أنت هنا
القديس أثناسيوس الكبير
"أب الأرثوذكسية" و"معلم المسكونة"
18/1 غربي (31/1شرقي)
لا نعرف تماماً متى كانت ولادته. وعلى الأرجح أنها كانت نحو 295م. وعلى الظن أنه ربما ولد في الأسكندرية. أسيم شماساً في الأسكندرية، وعرف بلباقة خطابه وعظته. يبدو أنه لم يتلق الثقافة اليونانية نظير كبار القديسين كباسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم وغريغوريوس اللاهوتي... الكنيسة تعلمها من الكأس المقدسة من المعلمين المسيحيين وأوساط المؤمنين حيث يبدو أنه انضم إلى حاشية القديس ألكسندروس أسقف الأسكندرية حديث السن.
وهناك رواية مفادها: فيما كان أسقف الأسكندرية القديس ألكسندروس جالساً في داره المطله على البحر، لاحظ، في المدى المنظور، على الشاطئ، بعض الأولاد يلعبون. كان أثناسيوس واحداً منهم يقف في الماء فيما كان رفاقه يتقدمون واحداً واحداً كما في زيّاح. فيصب عليهم الماء وينصرفون. فأخذ الأسقف يتساءل: ترى ماذا يفعلون؟ وبدافع الفضول: أرسل في طلب الولد وسأله ماذا يعمل؟ لماذا يصب الماء على رؤوس الأولاد؟ فأجابه: أعمدهم! قال الأسقف: وهل تعلم كيف؟ أجاب أثناسيوس: نعم! علّمتهم أسرار إيماننا ولقّنتهم الصلوات وكيف يستدعون لاقتبال المعمودية ثم عمّدتهم! الأولاد، بالمناسبة كانوا وثنيين. اندهش الأسقف وستأذن والديه وتبناه.
كيف كان ذاك الذي أبدى من الجرأة والصلابة ما أدهش العالم؟ كان نحيف البنية. قصير القامة. أعداؤه دعوه قزماً. وكان معكوف الأنف. صغير الفم. ذا لحية قصيرة محمرة وبشرة تميل إلى السواد وعينين صغيرتين. وقد اعتاد أن يمشي بانحناءة بسيطة إلى الأمام ولكن برشاقة ولباقة كأنه أحد أمراء الكنيسة.
سنة 318م وبناء لطلب ألكسندروس، كتب أثناسيوس، وهو بعد في أوائل العشرينات من عمره، مقالتين إحداهما ضدّ الوثنيين والأخرى بشأن تجسد كلمة الله. تضمنت المقالتان لبّ الرسالة التي شاء الرب الإله لأثناسيوس أن يفتقها وينقلها إلى العالم. وحدث في سنة 319م أن دعا الأسقف ألكسندروس إلى اجتماع لكهنته عرض فيه الآب والابن والروح القدس في الجوهر. فلم يرق كلام الأسقف لأحد كهنته الحاضرين وهو آريوس، الذي اعترض وطعن في وحدة الجوهر الإلهي. حاول الأسقف ألكسندروس ردع آريوس عن بدعته عبثاً. وكثيرون تدخلوا ولكن على غير طائل. آريوس عاند وتكبر وتمادى. وقليلاً قليلاً بدأ أثناسيوس يلعب الدور الأبرز في الصراع. واجه آريوس بقوة ودون هوادة. أما ألكسندروس فأطال أناته على آريوس بما الكفاية، ولما تبيّن له أنه لم يعد هناك مجال للعلاج جمع أساقفة مصر وليبيا وحكم بقطع آريوس.
