أنت هنا

28/08
 

القديس البار موسى الأسود (+407م) 

(28 آب غربي ) 10/9  شرقي 

ليس شيء معروفا في شأنه قبل توبته. لقبه الأسود عائد إلى كونه أسود اللون، قيل من الأحباش وقيل من قبيلة من قبائل البربر. حياته، في ماضيه، كان ملؤها الشرور حتى قيل لم توجد رذيلة إلا اقترفها. يُقدّر ان ميلاده كان ما بين العامين 330 و 340م. كان عبدا مملوكا لشيخ قبيلة تعبد الشمس. طرده سيِّده لكثرة شروره. نهب وسطا وقتل. كان ضخم الجثّة جبارا وصار رئيس عصابة. مما ورد، للدلالة على قواه البدنية، أنه عبر، في أحد الأيام، نهرا فسرق خروفين لراعي غنم وذبحهما وعبر بهما ثانية إلى الضفة المقابلة من النهر. 

رغم شروره كان يخاطب الشمس كأنها الإله سائلا إياه أن يكشف له ذاته. وجاء يوم سمع فيه صوتا يدعوه إلى البرية، إلى رهبان برية شيهيت الذين ذاع خبرهم في ذلك الزمان. 

ذهب إلى هناك حاملا سيفه. التقى القس إيسيدوروس، وكان خارجا من قلاّيته ليذهب إلى الكنيسة، فارتعب من منظره. سأله القس: "ماذا تريد يا أخي هنا؟" أجابه موسى: "قد سمعت أنك عبد الله الصالح. من أجل هذا هربت وأتيت إليك ليخلّصني الإله الذي خلصك". وكان يلحّ عليه: " أريد أن أكون معك ولو أني صنعت خطايا كثيرة وشرورا عظيمة".

سأله إيسيدوروس عن سيرته فاعترف لديه بكل ما صنع من شرور. فلما تأكّد له صدقه أخذ يعلمه ويعظه بكلام الله ويخبره عن الدينونة العتيدة. ثم غادره لتأملاته.

ذرف موسى الدمع سخيّا وقد كره الشر وعزم على التوبة. اجتاح الندم نفسه وأقلقه في لياليه كالشبح المخيف.

عاد إلى الأب إيسيدوروس وركع أمامه وأدّى اعترافا بصوت عال وانسحاق لب وهو يبكي. أخذه إيسيدوروس إلى الأنبا مكاريوس الذي رعاه وعلمه وأرشده برفق وعمّده ثم سلّمه إلى الأنبا إيسيدوروس ليتابع العناية به.

لما تقدّم موسى في المعرفة بعضا طلب أن يصير راهبا، فشرح له إيسيدوروس أتعاب الرهبانية ومحاربات الأبالسة وحاول أن يصرفه إلى أرض مصر. كان هذا ليختبر تصميمه. فلما رآه ثابتا صادقا عاد فأرسله إلى القديس مكاريوس أب البرية.

وكان أن أدّى موسى اعترافا علنيا كاملا، بخطاياه، في الكنيسة صمّنه كل ما فعل من قبائح في حياته الماضية. مكاريوس، أثناء اعترافه، كان يعاين لوحا لعيه كتابة سوداء. فكلما اعترف موسى بخطيئة ارتكبها كان ملاك الرب يمسحها له. وما إن انتهى من أداء اعترافه حتى كان اللوح قد ابيضّ. إثر ذلك وعظه مكاريوس وأعاده إلى إيسيدوروس فألبه إسكيم الرهبانية وأوصاه قائلا: "اجلس، يا بنيّ، في هذه البرية ولا تغادرها، لأنك في اليوم الذي تخرج منها تعود إليك كل الشرور. لذا أقم زمانك كله فيها، وأنا أؤمن أن الله سيصنع إليك رحمة ويعطيك نعمة ويسحق الشيطان تحت قدميك".

