوس كان مريضاً فصار فوتيوس يزوره بانتظام. فلما رقد إغناطيوس بالرب، عاد فوتيوس إلى السدّة البطريركية بمباركة الجميع. وإلى فوتيوس يعود التدبير بشأن إعلان الكنيسة لقداسة إغناطيوس في 23 تشرين الأول من كل عام. وإغناطيوس، كما تبين، كان ضحية الخلافات التي زكّاها الآخرون باسمه.
ثم أن مجمعاً عُقد في القسطنطينية عام 879 – 880م ضمّ 383 أسقفاً وعرف بمجمع الوحدة رأب الصدع بين رومية والقسطنطينية وأعاد الإعتبار لفوتيوس رسمياً، كما أكد الإيمان الأرثوذكسي وكفّر الزيادة على دستور الإيمان لجهة انبثاق الروح القدس. مبعوثو الباب يوحنا الثامن كانوا موجودين. ومجمع 869م اللاتيني أُعتبر لاغياً. فلما بلغ بابا رومية خبر المجمع وافق على مقرّراته. وهذا ما يفسّر أن مجمع 869م الذي سُمي في الغرب بالمجمع المسكوني الثامن، لم يُحسب كذلك في رومية إلى القرن الحادي عشر حين أدّت تغيرات إلى إعادة الاعتبار لمجمع 869م وإهمال مجمع الوحدة، مما ولّد الاعتقاد الشائع في الغرب الذي اتّهم فوتيوس ظلماً بأنه أبو الانشقاق وعدو الوحدة.
احتجازه ورقاده
ومرة أخرى تغيّرت الأوضاع العامة وانعكست سلباً على فوتيوس. في العام 886م خلف لاون السادس أباه باسيليوس إمبراطوراً. وإذ كان على عداء وأسقف أوخابيطا، غريغوريوس، وهو أحد أتباع فوتيوس، أقال البطريرك القديس وحجزه كفاعل سوء في دير الأرمن جاعلاً أخاه استفانوس بطريركاً محله. بقي فوتيوس في الإقامة الجبرية خمس سنوات محروماً من كل عزاء بشري. كأنما الرب الإله أراد تمحيصه كالذهب في الكور إلى المنتهى. في هذه الفترة من حياته كتب "ميستاغوجية الروح القدس" الذي ضحد فيه مسألة انبثاق الروح القدس من الآب والابن (الفيليوكوي).
رقد في الرب مكمّلاً بالفضائل في 6 شباط 891م. وقد جرت بجسده للتوّ عجائب جمة.
تقيم كنيستنا تذكار القديس فوتيوس الكبير يوم رقاده السادس من شباط من كل عام.
طروبارية القديس فوتيوس باللحن الرابع
بما أنكَ مشابهٌ للرسلِ في أحوالهم، ومعلمٌ للمسكونة، ابتهل يا فوتيوس إلى سيّد الكلّ، أن يمنح السلامةَ للمسكونة، ولنفوسِنا الرحمةَ العُظمى.
القديس الشهيد إيليان المحصي (القرن 3/4م)
(6 شباط)
لقد حصل لنا هذا الشاهد القوي، فارس المسيح، لمجأ لعزّتنا وأنيسا لوحشتنا وشفاء لأمراضنا وأمانا لخوفنا في أسفارنا وأخطارنا ولكل من استغاث به في البر والبحر والسهل والجيل والبعد والقرب ....".
هذا ما ختم به كاتب سيرة القديس إيليان الحمصي كلامه مؤطدا طبيعة علاقته بمكرّميه والملتمسين شفاعته.
عنوان السيرة، كما استفيناها من المخطوط 625، في المكتبة الشرقية، في بيروت، هو: قصة القديس الشريف الكبير في الشهداء مار إيليان، الطبيب الحمصي، فارس السيد المسيح. وهي تقع بين الورفتين 65 و 81 من المخطوط.
ليس واضحا تماما متى كانت شهادة القديس. البعض يقول في القرن الثالث، أيام الأمبراطور داكيوس قيصر، والبعض يقول لا بل في زمن مكسيمينوس قيصر في القرن الرابع. في المخطوط الذي بين أيدينا، الزمن هو زمن تيفاريوس (؟) الملك، ولا نعرف من المقصود به تماما.