وشاعت بدعة آريوس هنا وثمة. وهي أخطر ما ظهر من الهرطقات في تاريخ الكنيسة. (واليوم تظهر بصورة جديدة تسمى الألفية، شهود يهوة، السبتيين....). صار تخبط فلسفي وديني وكثيرون تبعوا آريوس ببدعته كمثل إفسيفيوس أسقف قيصرية فلسطين، وإفسيفيوس أسقف نيقوميذية العاصمة الشرقية للإمبراطورية، وبلينوس أسقف صور، وغيرغوريوس أسقف بيروت وغيرهم. آريوس خرج من الأسكندرية وأخذ يبث سمومه يميناً ويساراً فاحتدم الصراع في مصر، ليبيا، فلسطين، آسيا الصغرى وسواها كلها اضطربت. قطبا الصراع كانا مصر ونيقوميذية. لكن شيئاً فشيئاً كل الأساقفة دخلوا في جدل فيما بينهم. دخلوا في صراع. والصراع طال الشعب. في بعض الأمكنة تحول الجدل إلى صدام فتضارب الناس وتقاتلوا وسالت الدماء.
مجمع نيقية
بلغت أصداء االصرااع الناشب أسماع الملك قسطنطين الإمبراطور فتنبه وتخوف. استعان ببعض مستشاريه أمثال هوسيوس أسقف قرطبة. وبعد التداول رأيه على الدعوة إلى مجمع يضم أساقفة المسكونة يكون دورهم الأساسي أن يحددوا له موقف الكنيسة الجامعة من المسائل المطروحة وهو يلتزمه ويكفل فرضه بالقوة.
على هذا الأساس، تقرر أن يكون مكان الاجتماع مدينة صغيرة تدعى نيقية (وهي إزنيق اليوم) في القسم الشمالي من آسيا الصغرى على بعد أميال من مدينة نيقوميذية. ويشير تقليد الكنيسة أنه قد حضر المجمع 318 من الآباء القديسين، على عدد الحدّام الذين تمكن إبراهيم الخليل بهم من فك أسر ابن أخيه لوط (تكوين 14:14).
التأم المجمع في 14 حزيران سنة 325م. عدد كبير من الكهنة والشمامسة رافقوا الأساقفة. ستة أساقفة وكاهنان أتوا من الغرب والباقون كانوا شرقيين. بعض الذين حملوا كانوا معترفين حملوا في أجسادهم سمات الآلام لأجل اسم الرب يسوع: بولس أسقف قيصرية ما بين النهرين ذو اليدين المحروقتين المعطوبتين، وبفنوتيوس الصعيدي المقلوع العين اليمنى والمعطوب الرجل اليسرى، وبوتامون الهرقلي الأعور. كما حضر أساقفة عرفوا بقداسة السيرة سيبريدون القبرصي، يعقوب النصيبيني. القديس أثناسيوس الكبير كان رئيس شمامسة ورافق أسقف الأسكندرية ألكسندروس وتكلم باسمه.
عرض آريوس أفكاره، فتصدى له الفريق الأرثوذكسي. أثناسيوس، ولو شماساً، كان الأبرز في الرد على آريوس واالتصدي لحججه وتبيان عطبها. اقترح هوسيوس وضع دستور إيمان يكون أساساً للإيمان القويم. في ضوء تعاليم الآباء، جرى اعتماد النص الذي يتلى في ليتورجيتنا اليومية. الفريق الآريوسي تقزم. استبانت مفسدة آريوس جلية للعيون. حكم المجمع بقطع آريوس. تبنى قسطنطين الملك قرارات قرارات المجمع وأصدر قراراً قضى بحرق كتب آريوس وحذر من يقتنيها سراً ويروج لها بالموت. أنفضّ المجمع بعد حوالي سبعة أسابيع من انعقاده يوم الخامس والعشرين من تموز. (من قرارات هذا المجمع ترقية أسقفية أورشليم إلى بطريركية).
