أنت هنا
القائمة:
إلى الإخوة كهنة الأبرشية الأحباء
جميع الرهبان والراهبات، المكرسين العاملين في الأبرشية
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيح يسوع
وعموم الإخوة والأخوات في هذا الجليل المقدّس
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبینا، والرَّبِّ یسوع المسیح (1 كور: 1)
"الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا، فرأينا مجدَه" (يو 1/14)
هكذا تُخاطب أناشيدنا الميلادية السَّیِّدَ المسیح. تخاطبه كشخص أصبح قريبًا من الإنسان، كل إنسان. هو الذي حقّق أنشودة الملائكة، عندما صار واحدًا منا، عرف ضعفَنا، رفعنا وأسكننا من جديد في صورة الله التي أصلاً خلقنا فيها، كبشر، غير متميزين، وغير مختلفين، لأن الله واحد، أب واحد للجميع.
هو وحده الذي أصبح كفّارة عنا جميعًا، إذ اختار أن يصبح كبشر في كل شيء ما خلا الخطية، ليعطي حياة جديدة، وأجرى خلاصًا وفداءً. إنه عيد ميلاد الإنسان المؤمن بالله، لنكون على مثاله في هذا العطاء والمحبة والمشاركة والعدل، كلٌ في موقعِه، وفي مسؤوليتِه، وذلك لأجل تحقيق السلام والأمان فينا وفي العالم أجمع، سلام الإنسان مع أخيه الإنسان، إنه يوم المصالحة العامة، فيه نراجعُ أنفسَنا، ونقفُ أمامَ مِرآة ضميرِنا، ونطلب..
نطلب السلام في حياتنا وعائلاتنا ومجتمعنا وعالمنا..
نطلب منه لأنه رئيس السلام. "فطوبي للساعين إلى السلام، فإنهم أبناء الله يدعَون".
أيها الأحباء،
نحن اليوم على عتبة الميلاد المجيد، كما أننا على مفترق طرق جديد، يقف فيه غالبيتنا بتردد وبشيء من الخوف والضبابية. فالحياة لم تعدْ كما كانت، بسبب ما نعانيه من هذا الفيروس، عدو الإنسانية غير المنظور. يأتينا عيد الميلاد هذه السنة ونحن في تساؤلات كثيرة. عيدٌ بأية حالة عُدْتَ يا عيدُ.
ومع هذا كله، نثق بكلمة الملاك لرعاة بيت لحم: "لا تخافوا، هأنذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب" (لو 2/ 10-11). نعم لا نخاف لأن الله معنا، ولأنه أمين على وعده قال: "لا تخافوا أنا معكم" (مت 28/ 20)، "ثقوا، إني قد غلبت العالم" (يو 16/ 33).
نتساءل ونحن في مسيرة انتظار لما سيأتي. فهل سيأتي هذا الأمل؟
أسيولد الحلم في بيت لحم؟ ألن يكون هناك طفل في مغارة؟
ألن تكون هناك فرحة طفل بهدية شيخ العيد؟
أين الموائد والحفلات والزينة الكثيرة "وهيصة" العيد وبهجته؟
أيها الأحباء،
إننا اليوم في مسيرة حجٍ، "حجٍّ روحيّ" حقيقيّ وانتظار وتحضير النفس لتكون مغارة يولد فيها المسيح. زمن تستعدّ فيه الكنيسة لاستقبال عريسها، "المُخلّص، المسيح الربّ" (لوقا 2: 11)، الذي هو ثمرة وعد الله للإنسان بالخلاص. هذا الوعد الذي انتظره العالم أجمع، وتحدّث عنه الأنبياء قديمًا، واليوم هو حاضر بيننا.
رجاءٌ جاءنا بهذا الوعد. رجاءٌ في ظل صرخة شعب يعيش الإغلاق والحجر في حيرةٍ، لكنه يبقى شعبًا واثقًا بالأمين الذي ما يومًا نسيَ شعبه، لأنه أحبّه وخلقه وأعطاه الحياة. إنه المسيح الرجاء الوطيد في الضيقات. ذاك الذي أتى مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس، ولننال التبني. فنصبح نحن أيضًا ورثة هذه الحياة الجميلة، بعد أن كنا أمواتًا بالخطيئة والضعف، أمواتًا في ظل هذه الجائحة التي أوقفت العالم عن الحياة.