سكن موسى، أول أمره، بين الإخوة الرهبان. لكنه، لكثرة الزوّار، طلب أن ينعزل فأرشده القديس مكاريوس إلى قلاية منفردة عاش فيها مثابرا على الجهاد الروحي. وبقدر ما كان موسى مقبلا، في ماضيه، على الشر، صار مقبلا في حاضره، على التوبة والجهاد. ذكّره الشيطان بعاداته الآثمة القديمة فنصحه الأنبا إيسيدوروس بالثبات في الجهاد لأن تلك العادات كانت قد تأصّلت فيه.

شكا موسى بخاصة حرب الجسد فضرب له إيسيدوروس مثلا في الثبات فقال إن شهوات الجسد كالكلب الواقف أمام الجزّار، إن لم يعطه شيئا وأصرّ فسيتحول الكلب عنه إلى آخر.

حورب الزنى بضراوة ولم يُطق الجلوس في قلايته، فرجاه إيسيدوروس أن يعود. قال: "لا احتمل ذلك يا أبت". أخذه وأصعده إلى السطح وقل له: "انظر إلى المغرب". فتطلّع فرأى حشدا من الشياطين لا يُعدّ هائجا يُحدث شغبا استعدادا للحرب. ثم قال له: "انظر إلى المشارق. فتطلّع فرأى حشدا من الملائكة القديسين الممجَّدين. فأردف: "هؤلاء هم الذين يرسلهم الله لمساعدة القديسين. أما الذين في الغرب فهم الذين يحاربونهم. لكن الذين معنا هم أكثر من الذين علينا". فشكر موسى الله وتشجّع وعاد إلى قلايته.

وعلى نصيحة إيسيدوروس، حاول موسى أن ينهك قواه بالوقوف طويلا في الصلاة والصوم والمطّانيات. وقمعا لجسده كان يطوف، ليلا، بالقلالي يأخذ جرار الشيوخ الرهبان ويملأها ماء. كل هذا جعل الشيطان يضجر من فرط جهاده وحُسن رجائه فالتقاه، عند البئر، مرة، وضربه ضربا موجعا وتركه غير قادر على الحركة. ولكن جاء إخوة إلى البئر وحملوه إلى الكنيسة، إلى الأب إيسيدوروس. بقي في الكنيسة ثلاثة أيام ثم استردّ عافيته.

مرة أتاه أربع لصوص يرومون سرقته فربطهم وحملهم وأتى بهم إلى الكنيسة. فلما علم اللصوص بأنه موسى الذي كان رئيسا لعصابة اللصوص، تابوا وترهبوا. فوعظهم بكلام كثير وحرّك قلوبهم.

ومن فرط جهاده هاجت عليه الشياطين فنصحه الأنبا إيسيدوروس بالإعتدال في نسكيّاته وشدّد عليه أن يسلم أمره لله وهو وحده يرفع عنه القتال لئلا يظن أنه بكثرة أعماله النسكية يقهر الشياطين، بل بالتواضع يحارب الله عنا.

لما أرادوا سيامته قسا امتحنوه، فطردوه لحظة دخوله الهيكل قائلين: "اخرج من هنا يا أسود اللون!" فخرج وهو يقول لنفسه: "لقد فعلوا بك ما تستحقة لأنك لست إنسانا، وقد تجرأت على مخالطة الناس. فلماذا تجلس معهم؟" ولما سيم سُمع صوت من فوق يقول: "مستحق" ثلاثا. فلما ألبسوه الثوب الأبيض قالوا له: "ها قد صرت كلك أبيض يا موسى". فأجاب: "ليت هذا يكون من الداخل كما من الخارج".

عاش كل أيامه مُنكرا لنفسه. سمع حاكمٌ بفضائله فرغب في أن يراه. فلما علم موسى بزيارته هرب. ولكن التقاه الحاكم بعيدا عن قلآيته فسأله عن قلاية الأب موسى فقال له: "وماذا تريد أن تسأله؟ إنه عجوز وغير مستقيم". فاضطرب الحاكم وقصد الدير وأطلع أهله على ما سمعه من الراهب الغريب. فسألوه عن أوصاف الرجل. فلما شخصه لهم عرفوا أنه الأب موسى نفسه.