التركيز في دفاع أثناسيوس كاان على تراث الكنيسة وتعليمها وإيمانها كما سلمه السيد وكرز به الرسل وحفظه الآباء. في مقابل ميول مناهضيه العقلانية قدّم قديسنا الإيمان عن العقل. أرسى أسس الفكر اللاهوتي القويم كما لم يفعل أحد من قبل. من هنا سمي "أب الأرثوذكسية"، أو كما دعاه غريغوريوس اللاهوتي "عمود الأرثوذكسية". كلمة الله، عند آريوس الهرطوقي مولود فهو إذن مخلوق من نتاج مشيئة الآب السماوي. أما عند أثناسيوس، كلمة الله مولود لكنه غير مخلوق لأنه نابع من جوهر الآب لا من مشيئته. هو منه كالشعاع من الضوء. ليس فقط ان كل ما للابن هو للآب بل كل ما للآب هو للابن أيضاً. كل ملء اللاهوت هو في الابن كما في الآب. الواحد لا ينفصل عن الآخر. من رأى الابن فقد رأى الآب في آن. ليس الآب من دون الابن، ولا الابن من دون الآب. كما الضوء والشعاع واحد، الآب والابن واحد. لذلك لم يكن هناك وقت أبداً لم يكن فيه الابن موجوداً وإذا كان الآب والابن واحداً فالآب مميز عن الابن والابن مميز عن الآب. ثم وحدانية الآب والابن في الجوهر مرتبطة بتجسد الابن وبالتالي بخلاصنا لأن الذ اتخذ بشرتنا واتحد بها إنما أعطانا أن نتحد به وأن نتخذ ألوهته. وعبارته المشهورة: الله صار إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً". لو لم يكن الابن من جوهر الآب لما كان بإمكانه أن يجعلنا على مثال الآب. وكما الابن كذلك الروح القدس. الروح القدس أيضاً من جوهر الآب وإلا ما أمكنه البتة أن يؤلهنا. أن يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية.
بعد انفضاض مجمع نيقية، عاد بطريرك الأسكندرية ألكسندروس الاسكندري إلى دياره فسام أثناسيوس كاهناً وسلمه مقاليد الإرشاد والوعظ وشرح تعاليم المجمع النيقاوي. ثم بعد ثلاث سنوات رقد ألكسندروس (328م) فأختير أثناسيوس ليحل محله. لم يكن الاختيار من دون صعوبات، كان لأثناسيوس مناهضون وأعداء. لأسباب كثيرة منها صغر سنه إذ كان في الثلاثين من عمره.
أولى مهام أثناسيوس كبطريرك الأسكندرية وتوابعها. كانت استعادة الوحدة والنظام في أبرشيته الشاسعة التي عانت لا من الهرطقة الآريوسية فقط وإنما من جماعة ملاتيوس المنشقة، وكذلك من الانحطاط الخلقي وانحلال الانضباط الكنسي. وعلى مدار سنوات جال أثناسيوس في كل أرجاء الأنحاء المصرية، حتى الحدود الحبشية، يسيم أساقفة ويختلط بالمؤمنين الذين اعتبروه أباً لهم. كما تفقد الأديرة حتى التي في برية الصعيد. وأقام لبعض الوقت في دير القديس باخوميوس (15 أيار) باخوميوس كان يقدر أثناسيوس كثيراً وقد سماه "أب الإيمان الأرثوذكسي بالمسيح".
انفجر االاصراع مع الآريوسية من جديد، بعد سنتين من تولي أثناسيوس البطريركية، وأشد مما كان قبل مجمع نيقية. كان الآريوسيون يحيكون المكائد على الأرثوذكسيين وبالأخص على أثناسيوس. إفسافيوس النيقوميذي كانت له معارفه في البلاط. بالأخص قسطنطينا أخت قسطنطين الملك. سعى لديها لتسعى لدى أخيها الملك لرد الاعتبار لآريوس. صوروا لقسطنطين أن قرارات مجمع نيقية لم تأت بالثمار، لا من ناحية استتباب الأمن ولا من ناحية صعيد شيوع السلام والاتفاق. لذلك من الأوفق للعرش أن يكون متسامحاً ويدعو إلى التسامح. تبنى الملك هذه المنطق وأعاد لآريوس الاعتبار وسمح له بمزاولة نشاطاته من جديد. إزاء هذا الموقف الإمبراطوري المفاجئ كان رد أثناسيوس فورياً وحاسماً: لا! هذا مرفوض! في جوابه إلى الإمبراطور قال: "من المستحيل للكنيسة أن تستعيد من يقاومون الحقيقة ويشيّعون الهرطقة وقد سبق لمجمع عام أن قطعهم". قسطنطين الإمبراطور إستاء لأنه كاان يظن أن كلمته لا ترد بالنسبة للدولة كما بالنسبة للكنيسة. لم يهتم أثناسيوس بالطاعة للقيصر دون قيد أو شرط بل الطاعة لله أولاً وأخيراً.
