أنت هنا
القائمة:
ليتورجيّا الصوم الأربعينيّ في الكنيسة البيزنطيّة
بقلم سيادة المطران نقولا أنطيبا الجزيل الوقار
تمهيد
الأربعينيّة البيزنطيّة تختلف عن أختها الأربعينيّة اللاتينيّة بمجموعة من التفاصيل التي تتقيّد بها، والتي تعطيها منحىً روحيًّا يربطها بمواضيع أخرى تبعدها قليلاً عنها. نستعمل هنا مفردة «الأربعينيّة» بدلاً من «الصيام الأربعينيّ» لأنّ مفهوم المفردة الأخيرة ينحصر عامةً بارتباطه بالصوم الجسديّ. سنقدّم في هذه العجالة وصفاً عامًّا لترتيب هذه الفترة الليتورجيّة، مع التشديد على بعض النواحي الخاصّة بها، لتُظهر لنا هذه الروح المختلفة في التفكير، وتساعدنا على التعمّق بتلك الطقوس التقليديّة المحترمة. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ لكلّ كنيسة تقاليدها الشريفة ونظرتها الروحيّة إلى الأمور الخاصّة بها، وبالتالي طريقة الاحتفال بأعيادها وبالمناسبات الهامّة.
أ_ نظرة عامّة
جدير بالذكر في بادئ الأمر القول بأنّ فترة الصيام الأربعينيّ تعني حصريًّا أربعين يومًا، وتمتدّ من يوم الاثنين الذي يسبق «أربعاء الرماد» في الكنيسة اللاتينيّة، حتّى يوم الجمعة قبل أحد الشعانين. غير أنّ مدّة الصوم تغيّرت لتتضمّن فترتين أخريين: فترة الأسبوع العظيم المقدّس، والفترة التحضيريّة للأربعينيّة. وتتألَّف هذه الأخيرة من ثلاثة أسابيع، وهي امتداد في معناها للصوم المبارك. كما خصّصت الكنيسة البيزنطيّة كناباً يحتوي على مجموعة التآليف الليتورجيّة لهذه الفترة الطقسيّة ويدعى «التريوذيون». وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أيّام هذه الأربعينيّة تؤلِّف مجموعة من الحتفالات مبنيّة على أسس مرتّبة. ويقوم هذه البناء على فترة تحضيريّة، وعلى بداية، فمراحل تساعد المؤمن على الوصول إلى الغاية المنشودة، دون الحؤول عن بعض الاحتفالات الثانويّة. سنسعى في الكلام عن جميع هذه الاحتفالات، وتقصّي غايتها.
1_ المراحل الرئيسيّة
تضعنا الفترة التحضيريّة للأربعينيّة والمؤلَّفة من ثلاثة أسابيع وأربعة آحاد في الإطار التقشفّيّ. تعطي الكنيسة في الأحدين الأوّلين مثل الفرّيسيّ والعشّار (لو 18: 10-14) ومثل الابن الشاطر (لو 15: 11-32) لترشد المؤمن في تفكيره وتوجّهه وتعطيه بعض الإرشادات في الفترة القادمة. إنّها توصيات ليركّز المصلّي بحثه عن الله من خلال التواضع والرجاء، وليقتدي بصلاة العشّار وتوبة الابن الشاطر، ويهرب من كبرياء الفرّيسيّ وازدراء الابن الأكبر. ويدور محور الأحدين الأخيرين من هذه الفترة التحضيريّة حول إنجيل الدينونة الأخيرة (متّى 25: 31-46) ورواية العهد القديم التي تقصّ علينا سقوط آدم وحوّاء، أبوينا الأوّلين. يذكّرنا هذان الحدثان بالحالة الدراميّة التي انغلقنا فيها: من جهة، حالة الخطيئة وعبوديّة الموت، ومن جهة ثانية، العقاب الأخير الذي ينتظرنا. نفهم جيّدًا ضمن هذا الإطار دور الصيام الأربعينيّ. لا غرو أنّ أفق الخلاص يأتينا إذا ما تعلّقنا بهذه الحبال مع جهادنا الشخصيّ لنُفلت من هذا القضاء المحتوم. لذلك، تذكّرنا الكنيسة يوميًّا، في صلاتيّ السحر والغروب، بالشهداء، باعتبار أيّام الصوم استشهاد روحيّ، ولجم الأهواء، وترويض للنفس على الجهاد في سبيل الحصول على الإكليل.