هذا وقد مَنَّ الرب الإله على عبده بموهبة صنع المعجزات لحبّه وتواضعه وجهاده ونُسكه الشديد.

في إحدى المرات ذُكر عن راهب أنه سقط في زلة فانعقد المجمع لمحاكمته. ثم أرسلوا يدعون الأنبا موسى. أما هو فلم يُرد أن يأتي. فأصرّ عليه الكاهن فنهض وأتى حاملا كيسا مثقوبا في رمل. فلما رآه الإخوة، الذين خرجوا للقائه، تعجبوا وقالوا له: ما هذا يا أبانا؟ أجابهم: "أنتم تدعونني لأحكم في أمر أخ لي سقط في زلة، وهذه ذنوبي خلفي تجري ولا أراها ولا أُحس بها". فخجلوا من كلامه وأطلقوا الأخ المذنب.

مرة أخرى صدرت في الإسقيط وصية أن يُصار إلى الصوم في ذك الأسبوع. وحدث، أثناء ذلك، أن زار بعض الإخوة الأب موسى قادمين من مصر، فأعدّ لهم طعاما. فلما عاين الإخوة الدخان المتصاعد قالوا للآباء: "انظروا، ها قد أوقف موسى صيامه وأعدّ لنفسه طبيخا". فلما جاء السبت ودرى الآباء بما فعل قالوا له أمام الإخوة: يا أبانا موسى، لقد حللت وصية الناس وحفظت وصية الله، التي هي ضيافة الغرباء.

لما أتى البربر إلى الدير، حوالي العام 407م، وكان هو يَعلَمُ بالروح أنهم مقبلون، قال للإخوة، وكانوا سبعة، أن يهربوا فسألوه عن نفسه: "وأنت ألا تهرب يا أبانا؟" قال: "منذ زمن طويل وأنا أنتظر هذا اليوم لكي يتم فيّ قول السيد المسيح مَن يأخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ" (مت 52 : 26). فقالوا له "ونحن، أيضا، لا نهرب، بل نموت معك". فقال: "هوذا البربر يقتربون من الباب". فدخلوا وقتلوهم. لكن واحدا منهم خاف وهرب إلى الحصن فرأى سبعة تيجان نازلة من السماء توُجت السبع. فتقدم هو أيضا ونال معهم إكليل الشهادة.

هكذا أكمل الأنبا موسى سعيه. كان في الخامسة والسبعين أو الخامسة والثمانين. قيل نال ثلاثة أكاليل: إكليل الحب والنسك وإكليل الرهبنة والكهنوت وإكليل الشهادة. 

هذا ويُعتبر موسى أول شهيد في الإسقيط وجسده محفوظ مع الأنبا إيسيدوروس بدير البراموس.

من أقواله:

+ جوابا لأحد الإخوة سأل كلمة منفعة قال: اذهب واجلس في قلايتك وهي تعلمك كل شيء.

+ مَن يهرب من الناس يشبه كرمة حان قطافها. أما مَن يقيم بين الناس فيشبه الحصرم.

+ إذا لم يشعر الإنسان في أعماقه بأنه خاطئ لا يصغي إليه الله.

+ إذا لم تتفّق الصلاة مع السيرة عبثا يكون التعب.

+ سأله أخ: في كل مسغّى للإنسان، ما الذي يساعده فيه؟ قال: الله! قال: وما نفع الأصوام والأسهار إذا؟ فأجاب: هذه من شأنها أن تجعل النفس وديعة متواضعة. إذ ذاك متى صلّى المجاهد: أنظر إلى تعبي وتواضعي واغفر جميع خطاياي" (مز 18:24) فإن الله يتحنّن عليه.

+ سألوه: ماذا يعمل الإنسان بكل تجربة تأتيه أو بكل فكر من الشرير؟ فقال: يبكي أمام صلاح الله كي يعينه، فيرتاح للحال.