ينجح الآريوسيون من نقل الصراع من المستوى اللاهوتي إلى المستوى السياسي. لم يتغلبوا على أثناسيوس باللاهوت فحاربوه بالسياسة والمكيدة، صوروه مشاغب وخطر على أمن الدولة. ولا عجب أن قسطنطين قال عنه: "إنه رجل وقح ومتعجرف ومفسِد". من الدسائس التي أحاكها الآريوسيون ضد أثناسيوس، أنه يعرقل نقل القمح المصري إلى القسطنطينية، وأنه يفرض ضرائب على السفن ليدفع لكهنته. وكذلك اتهموه بالزنى والسحر والقتل. قالوا عنه أنه اغتصب امرأة واستبد بعفافها، وأنه قتل أسقفاً من المنشقين الملاتيين يدعى أرسانيوس. وتظاهر الآريوسيون كأنهم يحملون يداً سوداء ادعوا أنها لأرسانيوس.
وإذ صادف مرور ثلاثين سنة على تولي قسطنطين العرش، أراد الاحتفال بالمناسبة بتكريس كنيسة القيامة في أورشليم، ثم تمهيداً لذلك دعا الأساقفة إلى مجمع يعقد في صور للنظر في التهم الموجه إلى أثناسيوس. ذهب أثناسيوس برفقة خمسين أسقفاً لحضور المجمع، إلا أن المجمع لم يكن مجمعاً بل محكمة. لذلك لم يسمح للأساقفة المصريين بالدول. فقط أثناسيوس دخل، وعومل كمتهم، اجتمع الأعداء. اتهموه بشتى التهم، أحضروا امرأة تتهمه زوراً بأنه اعتدى عليها لكنها فشلت بالإثبات. اتهموه بقتل أرسانيوس، وإذ أرسانيوس وصل إلى صور لحضور المجمع. هكذا انحل اجتماع المجتمعين زوراً على أثناسيوس.
اختفى أثناسيوس، ثم فجأة ظهر في القسطنطينية. أقام في منزل في الشارع المؤدي إلى القصر الملكي. وإذ كان قسطنطين عائداً، ذات يوم، إلى قصره، نزل أثناسيوس إلى الشارع وتقدم منه، وقسطنطين غير منتبه، وقبض على زمام الجواد الذي امتطاه وأوقفه عن سيره. لم يكن قسطنطين معتاداً ان يوقفه أحد، فنظر مستغرباً منزعجاً، فإذا به أمام الرجل القصير القامة الذي لم يعرفه أو الأمر يقول له: "الله يحكم بيني وبينك بعدما انضممت إلى صفوف المفترين عليّ! وبدا قسطنطين كأنه لا يريد أن يسمع المزيد لكن، أردف أثناسيوس: "أطلب منك فقط إما أن تدعو إلى مجمع شرعي أو أن تدعو محاكمتي إلى مواجهتي في حضورك". وانصرف قسطنطين. بعد أيام دعا الملك عدداً من متهميه لمواجة أثناسيوس لديه، فحضروا وأكالوا لأثناسيوس الواقف أمامهم الإتهامات لا سيما فيماا يختص بالقمح والسفن المسافرة إلى القسطنطينية. دافع أثناسيوس بمنطق رجل الله لا بمنطق أهل العالم. ولكن بدا قسطنطين أنه ميال للإصغاء لمنطق االمتحدثين بلغة السياسة والأمن والدولة وما إلى ذلك. حكم قسطنطين على أثناسيوس بالنفي إلى "تريف" عاصمة بلاد الاغال (فرنسا) حيث بقي إلى أن رقد قسطنطين في أيار 337م.