يسمح لنا الأسبوع الأوّل من الصوم بأن نقوم بأعمال تقشّفيّة صريحة. تتطلب منّا هذه الفترة جهداً حقيقيًّا وعنيفًا معًا! يتكلّم الكتاب الليتورجيّ لهذا الأسبوع عن سهرانيّة يوميّة يدور محورها حول قراءة مأخوذة من الإنجيل المقدّس. تُقرأ هذه الفصول إمّا في صلاة النوم الكبرى، وإمّا في أيّامنا الحاضرة في الليتورجيّا الإلهيّة التي يُحتفل بها في هذا الأسبوع. تقدّم لنا هذه القراءات تعليمًا هامًّا في هذه الظروف. تتطرّق القراءة الأولى (لو21: 8-36) إلى نهاية العالم وما يسبقها من أحداث، واضطهاد التلاميذ، وخراب أورشليم، غير أنّها تحثّ المؤمن على الرجاء وعلى السهر. ويتكلّم البشير في القراءة الثانية (متّى 6: 1-13) عن شروط الصيام والصدقة والصلاة المفيدة. وتشدّد القراءة الثالثة وكذلك الرابعة (مر 11: 22-26، متّى 7: 7-11) على قوّة الإيمان والصلاة المرفوعة إلى الله بكلّ ثقة. ويقدّم لنا الفصل الإنجيليّ الأخير ليوم الجمعة (يو 15: 1-7) المثل الذي ضربه يسوع عن كونه الكرمة الحقيقيّة، وعن الأغصان التي «تشذّب» لتحمل الثمر. إنّه من الواضح أنّنا بالإحرى بإزاء مجموعة من المواضيع الهامّة والرئيسيّة التي تتطرّق إليها وتشدّد عليها صلوات هذه الفترة الأربعينيّة، أكثر من أنّنا بصدد فكرة مميّزة توسّعيّة. أجل، تعود هذه المواضيع باستمرار في الصلوات حتّى الأحد الثالث من الصوم.
أمّا الأحد الثالث والأسبوع الرابع المخصّصان للسجود للصليب الكريم المحيي، فيحدّدان مرحلة هامّة في مسيرة الصيام. هدفت الأسابيع الأولى إلى الانتصار على العواطف التي تسايرنا وتربطنا بالأرضيّات، وإلى رفع قلوبنا نحو العلويّات. وهكذا نكون قد تبدّلنا وتغيّرنا! وبالرغم من أنّنا كنّا قبلاً غير قادرين على تقبّل الأمور الإلهيّة وبالتالي متعلّقين بالأمور الأرضيّة، نستطيع الآن أن ننظر إلى الحقيقة بعين أكثر روحانيّة، ونعي من جديد معنى عطايا الله. فصليب المسيح الذي هو عثار لليهود وحماقة للوثنيّين، يُظهر لنا ولو بنوع منقوص، «قدرة الله وحكمة الله» (1 قور 1: 24). بعد هذه الأسابيع الأولى التي كرّستها الكنيسة للأمور «البدائيّة»، يبدأ المؤمن رويدًا رويدًا برفع عينيه إلى السماء. وتحدّد لنا الكنيسة غايةَ هذه الأربعينيّة، وهي «أن نشاهد آلام المسيح الإله الكاملة الوقار، ونعاين الفصح المقدّس، مبتهجين روحيًّا». وهكذا وُضع تذكار السجود للصليب الكريم المحيي في منتصف الأربعينيّة، ليُلزم المؤمن في هذه «المشاهدة». ويمثّل هذا التذكار استباقاً وبالوقت نفسه تهيئةً، ويجعلنا نبتهج روحيًّا، ويشجّعنا على المضيّ في جهودنا حتّى الآونة الأخيرة من الأسبوع العظيم المقدّس.
أمّا الأحد الخامس والأسبوع التالي فيُدخلاننا في طريق الأسبوع العظيم مع رواية الأحداث التاريخيّة التي سبقاها. وتؤهّلنا هذه الفترة على الاحتفال بالفصح بطريقة لائقة. أليست هذه بالتالي الفكرة الرئيسة التي تحثّنا عليها الكنيسة طوال الأربعينيّة المقدّسة؟ نعود ونردّد النشيد السابق بكامله، وهو من نظم ثيوذورس المعترف: «لنفتتح زمن الصيام بحبور، باذلين أنفسنا في الجهادات الروحيّة. ولننقِّ النفس ونطهّر الجسد، صائمين عن الشهوات صومنا عن الإغذية، متنعّمين بفضائل الروح، التي نستحقّ بتتميمينا إيّاها بشوق، أن نشاهد آلام المسيح الإله الكاملة الوقار، ونعاين الفصح المقدّس، مبتهجين روحيًّا».