في هذا الزمن المقدّس، نتذكّر أنه بعد سقوط آدم مباشرةً، وعد الله الانسان بالخلاص بواسطة "نسل المرأة التي تسحق رأس الحيّة" (تك 3: 15). وتجدّد وعد الله بالخلاص عبر النسل البشريّ، من خلال وعد الله لإبراهيم، حيث قال له: "تتبارك في نسلكَ أمم الأرض جمعاء" (تك 22: 18). مذ ذاك، "كلّم الله الآباء بالأنبياء قديمًا"، كما ورد في الرسالة إلى العبرانيّين (عب 1: 1)، واستمر الله بإرسال الأنبياء إلى شعبه على مدى مراحل تاريخه، لتذكيره بالوعد حينًا وبثّ الرجاء فيه.
ومع هذا الرجاء، نقولها ونعلنها، نعم سيكون ميلادنا هذه السنة ميلادًا آخر.
نعم سيكون هنالك عيد للميلاد. ميلاد الطفل الإلهي رجاء الإنسانية الجديد. وسيكون هنالك ميلاد واحد! أهدأ وأعمق، مثل عيد الميلاد الأول عندما ولد يسوع، بدون صخب الأضواء على الأرض ولكن مع نجمة بيت لحم، التي أرشدت الرعاة والمجوس على حيث ملك الملوك وسيد السلام.
سيكون هناك ميلاد مع طرق مغلقة وبلدات محجورة في ضخامتها، فلا عروضًا ملوكية رائعة ولا حفلات زائفة، بل تواضع الرعاة الباحثين عن الحقيقة في مغارة بسيطة تشعّ نورًا إلهيًا. هناك سيكون عيد الميلاد لأن الله معنا.
هناك سيكون الميلاد، بدون ولائم كبيرة، ولكن مائدة بسيطة في العائلة الصغيرة، على مثال مريم ويوسف، بحضور الله القدير، وضحكة طفل يرتعش مع بسمة خفيفة لهدية الميلاد.
ألن يكون هناك عيد للميلاد؟
بالطبع سيكون هناك عيد! بدون شوارع مزدحمة بالناس، ولكن القلب المنتظر الذي يتحرق لمن يأتي، فتراه أوجهنا ونفرح به، فرح أمٍ بعد مخاضٍ كبير، لترى مولودها بين يديها، وترى ثمرة الانتظار المؤلم. ميلاد بلا ضجيج، ولا ظلمات، لكنه عيشُ ترقّبٍ دون خوف ممن سلب حلم الانتظار.
هناك سيكون عيد الميلاد لأن الله معنا.
بالطبع سيكون هناك ميلاد واحد! وسوف نشارك، كما فعل المسيح في المذود، نشارك فقرنا وتجاربنا ودموعنا وحزننا. سيكون هناك عيد الميلاد لأننا بحاجة إلى هذا النور الإلهي في وسط كثير من الظلمات. لأننا بحاجة إلى هذا الرجاء الإلهي في زمن كثر فيه الغموض وعدم اليقين. لكن لن يصل هذا "الكوفيد" إلى قلوب وأرواح أولئك الذين يضعون أملهم ومثلهم الأعلى في السماء.
أحبتي، فرح الميلاد، هو فرح السماء على الأرض، فرح الملائكة مع بني البشر، فرح الطبيعة كلها مع خالقها. فرح الميلاد ليس حكرًا على أقليّة ولا على نسلٍ معين من البشر، لأنَّه مقدَّم لجميع الناس دون استثناء.
ولكن أي فائدة من الملح إذا لم يختلط بالطعام؟ وأي فائدة من النور إذا تمت تغطيته؟ وأي فائدة من الخميرة إن لم توضع في العجين؟
هذا الفرح العظيم، الذي أعلنته الملائكة منذ أكثر من ألفي عام للرعاة، هو لجميع الناس، علينا نحنُ اليوم أن نعلنه ونشهد له بالحياة قبل الكلام وبالأفعال قبل الأقوال. كم نحنُ بحاجة إلى أن نعيد اكتشاف قوة وجمال هذه البشرى وهذا الفرح، فإن الله يريد أن يخلص الجميع ويبلغون معرفة الحقّ، يريد أن يمتلئ بيته بوليمة الخلاص. فكم من النفوس بحاجة ليسوع وهو خبز الحياة، وكم من النفوس بحاجة ليسوع وهو نور العالم، وكم من النفوس تموت من العزلة، والله يقول نعيمي أن أكون بين بني البشر.
