أنت هنا
الصورة مأخوذة من موقع نور سات
القائمة:
"أيّها الأحبّة، سمعنا في إنجيل اليوم، عن لقاء الرّبّ يسوع بامرأة سامريّة.
إكتسبت السّامرة اسمها من "شامر" صاحب الجبل. لمْ يكن السّامريّون سكّان المنطقة الأصليّين، بل كانت الأرض لليهود. لكنّهم، بسبب خطاياهم، أبعدوا من المكان وأرسلوا إلى بابل، وجاء الملك بأمم من أماكن متعدّدة أسكنهم مكانهم. كانت هذه الشّعوب وثنيّةً، لكنّهم تعلّموا الإيمان اليهوديّ لاحقًا وآمنوا بالإله الواحد، إلّا أنّهم ظلّوا يعبدون الأصنام ولم يقبلوا إلّا أسفار موسى الخمسة، الأسفار الأولى من الكتاب المقدّس، ورفضوا أسفار الكتاب المقدّس الأخرى. سمّيوا السّامريّين لأنّهم يسكنون السّامرة ومحيطها، لكنّ اليهود رفضوهم كوثنيّين وغرباء، وكانوا يضْمرون لهم العداوة والاحتقار.
جاء الرّبّ يسوع إلى الحقل الّذي يحتوي البئر، والّذي تركه يعقوب لابنه يوسف. نحن نعرف أنّ يوسف العفيف في العهد القديم هو صورةٌ للرّبّ يسوع في العهد الجديد. إذًا، كان حضور الرّبّ يسوع إلى ذلك المكان لأنّه الوريث الشّرعيّ ليعقوب، ولكي يعلن من هناك الحقيقة الّتي كانت الأمم تنتظرها. عبور المسيح لليهوديّة، وجلوسه عند البئر، في منطقة للغرباء، إنّما يرمز إلى أنّ البشارة يجب أنْ تخرج من أورشليم، وألّا تبقى حكرًا على اليهود فقط. الكلمة الإلهيّة يجب أن تمتدّ إلى الأمم، الأمر الّذي يعكس محبّة الله لكلّ الخليقة، وليس لأمّة واحدة.
وكما أنّ محبّة الله لا تجزّأ وهي تشمل الجميع، هكذا الأوطان لا تقسّم وليست حكرًا على أحد. الوطن لجميع أبنائه، من حقهم عليه أن يحتضنهم، ومن واجبهم تجاهه أن يحافظوا عليه ويعملوا على خدمته من أجل ازدهاره ونموّه. ما يؤلمنا أنّنا وصلْنا إلى هذه الأيّام العجاف الّتي يميّز فيها بين مواطن وآخر وطائفة وأخرى، ويرى الأرثوذكسيّون أنفسهم مبعدين عن خدمة وطنهم، مرفوضين كما كان السّامريّون.
إنّ الأرثوذكس، لمن لا يعرف، مستقيمو الرّأي كما يسمّون، وجذورهم عميقةٌ في هذا الشّرق. هم موجودون في هذه الأرض منذ نشأة المسيحيّة. جاء في أعمال الرّسل أنّ التّلاميذ دعوا مسيحيّين في أنطاكية أوّلاً (أع11: 26)، وأنطاكية كانت مركز بطريركيّتنا الّتي أسّسها الرّسولان بطرس وبولس. أما كرسيّنا في بيروت، فقد أسّسه الرّسول كوارتس، أحد التّلاميذ السّبعين، المذكور في رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية (16: 23). وبعده جاءت سلسلةٌ من الأساقفة شاء الرّبّ أن أكون خلفًا لهم، وقد عملوا جميعهم على نشر كلمة الرّبّ، ورعاية أبنائهم، وزرع المحبّة والإلفة بينهم، وعلّموهم حبّ الوطن واحترام الإخوة في الوطن والعمل معهم بتفان وإخلاص من أجل خير وطنهم، ونحن على خطاهم سائرون.