ففي ذلك الزمان صدر عن قيصر تعميم في كل الأمبراطورية ان يوقّر الناس الآلهة بالذبائح. وكل من اعترف بالمسيح يُنهب بيته ويتعرّض للتعذيب. وإذا عاند ورفض الإذعان حُكم عليه بالموت. فلما شرع عمّال قيصر بتنفيذ الأمر، بقوة وصرامة، أخذ رعاة المسيحيين، أساقفة وكهنة، يتوارون عن الأنظار ولجأ بعضهم إلى الكهوف والمغاور. وقد ورد ان الرب الإله جعل في قلب الملك الا يهدم أيا من الكنائس التي أسّسها الرسل الأطهار، لكن الولاة جعلوها مزارب للدواب. ويبدو أن الأصنام، يومذاك، كثرت، وأنتنت الأرض من المحرقات وشحم الذبائح الطمثة النجسة.
الصورة، كما بدت، كانت مظلمة ومشوكة إلى ان افتقد الرب الإله كنيسته بأمثال القديس إيليان الذي ظهر" كالكوكب المضيء في عمق الليل، وكالوردة المزهرة بين الشوك" على حد تعبير كاتب السيرة.
كان إيليان رجل الإيمان القويم والعبادة الحسنة، صوّاما قوّاما، متصدقا رؤوفا، تراحما للمساكين. وكان جميلا في خلقته وزيّه، مولود بيت معروف في حمص. والده كان أحد أعيانها وله ذكر وبأس. إيمان إيليان بالمسيح كان سرا عن أبيه. وكان يورّع على الفقراء ما تصل إليه يده من عطايا والده ويعالج المرضى بالمجان يسفيهم باسم يسوع علانية. وكان الله قد أعطاه قوّة على شفاء جميع الأمراض وطرد الأرواح النجسة. وإذ جاهر إيليان بمسيحه ذاع صيته في حمص وسواها حتى أخذ الناس يأتون إليه من أمكنة بعيدة.
هذه الضجة التي أثارها إيليان بلغت أسماع الأطباء وأثارت حفيظتهم. وإذ امتلأوا حسدا، قام بعضهم إلى أبيه واشين منذرين. قالوا له ابنك يكرز باسم إله المسيحيين ويهزأ بلآلهة، وأنت رجل شريف ولك عند الملك صوت مسموع وكذلك عند أهل المدينة. وقد أتتك وصيّة من الملك ان تساعد والي المدينة بملاحقة المسيحيين. أما نحن فثبت لدينا ان ابنك ساحر وقد ضلّل أكثر أهل المدينة. اسم أبيه، كما ورد، كان خسطارس.
ساء والد إيليان ان يسمع ما قيل له عن ابنه. كان لا بد له ان يقوم بعمل ما يثبت من تخلاله ولاءه للملك وغيرته على الآلهة. أول ردّ فعل لديه كان الغضب الشديد لا على ابنه، بل على الذين يمكن ان يكونوا فد أفسدوا عقله. لذلك اتّجه ذهنه شطر رئيس المسيحيين في حمص، أسقفها سلوان، الذي استطلع تخبره فعرف انه يكرز بالمسيح علانية في المدينة، هو واثنان من تلاميذه، لوقا الشمّاس وكوكيوس(أو ربما مكسمس) القارىء. فارسل عماله ليبحثوا عن الثلاثة. فلما وجدوهم قبضوا عليهم وشقّوا ثيابهم وأوثقوهم وضربوهم. ثم ربطوا أعناقهم بالحبال وطافوا بهم في المدينة وهم يقولون: هذا جزاء من جدّف على الآلهة وآمن بالمصلوب. وبعدما عذّبوهم أسلموهم إلى الوالي فألقاهم في السجن.
بقي سلوان الأسقف ورفيقاه في السجن أربعين يوما أُحضروا، في نهايتها، لدى الوالي. فلما وقفوا بين يديه نظروا الشيطان عن يمينه يقول له: أسرع في إهلاك هؤلاء الرجال لئلا يُفسدوا الناس. ففتح الوالي فاه وهدّدهم بأنه سيذيقهم عذابا مريرا حتى الموت ما لم يذبحوا للآلهة تنفيذا لأمر قيصر.
جواب القديسين الثلاثة كان: نحن نعبد المسيح، سيّدنا ومخلصنا، وله نسجد ونقدم ذواتنا ذبيحة. أما أجسادنا فبين أيديكم. افعلوا بها ما أردتم. واننا لواثقون اننا سنخلص من حيل أبيك الشيطان إتماما لقول نبي الله: نفوسنا مثل العصفور من الفخ انفلتت والفخ إنكسر.
