أنت هنا

تاريخ النشر: 
الجمعة, نوفمبر 27, 2020 - 09:39

بقلم سيادة  المتروبوليت  د. يوسف  متى  الكلي الشرف الوقار

إنّ السّؤال الّذي كان يطرحه آباء الكنيسة على أنفسهم، تمحور حول معنى وماهيّة "التجسّد" ؟

وقد قدّموا إجاباتهم عن سؤالهم هذا، من خلال لغة الإنجيل؛ إذ تشير كلمة "جسد"، وفقًا للتّعبير العبريّ، إلى الإنسان بمجمله، الإنسان بأكمله، وتحديدًا في ظلّ مظهر زواله وفنائه ووقته الزمنيّ.

هكذا يخبروننا أنّ الخلاص الّذي جلبه الله المتجسّد بيسوع النّاصريّ يمسّ الإنسان ويلامسه في واقعه، كما في أيّ موقف آخر مُعاش.

وكما يكتب القدّيس إيرينيوس، فإنّ الخلاص يغيّر الإنسان بشكل نهائيّ: "هذا هو السّبب في أنّ الكلمة صار إنسانًا، وابن الله هو ابن الإنسان، لكيما يدخل الإنسان في شركة مع الكلمة. وهكذا نال الإنسان البنوّة الإلهية، إذ صار ابن الله".

إنّ التّجسّد هو حقيقة من تلك الحقائق الّتي اعتدنا عليها إلى درجة أننا لم نعد نندهش من حجم الحدث الّذي يعبر عنه!

وبطبيعة الحال، علينا أن نتذكّر في عيد الميلاد، ونحن منشغلون بالقشور والألوان أكثر من قلب الجدّة المسيحيّة العظيمة، ونغفل في غمرة المُدهشات عن الخبر السّارّ الّذي جاء مفاجأة من الله، ليتجسّد الله بذاته بإنسانيّة كاملة تشبهنا.

في دستور "فرح وروح" للمجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني يقول: "ابن الله عمل بأيدٍ بشرية، وفكّر بعقل بشريّ، وعمل بإرادة بشريّة، وأحبّ بقلب إنسان".

هناك نقطة مهمة جدا كان قد اقترحها قداسة البابا بندكتوس  في احدى مقالاته  تتعلّق بالهدايا الّتي نتبادلها في عيد الميلاد. وبغضّ النّظر عن المبالغات في تعاطيها، فإنّ هذه لفتة مسيحيّة في الأصل تتعلّق بذكرى التّجسّد. ففكرة العطيّة حاضرة باستمرار في القدّاس، في وقت تكريس المصلّين،

وتدعو هذه الذّكرى الحاضرة في القدّاس ضمائرنا إلى استقبال هدية عيد الميلاد الأصليّة، في تلك الليلة المقدّسة.

فالله، الّذي صار جسدًا، أراد أن يجعل من نفسه هدية للإنسان.

لذلك، فليس من المهمّ أن تكون هدايانا الّتي نتبادلها ليلة الميلاد باهظة الثمن، ليس هذا ما أراده الله، بل أراد أن نقدّم هدايانا في المحبّة والتّضحيات والبذل، تمامًا كنا بذل هو وحيده لأجلنا هديّة لخلاصنا. فلتحمل هدايانا قينة التّجسّد والبذل كما عرفناها بتجسّد الله بابنه الوحيد هديّة لنا.

علاوة على ذلك، فلا بدّ أيضًا أن تستوقفنا واقعيّة الله والتّجسّد، حيث صار إنسانًا شبهنا، وقدّم حبّه بواقعيّة حضوره بيننا، تحمّل وتألّم وأرهق وانغمس في حياتنا وأزماتنا، وأثقل من اضطراباتنا، نعم، لقد عاش واقعيّتنا بكلّ تفاصيلها.

 فلنسأل أنفسنا عند التّفكير بالتّجسّد، هذا الأمر الواقعيّ للحبّ الإلهيّ، هل إيماننا يندرج في خانة الواقعيّة هذه، بعيدًا عن المشاعر والعواطف؟ هل إيماننا الواقعيّ يقودنا إلى جوهر وجودنا وحياتنا؟ للحقيقة ينبغي أن يكون إيماننا دافعًا لتوجيه مشاعرنا لتلامس حياتنا الواقعيّة بصورة عمليّة.

إنّ التجسد لا ينفصل عن خلق العالم. نقرأ في إنجيل يوحنا أنّ الكلمة كانت عند الله منذ البداية، وأنّ كل شيء تمّ من خلال الكلمة ولم يتمّ عمل أي شيء بدونه (راجع يو 1 ، 1-3).

بالإضافة إلى وجوب قراءة العهدين القديم والجديد معًا، ةبصورة دائمة، وبدءًا من الجديد، يتمّ الكشف عن المعنى الأعمق للعهد القديم" - وهو مبدأ تفسيريّ أساسيّ، ولكن غالبًا ما يتم نسيانه.

اليوم - يريد القدّيس يوحنا هنا أن يوضّح لنا أن الكلمة، اللوغوس ، هو نفس الإله الذي تجسّد.

"إنّ الله الأبديّ غير المحدود انغمس في حدّ الإنسان، في مخلوقه، ليرشد الإنسان والخليقة كلّها إليه".

 

وأخيرًا من الممكن فهم المعنى العميق للخليقة: تجد الخليقة الأولى معناها وذروتها في الخليقة الجديدة في المسيح، الذي يفوق روعته عظمة الأولى.