نحن قومٌ لا نميّز بين دين وآخر وطائفة وأخرى ولا نسمّي أنفسنا طائفةً لأنّنا أبناء كنيسة المسيح الّتي تعلّم المحبّة والتّسامح والانفتاح والحوار وقبول الآخر واحترامه والحفاظ على حرّيّته وكرامته. لم نحملْ يومًا سلاحًا ولا تقوقعْنا في حزب أو مجموعة، حين حمل معظم الأطراف السّلاح، ولا لطّخْنا أيدينا بالمحرّمات أو مارسنا الموبقات. سلاحنا الوحيد حبّنا لوطننا وتفانينا في خدمته. أبناؤنا بعيدون عن الفساد والمحاصصة وتقاسم المغانم. هم يؤمنون بالمساواة بين اللّبنانيّين ويطمحون إلى قيام الدّولة المدنيّة العادلة، الّتي يتساوى فيها الجميع تحت حكم القانون. يستلهمون ربّهم، ويطبّقون تعاليمه، ويحتكمون إلى ضمائرهم، ويجاهدون من أجل الحفاظ على وطنهم وعلى كرامتهم. لم يخونوا وطنهم يومًا ولا أخاهم في الوطن، وكلّ مرادهم خدمة وطنهم مع سائر مواطنيهم. لكنّ المشكلة أنّ الآخرين يعاملوننا كالسّامريّين الغرباء. ترى هل قصّرنا في محبّة وطننا وخدمته، أم عقدْنا الصّفقات المشبوهة، أم ساهمنا في نهبه وإفقاره، أم زرعْنا الفتنة في شعبه؟ لطالما طالبْنا بالعدالة والمساواة، وباحترام الدّستور وتطبيق القوانين، ونادينا باعتماد المساءلة والمحاسبة والثّواب والعقاب، وباتّباع آليّة شفّافة في التّعيينات يصل من خلالها أصحاب الكفاءة والخبرة والنّفوس النّزيهة والأيدي النّظيفة. لكنّنا كمن ينادي في الصّحراء.
فعوض الاستفادة من طاقات أبنائنا ومعاملتهم كسواهم من أبناء هذا الوطن، تجاهلوهم على مرّ الأيّام، ربّما لأنّهم لا يرفعون الصّوت ولا يستعملون أساليب لا تشبههم. يبدو أنّ الصّمت يعتبر ضعفًا في زمن الزّعيق الفارغ، والسّلوك الحضاريّ يعتبر تراجعًا. لا يا سادة. من حقّ أبنائنا القيام بدورهم الوطنيّ في كلّ المجالات. السّلوك الحضاريّ من شيمنا، لكن كنيستنا، من رأسها غبطة البطريرك يوحنّا العاشر وصولاً إلى مسؤوليها وشعبها، تعبّر بصوت واحد عن رفضها لهذه الممارسات بحقّ أبنائها وترفض الغبن والظّلم والإجحاف اللّاحقين بهم.
نحن ضدّ المحاصصة فهلّا تخلّيتم عنها؟
نحن ضدّ الطّائفيّة فهلّا أعلنتم قولاً وعملاً رفضها؟
نحن ضدّ الزّبائنيّة والمحسوبيّة وضدّ الفساد والصّفقات واستغلال السّلطة والنّفوذ فهلّا رفضتموها مثلنا؟
نحن مع الدّولة المدنيّة العادلة فهلّا تجرّأتم وأعلنتموها؟
وإلّا، وبانتظار المدينة الفاضلة الّتي تقوم على العدالة والمساواة والحق والقانون، كفى استغباءً لأبنائنا وإبعادًا لهم. نحن شركاء لكم في هذا الوطن، وإلى أن تتّحد شعوب هذا البلد في شعب واحد موحّد ذي رؤية واحدة، لا تستثنوا أحدًا من مسؤوليّاته، واعتمدوا معيارًا واحدًا في التّعيينات يسري على الجميع.