ليتورجيّا الأقداس السابق تقديسها
لم يسعَ آباء الكنيسة البيزنطيّة بأن يُبعدوا الناس عن تقدمة الذبيحة أيّام الأسبوع فترة الأربعينيّة المقدّسة، ولم يهملوا كلام الربّ أوعز إلى تلاميذه: «من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبديّة» (يو 6: 54)، كما أنّهم لم يمنعوا المؤمنين من الاشتراك يوميًّا بالأسرار الإلهيّة. غير أنّهم ابتكروا لهذا الهدف رتبة خاصّة، مدعوّة «ليتورجيّا الأقداس السابق تقديسها» لتكون بالوقت نفسه جواباً على متطلّبات المشاركة في جسد ودم المسيح، وحافزاً على القيام بأعمال الندامة واتّضاع القلب.
تتركّب هذه الكلمة اليونانيّة من «قبل» و«الأشياء المقدّسة»، ويصبح معناها «السابق تقديسها». وتتألّف هذه الليتورجيّا من صلاة الغروب والقراءات الكتابيّة كقسم أوّل، وتختصّ في قسمها الثاني بتناول القرابين التي سبق تقديسها. وتبقى رتبة الأقداس السابق تقديسها صورة طبق الأصل عن الليتورجيّا الإلهيّة العاديّة، وقد حذفت منها «صلاة الشكر» و «تقدمة القرابين» الواردتين في الأنافورا الإفخارستيّة، وزيدت عليها بعض الطقوس الخاصّة.
تكمن هذه الرتبة بنوع خاصّ في تناول جسد ودم الربّ يسوع، وهذا ما «يتّوج» كلّ عمل ليترجيّ لأنّه يحوّل جذريًّا طبيعتنا البشريّة ويجعلها تتّحد برأسها. فالليتورجيّا الإلهيّة، بالرغم من حصرها ضمن نطاق هذه الرتبة «السابق تقديسها» تخرق «فضاء» الأتّضاع العظيم الذي تعيشه الروحانيّة الصياميّة ضمن إطاره. أجل، أراد الآباء هذه الليتورجيّا وأوجدوها لتكون بمثابة تعزية لجهودنا التقشّفيّة، وتُبعدنا عن التأمّل الطويل والمتواصل حول أخطائنا، وكما يقول القدّيس بولس: «مخافة أن نغرق في بحر من الغمّ» (2 قور 2: 7). سعى الآباء بالتالي بأن تكون هذه الرتبة مختصرةً للغاية، وهكذا تغطّي بوشاحٍ مظهرَ هذا السرّ المجيد.
تغيب إذًا عن هذه الليتورجيّا «صلاة الشكر» لله على جميع إحساناته، و«صلاة التقديس واستدعاء الروح القدس» على القرابين اللإفخارستيّة، وهذا أعظم ما عهد به الربّ إلى كنيسته. كذلك يشترك الإنسان في هذه الطقوس اشتراكاً فعّالاً: إنّه يعدّد أعمال الله المجيدة التي صنعها لأجله، ويستعيد في ذاكرته ما قام به معلّمه، ويقدّم للآب السماويّ عبادة تليق بالله. لا بدّ من أنّ هذه الأعمال، دون أن نضع جانباً التواضع، تجعلنا نعي بعظمتنا أكثر منه بعدم أهليّتنا. وهكذا فالليترجيّا الصياميّة تفضّل أن تتنحّى عن ذلك.
بعيداً عن الذمّ بذلك الارتباط الوثيق بين صلاة الشكر والمناولة، فالاشتراك بالتناول من قرابين قُدّست قبلاً، يشدّد على الرباط الذي يجمع هذه المناولة مع الليتورجيّا الإلهيّة التي احتُفل بها يوم الأحد السابق، نقرّ بالتالي أنّنا غير قادرين على الاشتراك بعبادة عظيمة كهذه في هذه الأسرار المقدّسة كأنّه يستفيد من ذخيرة ثمينة قد ورثها من الماضي.
