أنت هنا

تاريخ النشر: 
الثلاثاء, أغسطس 25, 2020 - 07:09

القائمة:

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عودة، قداس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس - بيروت، وألقى عظة جاء فيها:

أحبّائي، سمعنا في إنجيل اليوم كلامًا عن المغفرة. في المقطع الذي يسبق ما تلي على مسامعنا سؤال طرحه الرّسول بطرس على الرّبّ قائلا: "يا ربّ، كم مرّة يخطئ إليّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرّات؟"، فأجابه الرّبّ يسوع: "لا أقول لك إلى سبع مرّات، بل إلى سبعين مرّة سبع مرات". الرّسول بطرس أظهر معرفة باليهوديّة التي من شيمها الانتقام، بعدما يغفر اليهوديّ للآخرين ثلاث مرات إذا اعتذروا منه. أراد بطرس أن يظهر أنّه أصبح من أبناء الملكوت، وأنّه أكرم من اليهود في المغفرة، فطرح موضوع المغفرة للآخر سبع مرّات بدلًا من ثلاث. يرمز العدد سبعة إلى الكمال، وهنا أشار الرّسول بطرس إلى كمال المغفرة، لكنّ الجواب الذي أتاه من الرّبّ أظهر له أنّ المغفرة لا تحدّ، وليس لها كمال، لأنّها دائمة ولا نهاية لها، وأساسها المحبّة. فمن سكنت المحبّة قلبه، كانت المغفرة نهجًا دائمًا في حياته.
لكي يشرح الرّبّ يسوع فكرته عن المغفرة غير المحدودة، سرد المثل الذي سمعناه في إنجيل اليوم. شبّه الرّبّ ملكوت السّماوات بإنسان ملك أعلن وقت الحساب. أراد الرّبّ يسوع أن يظهر لنا الفرق بين عدالة الله وعدالة البشر. نحن نخطئ أمام الله مئات المرّات يوميًّا، تمامًا مثل ذاك العبد الذي كان مدينًا للملك بعشرة آلاف وزنة. إذا أردنا التّحدّث بلغة عصرنا، فقد كان العبد مدينًا للملك بستة مليارات ليرة لبنانيّة. ولكي تعرفوا كم كان حجم الدّين ضخمًا، فإنّ خيمة العهد، التي بناها موسى، قد استخدم فيها تسع وعشرين وزنة فقط (خر 38: 24)، ولبناء هيكل أورشليم استخدمت ثلاثة آلاف وزنة، ودين العبد كان عشرة آلاف. الإنجيليّ متّى يخاطب اليهود في إنجيله، لذلك نجد ما يكتبه مليئًا بالرّموز اليهوديّة. العدد عشرة يرمز إلى الوصايا، في حين أنّ العدد ألف يشير إلى السّماويّات، الأمر الذي يعلّمنا أنّنا إن حفظنا الوصايا الإلهيّة نصل إلى الملكوت السّماويّ، أمّا المخالف، كالعبد المدين، فيحكم عليه بدينونة شديدة.
خلاص الإنسان يأتي عن طريق التّوبة والاتّضاع، الأمر الذي عايناه مع العشّار وسواه من شخصيّات الكتاب المقدّس. كل من يطأطئ رأسه يرفعه الرّبّ، أمّا المستكبر فيحدره إلى الأرض. يقول الرّسول بطرس في رسالته الأولى: "تسربلوا بالتّواضع لأنّ الله يقاوم المستكبرين، أمّا المتواضعون فيعطيهم نعمة" (5: 5). لهذا، رقّ قلب الملك على عبده عندما سجد طالبًا التّمهّل عليه كي يوفي دينه. سامح الملك العبد لأنّه علم أنّه لن يستطيع تسديد دينه حتّى ولو عمل طوال حياته ليلًا ونهارًا. هنا، ظنّ العبد أنّه أصبح سيّدًا، حرًّا، بعدما أعفي من دينه. لقد تجسّد كلمة الله ليخلصنا من دين خطايانا الثّقيل، وعندما محا الصّكّ المكتوب علينا، تحرّرنا، وظننا أنّنا أبرار أكثر من إخوتنا البشر، وأعطينا أنفسنا الحقّ في أن ندينهم ونحكم عليهم، تمامًا كما فعل العبد مع رفيقه العبد. دين العبد الثّاني كان لا يساوي شيئًا أمام دين الأوّل، مع ذلك حكم العبد على رفيقه بالسّجن، ولم يتعلّم من عمل الرّحمة الذي قام به الملك تجاهه. لقد علّمنا المسيح قائلًا: "تعلّموا منّي لأنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت 11: 29). لم يتعلّم العبد من وداعة الملك، وظنّ أنّ أحدًا لن يراه أو يحاسبه، لكنّه أخطأ في تقديره، ونال عقابه، لأنّه لم يرحم مثلما رحم.