أدعوكم في هذا الزمن لكي نفكر ونصلي في مَن نقص عندهم هذا الفرح، من الآباء والأمهات الذين يعيشون في قلق من عدم وضوح الرؤية. من المرضى والمتعبين الذين لا يجدون العلاج اللازم والرعاية الصحية الواجبة. من كبار السن الذين يعيشون في خوف لوجودهم في منطقة الخطر. نفكر ونصلي أيضًا من أجل الفرح الذي تفتقر إليه الأجيال الشابة، والأطفال الذين ينشأون في أجواء عائلية غير مستقرة فيصبحون ضحايا العنف أحيانًا. نفكر ونصلي من أجل كُلّ المهمّشين والمعوزين واليائسين الذين يعيشون فيما بيننا. إنه زمن الشركة في الإنسانية التي جددّها المسيح بميلاده كإنسان.
أيها الأحباء،
إن كنيستنا الجليلية أوجدت لها الدور الاجتماعي في بعدٍ كنسيٍ ونظرة واقعية في إدارة الأزمة الاجتماعية الصحية، يتضح صدقها وكفاءتها في الالتزام بالتوجيهات الصحية والمدنية حيال الصلوات والفعاليات الكنسية، والمساهمة الجدّية في حفظ سلامة المؤمنين ومتابعتهم بالصلوات في بث مباشر و/أو مسجّل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بداعي السلامة العامة.
كانت لأبرشيتنا عامة، ولرعايانا خاصة فرض روح التعاون والتطوع والتضامن مع شرائح المجتمع المختلفة التي عانت وما زالت تعاني من جراء هذا الوضع، إن كان على الصعيد الاجتماعي، الاقتصادي، الروحي والثقافي. هذه الروح شهدناها عن طريق تبرعات كريمة من أفراد ومؤسسات، زرعت الفرح في قلوب كثير من عائلاتنا في هذا الجليل، وكان ذلك بتأمين لوازم البيت الضرورية، والمؤن، ومستلزمات العيد من ألبسة وألعاب الأطفال، إلى جانب توزيع عدد لا يستهان به من الحواسيب لطلابنا الأعزاء.
أيها الأحباء،
دعوتنا لكم أن يكون احتفالنا بعيد ميلاد الربّ يسوع هذه السنة، مناسبة لاستعادة وزيادة الفرح الحقيقي الذي لا يعطيه إلاّ الله. وبدورنا نسعى أن نجسّده عمليًّا للآخرين. هذا هو المعنى الحقيقي أن يكون الفرح العظيم لجميع الناس والذي انطلق ليلة عيد الميلاد المجيد.
نرفع صلاتنا متّحدين مع كل الكنيسة في العالم أجمع. ونتّحد بالصلاة مع المسؤولين والعاملين في المجالات الصحية ليكونوا في الرجاء الجديد في العالم.
نصلي من أجل بلادنا المقدّسة طالبين للجميع الصحة والعون لمواصلة العمل من أجل كرامة وسعادة كل إنسان. نصلي ونهنئ هذه الأبرشية المباركة من الرب، كهنتها وجميع مؤسساتها والعاملين فيها، مع جميع المؤمنين، وكل الذين يحتفلون بعيد ميلاد الرب يسوع من اليوم وكل الأيام المقبلة، متمنيين أن يغمر فرح المسيح قلب كل إنسان.
إنه عمانويل، أي الله معنا، فلنطلب منه أن يأتي إلى بيوتنا ومجتمعنا لتبهج القلوب الحائرة والنفوس المضطربة ويملأ بالسلام والفرح كل من تشتاق حياتهم إلى قوة ومعنى وفرح وسلام، بشفاعة أمنا القديسة مريم العذراء، وجميع القديسين.
وكل عام وبلادنا وعائلاتنا والجميع بألف خير.
دار المطرانية بحيفا، 15/12/2020
+ المطران يوسف متّى
رئيس أساقفة عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل
للروم الملكيين الكاثوليك