إذا كنّا شركاء في الوطن علينا تقاسم المسؤوليّة والتّسابق إلى بنائه وتدعيم أساساته. ومن واجب الدّولة التّشجيع على ذلك. في العائلة لكلّ فرد دوره، وفي الجسد لكلّ عضو وظيفته. كذلك الوطن، هو بحاجة إلى كلّ أبنائه، ولكلّ منهم ميزاته وإبداعاته. ومن واجب الدّولة تعيين الرّجل المناسب والمرأة المناسبة في المكان المناسب مع الحفاظ على التّوازن بين سائر المكوّنات.
وإذا كانت حكومتكم لكلّ الوطن فحريٌّ بكم الاستفادة من كلّ الطّاقات بتواضع وحكمة، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه بلا منّة. ولتكنْ رؤيتكم للدّولة واضحةً وشفّافة، تتمحور حول تصويب الأوضاع، ومكافحة الفساد، ومعالجة تهاوي الاقتصاد، وانهيار اللّيرة، ومشاكل النّفايات والمياه والكهرباء، وإيجاد فرص عمل تتيح للمواطنين الخروج من الفقر والجوع واليأس. وليكنْ هدفكم توحيد اللّبنانيّين حول هذه الرّؤية ودفعهم جميعًا إلى مساندتكم عوض رفضهم وإبعادهم واستثارة غضبهم واستيائهم. العدالة لا تكون في التّمييز بين مواطن وآخر وطائفة وأخرى، وما يحق للواحد يمنع عن الآخر، وما يطبّق على طائفة لا يطبّق على أخرى.
في زمن الأزمات يتطلّع الشّعب إلى ذوي الفكر الصّائب والرّؤية الثّاقبة وحكمة المسؤوليّة. يتطلّعون إلى القامات المتواضعة لا إلى النّرجسيّين. يتطلّعون إلى العمل والإنجاز لا إلى الكلام والاستعراض. يتطلّعون إلى عدل الحاكم ومحبّته لرعيّته ويرفضون كلّ ظلم وتمييز وتشفّ وإقصاء واستفزاز واستضعاف.
نحن نطمح إلى زمن يحكمنا فيه الأحرار من كلّ شيء إلّا من حبّ الله والوطن. التّعنّت والعناد والتّشبّث بالرّأي (وهذه كلّها مظاهر عبادة الأنا) والإصرار على الخطأ لا ينفع، والكبرياء تقتل صاحبها. سلّم الفضائل الّذي حدّثنا عنه أحد كبار قدّيسينا طويلٌ وشاقّ، والدّرجة العليا فيه هي التّواضع. فمن أراد الوصول إلى التّواضع عليه أن يتمرّس بكافّة الفضائل كي يبلغه. ربنا يسوع رفض صلاة الفرّيسيّ المتكبّر ومدح تواضع العشّار وقال: "من يرفعْ نفسه يتّضع ومن يضعْ نفسه يرتفع" (متّى 23: 12).
عودةً إلى الإنجيل الّذي سمعناه اليوم، إنّ الحوار الّذي جرى بين الرّبّ يسوع والمرأة السّامريّة عن ذلك الماء الّذي ينبع إلى حياة أبديّة هو جوهر حياتنا الرّوحيّة. فمتى استقيْنا من الماء الحيّ الّذي لا ينضبْ، والّذي يهبه الرّبّ يسوع نفسه، لا نعطش أبدًا، لأنّ نعمة الرّوح القدس المنسكبة فينا مع ذلك الماء الحيّ تظلّلنا وتقود حياتنا.
دعوتنا أن نرفع قلوبنا إلى فوق كما نقول في القدّاس الإلهيّ، لكي يكون إيماننا بالله عنوان حياتنا، ولكي يكون الرّوح القدس ملهمنا في كلّ عمل نقوم به.
صلاتنا أن يلهم الرّبّ الإله المسؤولين في هذا البلد لكي يسعوا إلى رضاه من أجل تأدية أفضل خدمة للبنان واللّبنانيّين".