مرارًا كثيرة نبّهنا ربّنا إلى أنّ دخولنا الملكوت السّماويّ مرهون بعلاقتنا مع إخوتنا البشر، الذين يدعوهم إخوته الصّغار. قال الرّبّ يسوع: "لأنّكم بالدّينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم" (مت 7: 2). نسمع الملك نفسه، بعد بضعة إصحاحات من إنجيل اليوم، يقول لداخلي الملكوت: "كل ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار، بي قد فعلتموه" (مت 25: 40). فهل نتّعظ من كلام الرّبّ؟".
ما يمرّ به بلدنا اليوم أظهر لنا جليًّا من هم داخلو الملكوت. كلّ من حمل مكنسة وساعد منكوبًا، كل من طبب جراح نازف، كلّ من أنقذ نفسًا قبل أن يختطفها الموت، ولم ينتظر أيّامًا لينتشل جثثًا كان يمكن أن تكتب لها الحياة، كل من مسح دمعة، وأطعم جائعًا وكسا بردانًا، وأوى مشرّدًا ونازحًا، وسواهم، هؤلاء هم أبناء الملكوت. أمّا كلّ متربّع على عرشه من دون أن يعمل، فهذا لن ندينه نحن، بل سنسلمه إلى عدالة الملك السّماويّ التي لا نثق بغيرها. يقول الرّبّ: "فإذا تواضع شعبي الذين دعي اسمي عليهم، وصلّوا وطلبوا وجهي، ورجعوا عن طرقهم الرّديئة، فإنّني أسمع من السّماء وأغفر خطيئتهم، وأبرئ أرضهم" (1أخ 7: 11). لقد دنّس البشر أرضهم بنسيانهم الرّبّ واتّباع زعماء أوصلوهم إلى الخراب والدّمار واليأس. يا أحبّة، ليس الله مسؤولًا عن أيّ مصيبة تصيبنا، بل البشر، والشّرّ الذي أعمى قلوبهم. يظنّون أنّهم يتحكّمون بالشّعب إذا نشروا الفوضى والإفقار والقتل والدّمار، إلّا أنّ الله أكبر من كلّ من يعتبر نفسه كبيرًا وسيّدًا على إخوته البشر. السّيّد الحقيقيّ صلب من أجل خلاص شعبه، لم يقتل شعبه، لم يسمح بأن يتسلّط عليهم الموت، فأسّس لهم نهج القيامة والحياة. لذلك، نحن لا نخاف إلّا موتًا واحدًا، هو موت النّفس بسبب الخطيئة. بيروت دمّرتها الخطيئة عدّة مرات، لكنّها قامت، وستقوم. إلّا أنّها لن تقوم مجددًا إذا هجرناها وبعنا منازلنا لغرباء لا يزالون يحومون بأموالهم حول الفقراء ولا يرون في دمارها سوى فرصة ذهبيّة للاستغلال والاستيلاء. أمّا حكّام هذا البلد فلا يفكرون إلّا بالمحافظة على كراسيهم، يتطاحنون من أجل الحفاظ على حصصهم، يجلسون معًا في هدوء مضحك مبك. هم في عالم والشّعب المجبول بالضّياع، المرمي في النّكبات، لا يجد إنسانًا يسند رأسه على كتفه، ويسأل أين هم الذين أشبعونا وعودًا وبانت فارغة. أين هم الذين كانوا في ضيافتنا عند حاجتهم لنا، وبعدئذ وجدنا أنّ لهم آذانًا ولا تسمع، وعيونًا ولا تبصر. دعوتنا من خلال إنجيل اليوم أن نكون مقتدين بالملك الغفور، الرّحوم، الذي مهما عظمت خطايا البشر تجاهه، يجد لهم مخرجًا خلاصيًّا إن تابوا ورجعوا إليه. دعوتنا أن نغفر سبعين مرّة سبع مرات، لأنّنا إن لم نغفر، سوف ننجرّ مسيّرين بالحقد نحو دمار أكبر، وحروب شعواء، وسيعيد التّاريخ نفسه وندخل في دوّامة شرّ لا خروج منها.
وإختتم قائلًا: "دعائي أن يحفظكم الرّبّ من كلّ شرّ، ومن كلّ جنوح نحو الشّرّ، وأن يبلسم جراحكم النّفسيّة والجسديّة، الأمر الذي لن يتحقق ما دامت القلوب فارغة من المحبّة والمغفرة. لذا، أحبّوا، إغفروا، وبهذا تنهضون وتقيمون مدينتكم معكم من تحت الرّكام، آمين".