أنت هنا
القائمة:
مريميات الشهر المريمي - العذراء في شهر آب
الموضوع الثاني: غايةُ (هَدفُ) التَعبّدُ لمريم.
بَعد أن رأينا سابقًا ما هو الفرقُ بينَ العِبادَة والتعبّد، ولماذا علينا نحن ان نتعبّد اي ان نُكرِمَ العذراءَ مريم، نَدخلُ اليومَ في موضوع الهدف.
حدّدت المجامع المسكونية، غاية التعبُّد المريميّ بقولهم (ملخص): "يصدر التعبُّد الحقيقيّ عن الإيمان الحقيقيّ الذي يدفعنا إلى الإعتراف بسموِّ أُمِّ الله، وإلى حبّها حبًّا بنويًّا، وإلى الإقتداء بفضائلها". كما ويقول البابا بولس السّادس: "إنّ تلك الغاية هي "تمجيدُ الله والعيشُ بحسب إرادته". وفي الحال، إنّ التوافق وإرادة الله كان مُستند حياة العذراء، هي التي لم تشأ يومًا أن تكون إلاّ "أمَة الربّ" الوضيعة. من هنا فمقياس التعبُّد لمريم هو، إذًا، الإقتداء بها".
قد يقول المعترضٍ إنّ "الإقتداء بالمسيح هو الأهمّ. فالعذراء لم تَقُلْ مرّةً واحدة: "اتبعوني"... لا ريب، كما يقول البابا بولس السّادس، في أنّ الإقتداء بالمسيح هو الطريق الملوكيّة لبلوغ القداسة. بَيْدَ أنّ الإقتداء بالعذراء مريم لا يمنع بتاتًا المؤمنين من أن يسيروا بأمانةٍ في خُطى المسيح، بل على العكس، هو يشجِّعهم على ذلك ويسهّله لهم، لأنّ مريم التي عملتْ دائمًا مشيئة الله، قد كانت أوَّلَ من استحقَّ ثناء المسيح عندما قال: "من يعمل مشيئة أبي، ذاك هو أخي وأختي وأمّي" (متّى 12/ 50).
إن كان كلّ شيء، في حياة مريم، يرتكز على الـ"نَعَم" التي قالتها لله، فهذه الـ"نَعَم"، كما يقول اللاهوتيّ الكبير بَلْتَسار (Hans Urs von Balthasar)، ليست إلاّ "الصّدى البشريّ التامّ للـ"نَعَم" الإلهيّة البشريّة التي قالها يسوع للآب... مِحورُ الـ"نَعَم" التي قالتها مريم هو مِحورُ الـ"نَعَم" التي قالها الابن... فالمِحوران متشابكان كلّيًّا، وإن كان لا يغيب الواحد في الآخر. وإنّ التخْيير الحصريّ القائل: "إمّا يسوع وإمّا مريم"، فإنّما هو اختيار صعب ومستحيل ولا معنى له، تماما عندما اقول اختار بين المسيح من حيث هو الرأس، والكنيسة من حيث هي الجسم. فعندما يُفصَلُ اعتباطيًّا عن أُمّه أو عن الكنيسة، لا يعود المسيح، في نظر المسيحيّة، موضوع إدراكٍ تاريخيّ، بل يصبح شيئًا في المجرَّد، كائنًا يهبط من السّماء كالنَيْزَك، ثمّ يعود إلى السّماء دون أيّ تأصُّلٍ واقعيّ في تاريخ البشر، ماضيًا ومستقبلاً. لقد فهمت الكنيسة الشرقيه هذا المعنى، وصوّرت مريم باتحاد دائم مع المسيح. نرى ذلك بوضوع في الايقونات المقدّسة.
"ولمّا كانت الـ"نَعَم" التي قالتها مريم لا تشوبها شائبة، فإنّ إكرامها والإقتداءَ بها لا يكوّنان روحانيّةً منفصلة. لا، بل ينبغي القول إنّه ليس لروحانيّةٍ تُصادِقُ عليها الكنيسة، أن تدّعي بلوغَ الله، إن هي تجنّبتْ ذلك المثال للكمال المسيحيّ، أو رفضتْ أن تكون مريميّة. فليس، في الكنيسة، غيرُ مريم مَن تجاوَبَ ونداءَ الإيمان بأكثر ما يمكن من الصَّفاء والمَنطِق. هذا وليس مِن دربٍ للكمال المسيحيّ لا تقوم على الطواعيّة (disponibilité) اللّامتحفـِّظة...، كما كان من أمر الـ"نَعَم" التي قالتها مريم من أجل جميع المسيحيِّين، لا بل جميع البشر...
من يريد الإقتداء بالـ"نَعَم" المريميّة، لديه خياراتٍ عديدةً ومختلفة، ذلك باختلاف الظروف الحياتيّة التي نلتقي فيها بمريم: فهناك المرأةُ الشجاعة أثناء الهرب إلى مصر، ومدبّرةُ البيت النشيطة والمتخفيّة، والأُمّ المتأمّلةُ سرًّا والحافظةُ في قلبها لكلّ ما يتعلّق بابنها، والمتشفِّعةُ بالفقراء الذين لم يعد عندهم خمر، والمُرافقةُ لرسالة ابنها بالصَّلاة والقلق المؤلم، والمتحوّلةُ بالألم الأكبر إلى نموذجٍ للكنيسة، والمُتواريةُ في صلاة الكنيسة وعملِها".
هذا الإقتداء بمريم، ما فتئ آباء الكنيسة يشدّدون عليه قائلين، مع يوحنّا الدمشقي: "الطريق الفُضلى لإكرام الله ومريم هي ممارسة الرّحمة". ومع العلاّمة أُوريجينُس: "ماذا ينفعني القول إنّ المسيح قد جاء في الجسد الذي كوّنتْه له مريم، إن لم أُظهر أنّه قد جاء أيضًا في جسدي" بالإيمان، مثل مريم؟. ومع أحد النصوص القُبطيّة من القرن الرّابع: "إن أرادتْ إحداهُنَّ أن تُدعَى بتولاً، فلْتقتدي بمريم". ومع القديس أثناسيوس: "مريم هي مِرآةُ جميع الفضائل، وإنّ الإقتداء بها هو الشّكل المميَّز للحياة المسيحيّة". ومع الاب أمبروسيوس: "مريم ليست فقط مثال البُتولة، بل هي أيضًا مثالُ الأُمِّ ومثلُ الشجاعة". من هذا المنطلق ففي الكنيسة الشّرقيّة المتأثّرة جدًّا بالحياة الرُّهبانيّة والنُّسكيّة، قد اعتادوا منذ القِدَم أن "يروا في مريم مثالاً كاملاً للحياة التقشُّفيَّة والتأمُّليَّة التي تتغذّى بالصَّمت، والفقر، والتواضع، والطاعة، والقراءة الرُّوحيَّة، والمدائح الإلهيّة المستطيلة، والصّلوات المتواصلة.
(يتبع )...
المطران د. يوسف متى