فالتقليد، الذي سلّمنا ليتورجيّا الأقداس السابق تقديسها، قد أغناها بطقوس كثيرة خاصّة بها، وهي أن تدعونا إلى الندامة، وبالوقت نفسه تحيط «بحجاب» مجد هذه الأسرار الإفخارستيّة. تُقام هذه الرتبة بعد يوم كامل من الصيام الجسديّ، بعد الظهيرة أو عند غياب الشمس. كذلك يرتدي الكهنة ثيابهم الخمريّة أو ذات الألوان القاتمة، ويبقى قدس الأقداس مغلقاً بالستار المسدل عليه، ولا يُفتح إلّا لبعض الفترات، كما أنّ القرابين الإفخارستيّة تبقى مغطّاة بالستر الكبير. ويسود الكنيسة صمتٌ عميق حين يمرّ موكب القرابين، لا يعتريه سوى ترداد الكاهن للعبارة: «قدّوس الله، قدّوس القويّ، قدّوس الذي لا يموت ارحمنا». أضف إلى ذلك، أنّ المحتفلين بالليتورجيّا يزيدون من الركعات والسجدات الكبرى، وتتّخذ الصلوات نغم الطلبة المتواضعة. لا تُقرأ فصول من العهد الجديد لأنّنا لا نجسر أن نُعلن «إنجيل مجد المسيح» (راجع 2 قور 4: 4)، بل نكتفي بسماع «الحرف المحجوب» للعهد القديم.
لمحات ختاميّة
لا نستطيع أن نحصر الأربعينيّة المقدّسة في مجموعة تنظيمات وإرشادات وقواعد ليتورجيّة. فمنذ نشأتها، كانت هذه الفترة الصياميّة الكبيرة الهامّة تهيئة لعيد الفصح المجيد الذي يؤوّن لنا كلّ ما قام به السيّد المسيح من أعمال خلاصيّة. أجل، يتحقّق في العيد الكبير موت المسيح وقيامته ودخوله في المجد. وتحتفل الكنيسة بهذا العيد حتّى تمكّن أعضاءها من الاشتراك الفعليّ بأعمال المسيح رأسها.
كذلك، كلّ مسيحيّ يموت ويقوم في يوم عماده. لا ننسَ أنّ سرّ العماد في القرون الأولى للمسيحيّة كان يحتفل به ويُمنح يوم الفصح. بالوقت نفسه، كانت الأربعينيّة تشغل وظيفة التهيئة لأولئك الموعوظين المستعدّين للاستنارة بأن يلتقوا للمرّة الأولى بالسيّد المسيح.
غير أنّ العماد لا يجعلنا نولد للحياة المسيحيّة فحسب، بل ينمو فينا مثل البذرة الواقعة في أرض جيّدة، بقدر ما نجعل إنساننا العتيق يموت، ونسمح للجديد بالنموّ. يتكامل هذا التحقيق الشخصيّ للخلاص فينا بطريقة تدريجيّة حتّى يوم رقادنا، ويستبين ليتورجيّا في الاحتفال الأسبوعيّ وخصوصاً السنويّ لعيد الفصح. لا بدّ إذًا، لكي يحمل هذا الاحتفال ثماره، أن يبدأ بالتهيئة له مثل ما يتهيّأ الموعوظ لنيل سرّ عماده. ناهيك عن أنّ عدم التهيئة، يجعلنا نشعر بأنّنا نقف بإزاء أعمال سحريّة تزاولها جماعات بعيدة عن العبادة «بالروح والحقّ». من هنا تنطلق الأربعينيّة البيزنطيّة لتجيب عن مقتضيات هذه الضرورة، وبالتالي متطلّبات مسألة الخلاص: حالة الإنسان الخاطئ المستعبد للأهواء، قضيّة الموت والعقاب، رحمة المسيح الذي يشفي كلّ إنسان يعود إليه بثقة وتواضع... ومن جهته، يعمل المؤمن بقوّة واشتياق مدّة هذه الأربعينيّة من خلال الصلاة والصوم والصدقة ليحظى بمشاهدة وجه المسيح: «إنّ العمر كلّه هو يوم واحد. أمّا الصيام للتائقين، فهي أربعون. فلنتمّمها بابتهاج». أجل، يمنح هذا المخلّص، الحمل الفصحيّ، قوّة روحه ليجعل هذا المؤمن يعبر معه إلى ملكوته.