أنت هنا
تاريخ النشر:
الثلاثاء, مايو 26, 2020 - 19:21
القائمة:
تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس الأب جورج عنتر قدّاس الأحد في مقام سيّدة زحلة والبقاع حيث ألقى عظة قال فيها:
"إخوتي أتأمّل معكم في بعض المحطّات المهمّة في هذا النّصّ الإنجيليّ. نحن نعلم أنّ الرّبّ يسوع المسيح له المجد في ليلة الصّليب صلّى صلاة طويلة. وهي أطول وأعمق صلاة مدوّنة تلاها يسوع على الأرض، وتبقى هذه الصّلاة من الصّلوات الّتي نتجنّب قراءتها من شدّة عمقها وكأنّ ليس لها نهاية في المعاني الّتي في داخلها. لأنّنا نسمع فيها ما يدور بين الإبن والآب، وهذا حِوار يفوق العقل والمنطق والبشريّة جمعاء. ولكن أيضًا هذا الحِوار هو مدرسة للصّلاة لأنّه كما أنّ المسيح علمنا أن نصلّي حين قال: "إذا أردتم أن تصلّوا قولوا: أبانا الّذي في السّموات". لذلك نحن بحاجة لنسمع هو كيف يصلّي حتّى نتعلّم منه ونقول الصّلاة على طريقته، ونشعر بشعوره وإحساسه أثناء الصلاة.
قبل هذه الصّلاة في الجزء الأخير من الفصل يو16، يتوجّه يسوع بالكلام إلى التّلاميذ، ذلك لأنّه بعد بضعة ساعات سيتمّ القبض عليه في بستان الزّيتون. فيقول: "ها هي ذي ساعة آتية، بل قد أتت فيها تتفرّقون فيذهب كلّ واحد في سبيله وتتركوني وحدي. ولست وحدي، فإنّ الآب معي. قلت لكم هذه الأشياء ليكون لكم بي السّلام. تعانون الشّدّة في العالم ولكن ثقوا إنّي قد غلبت العالم".
بمعنى أنّكم حين ترونني أُضرب وأتعذّب وأُصلب، لا تخافوا لأنّ كلّ شيء محسوب. وفي العالم سوف يكون لكم ضيق، ولكن ثِقوا أنا قد غلبت العالم. هذه آخر جملة قالها يسوع وبعدها توجّه بالصّلاة نحو الآب. وكأنّ يسوع يرغب في أن نتعلّم حقيقة مهمّة أو مبدأ مهمًّا. بالقدر الّذي تتكلّم به مع النّاس تكلّم بالمقابل مع الله. ولا تدع كلامك مع النّاس يأخذك من الله، يجب أن يكون هناك توازن لأنّ الله حاضر بشكل دائم وصادق بشأن انتظاره للكلام معنا. نلاحظ هنا التّلقائيّة والسّلاسة عند يسوع (انتهى من الكلام مع النّاس، ثمّ رفع عيناه نحو السّماء وتكلّم). ذلك لأنّ موضوع الصّلاة هو تلقائيّ جدًّا، بمعنى أنّ الإنسان الّذي يعتاد الكلام مع الله يُصبح الانتقال عنده أكثر طبيعيّة وتلقائيّة.
رفع عيناه إلى السّماء: إذا قلنا لأنّ الله موجود في السّماء، فنحن نجعل الله محدود، إلّا أنّه غير محدود وهو موجود في كلّ مكان. لكن في الصّلاة من حقّك أن تتعامل مع حواسك بالطّريقة الّتي ترتاح فيها. أحيانًا النّظر إلى السّماء يساعد في التّركيز، وأحيانًا إغماض العينين يساعد. أحيانًا السّجود...إلخ. لكن في حركة رفع العينين إلى السّماء تشير دائمًا إلى الارتفاع عن الأرض والاشتياق إلى السّماء أو للّحظة الّتي ألتقي فيها الرّبّ.
نحن في يوحنّا 17، لكن إذا عدنا إلى يوحنّا 2 إلى أوّل معجزة قام بها المسيح في عرس قانا الجليل، عندما قالت العذراء ليسوع لم يعد عندهم خمر قال لها: يا امرأة لم تأت ساعتي بعد. إنّ موضوع السّاعة عند يسوع منذ بداية مسيرته هو شغله الشّاغل، ساعة النّهاية، ساعة الصّلب. والسّاعة مرتبطة بالصّلاة، بحيث أنّ الصّلاة تحرّكها لحظة نهاية العمر. نحن نصلّي أحيانًا بفتور لأنّنا نعتقد بأنّ وجودنا على الأرض طويل، مع العلم بأنّ كلّ إنسان ولد على هذه الأرض يعرف بأنّ وجوده على الأرض قصير مثل بقيّة كائنات هذا العالم. لذلك الإنسان الّذي ينتظر هذه السّاعة يصلّي من كلّ نفسه وقلبه وعقله، وبحرارة وبتركيز لأنّ الموضوع حقيقيّ (أنا سوف ألتقي الرّبّ). هذا الإحساس مهمّ فهو يعطي الصّلاة قيمة. لأنّه عندما تتحوّل الصّلاة إلى نوع من الأداء الرّوتينيّ نكون قد دخلنا مرحلة نسيان بأنّ هذا العمر سوف ينتهي فجأة وتأتي السّاعة. أمّا بالنّسبة للرّبّ فهو ليس موضوع نهاية العمر، إنّما هي ساعة فداء البشريّة. ومجد الرّبّ مرتبط بالصّليب حيث أنّه ذكر في يو12: 33 "وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إليَّ الجميع "لأنّ مجد الله هو خلاص الجميع".