حاول آريوس أثناء غياب أثناسيوس في االمنفى العودة إلى الإسكندرية فصده الشعب الحسن العبادة فتحول إلى القسطنطينية. هناك رغب إفسافيوس النيقوميذي وجماعته في حشد الجموع احتفالاً بإعادة الاعتبار لآريوس. وإذ خرج آريوس وأصحابه إلى الشارع قاصدين الكنيسة بزهو وأبهة وحماس، حدث فجأة أنه شعر بألم في أحشائه فانتحى جانباً فوقع مغشياً عليه ومات.
في غضون سنة من وفاة قسطنطين الملك عاد أثناسيوس إلى كرسيه في الأسكندرية من منفاه. وكان القديس غريغوريوس حاضراً. كل الأسكندرية استقبلته بترحاب، مشى على السجاد، أشعلت القناديل أمام البيوت. وظهرت المدينة بأبهة الاحتفال والابتهاج. وكان أثناسيوس يصرخ ويقول: "لا شيء يفصلنا عن المسيح". وبيوت العبادة عادة إلى نشاطها وملئها، اليتامى احتُضنوا. ومع ذلك، وفي أقل من ثلاث سنوات (340م) عاد أثناسيوس إلى المنفى من جديد.
إثر وفاة قسطنطين تقسمت الإمبراطورية على أولاده الثلاث، قسطنطين الثاني ملك على بريطانيا واسبانيا وغاليا (فرنسا)، ووقسطنس على اليونان وإيطاليا وإفريقيا، وقسطنديوس على آسيا وسوريا ومصر. الأولان مالا إلى الأرثوذكسية والأخير إلى الآريوسية. وقع قسطنديوس (البالغ من العمر عشرين عاماً) تحت تأثير إفسيفيوس النيقوميذي الذي صار اسقف على القسطنطينية، وقد علق أثناسيوس قائلاً عن قسطنديوس "أنه قلب لا رأي له من ذاته. يأخذ بنصيحة الخصي إذا حدث أن كان قريباً منه. لذلك لا أظنه سيئاً، فقط أنه عاجز وسخيف".
صدر لأثناسيوس من القسطنطينية أمر بمغادرة الأسكندرية، كما جرى نعيين أسقف آريوسي هرطوقي محله، وهو غريغوريوس الكبادوكي الهرطوقي. دخل غريغوريوس بمواكب عسكرية إلى الأسكندرية حماية له. وصل في آذار 340م. وبوصول ساد جو إرهابي على المدينة، فدنست الكنائس، وسجن العذارى والرهبان. خضعت الأسكندرية للاحتلال العسكري. أما أثناسيوس فتوارى واستقل سفينة برفقة أمونيوس وإيسيذوروس الراهبين وارتحل إلى رومية حيث استقبله أسقفها يوليوس استقبالاً طيباً.
بقي قديسنا في المنفى مدة ست سنوات. سنوات خصبة لأثناسيوس تنقل بالغرب بحرية كان يقدم له الاحترام والتقدير. وعظ وخاطب الأساقفة علم قرارات مجمع نيقية، ويحكى أنه في الفتره هذه كتب سيرة حياة القديس أنطونيوس الكبير. أسقف روما يوليوس دعا إلى مجمع في رومية في تشرين الثاني 342م زكى الإيمان النيقاوي وأعلن أنه لا يعترف بغير أثناسيوس أسقفاً على الأسكندرية. ولم يطل رد الآريوسيين حتى ورد، فعقدوا مجمعاً مضاداً في أنطاكية وضع دستور إيمان جديد واتخذ تدابير قانونية خاصة للحؤول دون إمكان عودة أثناسيوس إلى كرسيه. على هذا انقسم العالم المسيحي إلى غرب أرثوذكسي وإلى شرق يرزح تحت نير الآريوسية. أخيراً سنة 345م اندلعت الثورة في الأسكندرية وقُتل غريغوريوس الآريوسي المغتثب. وغذ تنبه قسطنديوس إلى خطر اندلاع حرب أهلية هناك تراجع وسمح لأثناسيوس بالاعودة، فعاد سنة 346م (وقيل سنة 348م).