تعرّض الثلاثة للرجم والضرب والتجريح فيما أخذوا يسبحون الله ويسألونه القوة والصبر. وقد ذكر ان الرب أيّدهم بآيات من عنده جعلت الحاضرين يضجّون تعجبا واستغرابا. وإذ بلغ إيليان خبرهم أسرع إليهم وقبّل رباطاتهم وتوجّع لهم. فقبض عليه عسكر الوالي وأخذوهن إلى أبيه وأخبروه بما فعل. وكان خسطارس في حضرة جلساء عديدين فخشي على نفسه وسمعته وأمر بسوق ابنه إلى الوالي بعدما زوّد الجند برسالة إليه قال له فيها: وجّهت إليك ابني بكري ووحيدي إيليان وقد لحق بالمسيح المصلوب ورفض أمر الملك. وقد أطلتُ روحي عليه ليرتدّ فعاند وكفر فاحكم عله بما يستوجب. فلما قرأ الوالي الرسالة ردّ إيليان إلى أبيه قائلا: ابنك عزيز عندي فاحكم أنت عليه بما تشتهي. وقد وجّهت لك صحبته سلوان الأسقف وتلميذيه، فأظهِِر فيهم حدّ الشريعة لتنال من الآلهة الجزاء والسلام.
عامل خسطارس سلوان ورفيقيه كسحرة فيما أودع ابنه السجن. وبعدما عرّضهم للضرب أمر أن يُلقوا إلى السباع، شرقي المدينة. هناك، وقبل ان يتمّم الآثمون فعلهم، رفع القديسون لله صلاة قالوا فيها:"يا ربنا تيسةع المسيح، تحنّن على هذه المدينة وكلّلها مع المدن بالإيمان ورُدّ هذا الشعب الضال إلى معرفتك ليعودوا من ظلمتهم إلى النور وخلّصنا من هذه الضارية القاتلة لينظر أعداؤنا قوتك وتمجّدك الشعوي كلها". فلما فتح الجلادون الباب للسباع حدث ما لم يكن في الحسبان. ظلّلت الموضع سحابة من نار وعجّ الهواء وسقط البرد فهربت السباع وسرى الفزع بين الناس. وقد قيل إن عددا كبيرا منهم آمنوا بالمسيح على الأثر. أما إيليان فتمكن من الخروج من السجن وانضم إلى القديسين عساه يحظى معهم بنصيب من الشهادة. فلما حصل اضطراب ليس بقليل جاء الوالي بجند كثير وفتك بكل الذين جاهروا بإيمانهم الا إيليان وهو واقف يصلّي.
ثم ان الوثنيّين عيّروا إيليان ان ابن مريم المصلوب لم يرد الضيم عن المؤمنين به ودعوه إلى العودة عن ضلاله والخضوع للآلهة، فدعاهم بدوره إلى تركه يحطّم تماثيل الفضة والذهب ويوزعها على المحتاجين، فإن منعته الآلهة آمن بها. فضربوه من جديد وقيّدوه ثم داروا به حول حمص ودخلوا من باب الرستن إلى ان انتهوا إلى ما كان يُعرف ب"قنطرة الزورا" حيث أمر ابوه ان يُربط بها ويُضرب ضربا شديدا. وقد اهتاج خسطارس وأراد ضرب عنق إيليان فمنعه الناس قائلين أعطه فرصة لعل الآلهة تردّه إلى صوابه. بعد ذلك عبروا به تحت قبّة الرصاص. فلما أشرف على دار أبيه أخذ ينادي: أنا إيليان النصراني الطبيب. اني أؤمن بالمسيح الذي أتى لخلاص العالم وعرفنا طريق الحياة. وأنتم يا أهل حمص آمنوا به ليعطيكم فرحا في ملكوته السماوي. فطوبى للنفس التي تؤمن به وتصطبغ بمعموديته المقدسة تفإنها ترث الحياة الأبدية. فرجمه الناي وتركوه بين حي وميت. لكن أعانته رحمة ربه واستعاد عافيته. فلما أوقفه الشرط أمام أبيه، تفي اليوم التالي، تحيّر في أمره. بعد ذلك، قيل إنه تُرك في السجن أحد عشر شهرا سعى أبوه خللها إلى توجيه وفود من أهل المدينة وأشرافها إليه آملا في إقناعه بالعدول عن موقفه. لكن محاولات الوالد باءت كلها بالفشل. أكثر من تذلك ان العديدين ممن كانوا يعودون إيليان في سجنه كانوا يهتدون، بنعمة الله، إلى الإيمان بالمسيح. أخيرا عيل صبر والده فأتى بحدّاد أعدّ له مسامير جرى غرزها في رأس إيليان، ثم أطلق الجند سراكه ليموت موتا بطيئا عبرى لمن اعتبر. فخرج إيليان، بالجهد، إلى مغارة شرقي المدينة يُصنع فيها الفخار. هناك صلّى وأسلم الروح.