يسوع له المجد لأنّه متجسّد فهو أصبح إنسانًا مثلنا، ومن دون أن يترك لاهوته. وهو الآن يتكلّم بلغتنا البشريّة (أعطيت ليعطي). ونحن نستعمل هذا الأسلوب في حياتنا وصلواتنا "يا ربّ أعطني صحّة كي أخدم النّاس، أعطني علم كي أُفيد النّاس، أعطني حبّ كي أُحبّ النّاس". وبالتّالي في الصّلاة نحن نشكر الرّبّ الّذي أعطانا حتّى نُعطي. فالإنسان المسيحيّ هو مثل channel أو قناة تنقل عطايا الله إلى البشريّة. فهل نحاسب أنفسنا على العطاء وخاصّة في أيّام الضّيق الّذي نمرّ فيها الآن؟ نقول: "يا ربّ أعطيتني لأعطي، لكن العطاء توقّف عندي وتعطّل عندي، ولم أُعط للنّاس كما يجب. إذًا السّلطان هنا هو الحياة الأبديّة، ولكن ما علاقة الصّلاة بالحياة الأبديّة. إنّ الصّلاة الحقيقيّة هي لحظة من الأبديّة، أو الصّلاة الحقيقيّة هي عربون الأبديّة. بمعنى أنّنا إذا كانت صلاتنا نابعة من القلب سوف نبدأ في تذوّق طعم السّماء، ولكن على حسب قدرتنا، لأنّنا محدودين ومقيّدين بجسد. فالصّلاة هي انفتاح على العالم الآخر، على الله غير المحدود. لذلك فكرة معرفة الله مرتبطة بالأبديّة (إذا قلنا أنّنا نعرف الله، فهذا يعني أنّنا نعرف الأبديّة). ولكن كيف من الممكن أن نعرف الله؟؟؟ بكلّ بساطة وبدون تعقيد، عندما نبدأ بالكلام معه. فالصّلاة هي مقدّمة الأبديّة لذلك الّذي لا يصلّي، ليس له أيّ علاقة بالحياة الأبديّة. فالوسيلة الأساسيّة لمعرفة الله هي الصّلاة. أنت تريد معرفة الله بشكل صحيح، إذًا تكلّم معه. ولا تكتفي بما تسمع أو تقرأ عنه، بل تحدث إليه.
هل نستطيع أن نقول عن صلاتنا بأنّنا أكملنا العمل فيها؟ بالتّأكيد كلّا لأنّنا لم نُكمل العمل. بمعنى آخر إنّ حالة الصّلاة وخاصّة في آخر النّهار أو قبل النّوم، إنّما هي مثل تقرير لهذا اليوم الّذي عشته بكلّ تفاصيله. فمن الممكن أنّ يكون هنال أعمال أعطانيّ إيّاها الله ولم أقم بها. لذلك الصّلاة ممكن يكون فيها نوع من الأسف أو الاعتذار أحيانًا. لأنّ الله أب وهو ليس في حالة انتظار لأخطائنا وسقطاتنا. ممكن أيضًا في الصّلاة طلب المساعدة من الله كي أتمّم العمل. مثلاً: أرسلت لي شخص كي أساعده ولم أفعل، مررت بدرس في الحياة ولم أفهمه، تعرّضت لموقف بسيط وكنت عصبيًّا. إذًا العمل الّذي أعطيتني ممكن قد أكون قد قصّرت فيه أو أهملته، ولكن المهمّ أنّني أسعى للوصل إلى إكمال العمل الّذي أعطيتني، أيّ أن أعمل ما تريد. والآن مجّدني، وكأنّ في كلّ صلاة يصير فيها حساب للنّفس تلقائيّ، عندما تصلّي من قلبك سوف تجد الرّوح القدس يجعلك تراجع يومك وتراجع أعمالك من دون أن تشعر. فإذا كانت أعمالك توافق مشيئة الله، فإنّك بكلّ تأكيد سوف تشعر بالغبطة والفرح وليس من مجد أعظم من أن تكون أعمالنا تنفيذًا لرغبة الله.