ولم ينم ولم يهدء فريق الآريوسيين، وصوروا أثناسيوس كعنصر شغب وانه خطر على أمن الدولة. سنة 353م أطيح بقسطنس إمبراطور الغرب. وكان قد أطيح بقسطنطين الثاني قبله، فخلت الساحة لقسطنديوس إذ أضحى إمبراطور الغرب والشرق. همه كاان أن يحافظ على الوحدة السياسية للإمبراطورية بأي ثمن. وبما أنه كان ميالاً للآريوسية، كان أثناسيوس متهماً بالشغب الأمني. ووجهت الإتهام لأثناسيوس بالتآمر على أمن الدولة من جديد. وفي صيف عام 355م وصل مبعوث ملكي إلى أثناسيوس يطالبه بتسليم سلطاته الكنائسية، فرفض أثناسيوس. ااستمرت محااولة اقنااعة ستة أشهر من دون نتيجة. أخيراً دخل الجنرال سيريانوس الإسكندرية بعتاده العسكرية على رأس خمسة آلاف عسكري. وفي 9 شباط 356م كان أثناسيوس ورعيته يقيمون السهرانية والقداس الإلهي في كنيسة ثيوناس، ففاجأهم العسكر واقتحموا الكنيسة. وقتل الكثير من المصلين وسرقت الأواني المقدس وتعرض العسكر للعذارى. أما أثناسيوس ولقصر قامته استطاع الرهبان تغطيته وحملوه خارج الكنيسة من دون أن يلاحظ العسكر. خرج أثناسيوس إلى البرية، وقد اعتنى به رهبان البرية والمؤمنون. لكنه كان يظهر من وقت إلى آخر في الأسكندرية طلباً لرعاية شعبه بصورة خفية. في ذلك الوقت عقد قسطنديوس مجمعاً في ميلان ونفى على أثره 147 أسقفاً أرثوذكسياً رفضوا الرضوخ له ولتعاليم الهرطقة الآريوسية. االقديس إيرونيموس كتب عن تلك المرحلة قائلاً: "العالم كله كان يئن ويعجب لأنه ألفى نفسه آريوسياً".
ست سنوات قضاها أثناسيوس متخفياً، لا شك أنها تركت بصماتها عليه. فلقد شاخ لكنه لم يلن ولم يحد عن قوله الأول، عن الإيمان الأرثوذكسي القويم، إيمان كنيسة المسيح، أي عن مجمع نيقية. أخيراً مات قسطنديوس وعاد أثناسيوس إلى كرسيه مظفراً، بعون الله، في 21 شباط 362م. يوليانوس الوثني الجاحد تولى العرش. وفي سعيه إلى ضرب المسيحية أعاد الأساقفة الأرثوذكسيين إلى كراسيهم آملاً تأجيج الصراع بين الأرثوذكسيين والهراطقة الآريوسيين، ومن ثم في اضعافهما معاً لتقوى الوثنية على حسابهما.
بين شباط وخريف العام 362م حقق القديس أثناسيوس نجاحات ملفتة. التف الشعب الأرثوذكسي حوله. أقام اتصالات مع الأساقفة الأرثوذكسيين. أقام جسوراً مع الفريق النصف آريوسي الذي وقف بين الأرثوذكسية وبين الآريوسية، الذين انضموا إليه أخيراً. كل هذا وغيره أقلق يوليانوس الجاحد. ولكي لا يفسح المجال أكثر لأثناسيوس وجهه رسالة إلى شعب الأسكندرية ذكر فيها بأن أثناسيوس سبق أن صدر في حقه عدد من المراسيم الملكية التي قضت بنفيه. وأشار ايضاً أنه لن يسمح لأثناسيوس ولا، لمن سماهم الأجلاء وعنى بهم المسيحيين، بالعودة إلى كنائسهم ولا إلى بيوتهم. وأشار إلى ما اعتبره "الوقاحة المعهودة" لأثناسيوس الذي اغتصب كرسي الأسكندرية. أنذره بمغادرة المدينة وإلا فسيعاقب عقاباً صارماً.