فلما كان الغد حضر الفاخوري، صاحب المكان، وكان مسيحيا في السر، فطالعه منظر إيليان ففرح لكنه خشي ان يكون الوثنيون قد نصبوا فخا للمؤمنين بوضعهم الجسد هناك. فانتظر إلى اليوم التالي. فجاءه إيليان في الحلم ليلا وطلب منه ان تيحمله إلى كنيسة الأرشايا حيث يجتمع خراف المسيح بالسر. والأرشايا هي أول كنيسة تُعزى إلى الرسولين يوحنا وبطرس. والكنيسة أيضا على اسم القديسة بربارة، وقد جُعلت في قصر امرأة آمنت بالمسيح بعدما شُفي ابنها بيد الأسقف جيراسيموس الذي أقامه الرسولان متلمِذا لمدينة حمص وأعمالها أولا. إلى هذه الكنيسة جاء الفاخوري حاملا جسد القديس إيليان، فاستقبله المؤمنون بفرح. ولما أخذوا الجسدجعلون"شرقي المذبح على سرير وصاروا يتبرّكون به".
كذلك ورد انه كان في زمن ثيودوسيوس الكبير (379-395م) أسقف على حمص اسمه بولس. هذا بنى كنيسة للقديس كانت عبارة عن هيكل واسع جميل مزيّن مكمّل بالرخام والأعمدة والفضة وفي داخله كنيسة صغيرة فيها قبر القديس وتحت المذبح ناووس مليح وله مدخلان من اليمين واليسار. فلما اكتمل البناء نُقل جسد القديس بالقراءاات والصلوات والكرامات وقد أظهر الله بجسده قوات وأشفية جرت
بيد الأسقف المذكور بينها حادثة شفاء ابنى رجل يهودي من السرطان.
هذا والقديس الشهيد إيليان شفيع حمص إلى اليوم. وقد نظم له أحد شعرائها ترنيمة يرددها أهلها في كل مناسبة. دونك ما ورد فيها:
لك يا حمص افتخار ثابت طول الزمان
أنتِ للأبرار دارٌ انتِ منشا يوليان
قرار
يا إيليان يا بهاء الشهداء
اشفِ نفسي وداو الجسدا
1يا من استشهدتَ في ثا لثِ قرن المسيح
ذقت موتا رغبة في دينة الحق الصحيح
2ذقت في الإيمان ذلاً بثبات وجلادة
واحتملت الذل حتى نلتَ إكليل الشهادة
3لم يكن يثنيك فيالإ يمان عنفُ الحاكمين
وقبلتَ الموت موت الشهداءِ الباسلين
4فأبوك العابد الأو ثان والمرُّ النكال
شجّ منك الرأس عنفاً بالمسامير اطوال
5في الورى كنت مجيداً وابن إجلالٍ رفيع
عفتَ هذا المجد والإ جلال حبا بيسوع
6يا شهيداً قد تجلى في البرايا نور فضله
كن لنا خيرَ شفيع عند من متّ لأجله
7يا طبيبا كم شفى في الناس من داء وسقم
داو آلامي لأشفى من ضنى نفسي وجسمي
يذكر ان كنيسة القديس إيليان في حمص قائمة إلى اليوم وكذلك ضريحه الرخامي. الكنيسة قديمة العهد جدا وفيها بقية ايقونات حائطية ماثلة للعيان بوضوح. والكنيسة الكبرى التي تحتضن الكنيسة الصغيرة والضريخ مرسومة بالايقونات الحائطية منذ السبعينات من هذا القرن.
تعيد له الكنيسة الأرثوذكسية في السادس من شهر شباط.