نلاحظ تكرار أعطيتني...لأُعطي. لأنّ المسيح يعلّمنا أنّ كل ما يحدث في حياتنا هو عطيّة من الله (محبّة النّاس، العائلة، العمل...) يسوع بأعماله أظهر اسم الله للنّاس. هل نحن بأعمالنا نُظهر اسم الله للنّاس؟؟
أيضًا هنالك علاقة بين الكلام وروح الصّلاة، كلّما تعمّقت أكثر بكلمة الله (الكتاب المقدّس) كلّما عرفت أن تصلّي أفضل. لأنّ كلمة الرّبّ تُعطي روحًا للصّلاة. مثلاً: أن تقرأ آية تقول: "كلّ الأشياء تعمل معًا للخير" عندما تبدأ صلاتك من بعد قراءتها وتقول يا ربّ أنا عارفٌ بأنّ كل ما يحصل من حولي هو خير، سوف تشعر بالفرح. إذًا الآية هنا هي الّتي تُعطي معنى للصّلاة.
في القسم الأوّل من الصّلاة نلاحظ علاقة الإبن مع الآب، مجّدني وأنا أُمجّدك، أعطيتني وأنا أُعطيهم، وبعد ذلك من أجلهم أسأل. ملاحظة: أيّ شخص يصلّي بالرّوح، قلبه ينسحب تلقائيًّا ليصلّي من أجل النّاس. لذلك الإنسان الّذي لا يصلّي للنّاس هو لا يصلّي بالرّوح. لأنّ الرّوح القدس يوسّع قلبك ويخرجك من إطار نفسك. نحن كمبتدئين في الصّلاة نصلّي لأنفسنا ولعائلاتنا فقط. لكن عندما نكبر في الصّلاة، ننتقل للصّلاة من أجل جاري وقريبي، وعندما نكبر أكثر وأكثر ننتقل للصّلاة من أجل كلّ النّاس، ويأتي ذلك بتلقائيّة وبساطة، دون انفعال وتفكير بالشّيء. وكلّ ما دخلت في الصّلاة أكثر، يقود الرّوح القدس صلاتك ويجعلك تتذكّر المتألّمين وتشعر بالنّاس وتنسى نفسك وتفكّر بغيرك. هذا هو الانطلاق الطّبيعيّ في قلب الصّلاة.
يطلب الرّبّ يسوع من الآب أن احفظهم فيك، ليس مهمّ المدّة الّتي يعيشونها أو مكاسبهم على هذه الأرض. لكن أهمّ شيء أن يكونوا لك. هذا الكلام ينطبق عليك وعلى عائلتك وجيرانك والبشريّة جمعاء. فالرّوح القدس يجعلك تخرج عن نفسك ويشغلك بالصّلاة للنّاس ولكن بطلب واحد (أبديّتهم وملكوت الله فيهم). على الرّغم من صلاة يسوع من أجل الرّسل، إلّا أنّهم ذاقوا الأمرّين وعُذّبوا وماتوا. ولكنّهم حُفظوا بإسم الله أيّ أنّهم وصلوا للملكوت. وحالهم هو حال جميع القدّيسين الّذين سبقونا.
أيضًا يوجد أشياء تحدث في الصّلاة، كما أن تشعر بالنّاس وتصلّي من أجلهم. تتذوّق بهذه الصّلاة طعم الفرح، فالصّلاة الحقيقيّة يجب أن يكون فيها إحساس الفرح. فالرّبّ يسوع المسيح له المجد في هذه اللّيلة مع أنّها كانت ليلة الصّليب والتّلاميذ في حالة ضياع، كان هو يقوّي عزيمتهم ويشدّد إيمانهم. وفي ظلّ كلّ هذه الضّجّة والخوف والألم، كانت الصّلاة مليئة بالفرح فيقول: "أنا أتكلّم بهذا في العالم، ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم". إذًا إن كنت في الصّلاة وشعرت بحضور الله، تلقائيًّا يجب أن تشعر بالفرح والغبطة.
في النّهاية الإصرار على فكرة مستقبلنا السّماويّ يجب أن تكون نتيجة كلّ صلاة، الشّهوة الّتي يجب أن تملأ قلبك في آخر كلّ صلاة هي أن تلتقي مع كلّ البشريّة في السّماء، وألّا يهلك منّا أحد. أن تطلب من الآب السّماويّ أنا أُريد أن أكون معك في السّماء إلى الأبد. هذا الإصرار تلقائيّ في قلب الصّلاة. لذلك يسوع يُصّر على فكرة أن نكون واحدًا فيما بيننا، كي نستطيع أن نكون وحدة وشراكة مع الثّالوث في الأبديّة.
بنعمة الآب والإبن والرّوح القدّس. آمين."