اضطر قديسنا الانسحاب من الأسكندرية، في تشرين الأول 362م. وإذ رأى الرهبان الذين رافقوه إلى المركب يبكون قال لهم: "لا تحزنوا ليست هذه سوى غيمة صغيرة وتعبر". واختبأ بين رهبان صعيد مصر، ولكنه كان ينزل إلى الأسكندرية كلما دعت الحاجة. وكثيراً ما كان جواسيس يوليانوس يلاحقونه. وفي إحدى المرات كان أثناسيوس في مركب يصلي وكاد أن يقع في أيدي مضطهديه. قال للأنبا بامون الذي رافقه: "أشعر بالهدوء في زمن الاضطهاد أكثر مما أشعر في ومن السلم". "وإذا ما قُتلت.." قاطعه بامون قائلاً: "في هذه الالحظة بالاذات قضى يوليانوس عدوّك نحبه في الحرب الفارسية". هذا ما تبين فيما بعد ففي تموز 363م قتل يوليانوس بسهم طائش في الحرب ضد الفرس.
بعد يوليانوس تولى الحكم الإمبراطور جوفيانوس الذي كان أرثوذكسياً. هذا ثبت أثناسيوس على كرسي الأسكندرية وعامله بإجلال كبير. ولكن جوفيانوس لم يعمر ففي أوائل العام التالي 364م خرج على رأس عسكره إلى حدود بيثينيا حيث قضى مسموماً بدخان الفحم الذي أشعل في غرفة نومه. على الأثر تولى الحكم الإمبراطوران: وانتنيانوس على الغرب ووالنس على الشرق. والنس كان آريوسياً. والفريق الآريوسي كان ضعيف. في عام 367م بادر والنس بنفي الأساقفة الأرثوذكسيين. أثناسيوس كان بينهم. توارى مرة أخرى وقيل أنه اختبأ أربعة أشهر في مقبرة. ولكن اهتاجت مصر فتوجّس والنس خفية وأمر باستعادة أثناسيوس فعاد، هذه المرة، ليبقى.
ساس قديسنا رعيته بسلام مدة سبع سنوات إلى أن رقد في الرب في 2 أيار عام 373م. جملة سنوات أسقفيته كانت ستاً وأربعين. قضى عشرين منها في المنفى. لم يعاين انتصار الأرثوذكسية في كل مكان لكنها تحققت بعد سنوات قيليلة من وفاته زمن الإمبراطور ثيوذوسيوس الكبير.
من أهم ما ترك لنا القديس أثناسيوس الكبير، كتابه "سيرة حياة أنطونيوس الكبير". هذه السيرة أهم وثيقة معروفة عن بداءة الحياة الرهبانية. وعلق عليها القديس غريغوريوس اللاهوتي إنها "قاعدة للحياة الرهبانية في شكل سردي". كتبت أول ما كتبت باليونانية، وترجمها إفغريوس الأنطاكي إلى اللاتينية تحت عنوان "من أثناسيوس الأسقف إلى الأخوة الذين في بلاد الأجنبية". وترجمت فيما بعد إلى السريانية والقبطية.. (واليوم ترجمت إلى اللغة العربية)
أبوليتيكية باللحن الثالث
لقد تلألأت بأفعال المناضلة عن استقامة الرأي. ودحضت كلّ معتقدٍ سيءٍ. منتصر تحمل راية الظفر. فاغنيت الجميع بحسن العبادة. وزينت الكنيسة زينة عظيمة. فاستحققت أن تجد المسيح الإله يمنح الجميع بصلواتك عظيم الرحمة.



