أنت هنا

من الجليل المبارك، رسالة الصوم الأربعيني المقدّس 2021 من يوسف - متروبوليت عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل إلى إخوتي الكهنة، والرهبان والراهبات، والمؤسسات العاملة في الأبرشية، وجميع أبنائنا وبناتنا حيثما حلّوا في أرجاء هذه الأبرشية وفي العالم

تاريخ النشر: 
الأربعاء, فبراير 10, 2021 - 10:21
 

أيها الإخوة والأبناء الروحيون الأعزاء،

بهذا الترنيم الخشوعي، نبدأ مرحلة التحضير للصوم الأربعيني المقدّس، لنتذكّر أننا خليقة ضعيفة صنعها الله لحياة جميلة، نتذكّر أننا من الأرض أتينا، وإليها سنعود، هذا يعني أننا ضعفاء قابلون للخطأ وعرضة للموت. ومع هذا، فنحن رجاء الله وكنزه ومجده، لأنه جبلنا من تراب وطين، ولأنه جبلنا بيديه فأصبحنا شيئًا عجيبًا.

غير أننا في كثير من الأحيان، وخاصة في الصعوبات والوِحدَة، نرى فقط أننا غبار! والله يشجعنا. نعم "نحن شي قليل، لكن لنا قيمة لا متناهية في عينيه" (البابا فرنسيس رسالة الصوم 2019). يشجعنا الله فيقول: "تشجعوا ولا تخافوا، أنا معكم حتى انتهاء الزمن"، ذلك أنه وَلَدَنا لكي نكون محبوبين، وَلَدَنا لنكون أبناء الله. وفي هذا الزمن المبارك، وإذ نحن نتحضر لقيامة المسيح الخلاصية، يراودنا هذا الشعور ويتبلور في رؤوسنا سؤال حياتيّ: "أنا، ما الذي أعيش من أجله؟".

هذا هو زمن الصوم المقدّس، إنه زمن التفكير في قيمة حياتي الإنسانية المسيحية.

إنه زمن محاسبة الذات على كيف كنت أعيش من أجل أشياء هذا العالم الفاني، دون الانتباه لما فعله الله فيَّ. كيف كنت أعيش فقط لأجل مشواري الأرضي، وأتناسى مشواري الخلاصي.

أيها الأحباء، إن قيمتنا أكثر من ذلك بكثير، ونحن نعيش من أجل أكثر من ذلك بكثير: نعيش لنحقق حلم الله، بأن نكون معه في وحدة المحبة الحقيقية، لأننا سكّان السماء، ومحبة الله والقريب هي جواز سفرنا إلى السماء.

في هذا الزمن المبارك، لننظر إلى داخلنا، إلى قلوبنا، تمامًا كما فعل العشار المتواضع أمام عرش النعمة الإلهية، ولنقل معه: "أللهمّ أغفر لي أنا الخاطئ وارحمني". نعم إنها صرخة ألم الابتعاد عن الله بسبب الخطيئة، إنها صرخة الإنسان الذي فقد صورة الله في داخله. إنها صرخة من قلب يطلب العودة إلى الأحضان الأبوية.

أحبتي

إن زمن الصوم الأربعيني المقدس، هو زمن العودة إلى الذات.

نعم إنه زمن العودة إلى الذات لنعرف قيمة حياتنا من خلال طلب المغفرة من الله والقريب، المغفرة التي فتح أبوابها السيد المسيح المتجسّد من العذراء لأجل خلاصنا. المغفرة التي هدفها، كما نقول في الترنيمة أعلاه، هدفها الحياة.

في الحقيقة، لا يطلب يسوع المسيح فقط القيام بأعمال المحبة، والصلاة والصوم، بل القيام بكل هذا دون تظاهر، ودون ازدواجية، ودون نفاق (متى 6/ 5). كم مرّة نفعل شيئًا ما لمجرد أن نلاقي الاستحسان حتى نستعيد لنفوسنا الخير الذي نصنعه، من أجل الأنا! كم مرّة نفاخر ونقول إننا مسيحيون وفي قلوبنا نستسلم دون تردد للأهواء التي تستعبدنا! كم مرّة نعظ بشيء ونفعل شيئًا آخر! كم مرّة نتظاهر في الخارج أننا صالحون وفي الداخل تملأنا الأحقاد! كم من الازدواجية في قلوبنا. إنه غبار يلوّث حياتنا، ورماد يخنق نار الحب التي أتانا بها المسيح. والسؤال الذي يتطلب الجرأة والشجاعة متى يكون الارتداد؟ متى يمكننا تقويم المسار؟ وكيف يكون ذلك؟

الصوم هو الفرصة وليس الهدف، وإنه وسيلة للوصول، فلا ينفصل هذا الصوم عن ذكر المحرك الأساسي له، أي الله، فهو هدف صومنا، ونتّجه نحو الرب بانفتاح جذري وننتظر منه كل شيء. فالصوم الأربعيني أساسًا هو رجوع إلى الله وطلب رحمته بكل تواضع وإلحاح. مقدّمين له وأمامه أعمالنا الروحية، مثلثة التطبيق وبثلاثة أبعاد وهي التوبة، الصلاة والصدقة. وأعظمها المصالحة والغفران، والعودة إلى بعضنا البعض بأفعال المحبة والصدقة والرحمة.

نحن بحاجة إلى إزالة الغبار المتراكم على القلب. وعلينا أن نفعل بحسب ما قاله القديس بولس بندائه الحارّ الذي يوجهه إلينا في رسالته: "أَن تَدَعوا اللّهَ يُصالِحكُم!" (2 قور 5/ 20). بولس لا يطلب، بل يتوسل: "نَسأَلُكُم بِاسم المسيح أَن تَدَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم"، ونحن اليوم نقول لكم: "تصالحوا مع الله!" فالمصالحة هي نعمة من الله مجّانية، هدفها طريق القداسة. ذلك أن القداسة هي ليست ثمرة جهودنا، إنها نعمة من الله! لأننا، بمفردنا، لا نقدر أن نزيل الغبار الذي يلوّث قلوبنا. يسوع وحده الذي يعرف ما في قلوبنا، وبقدر محبته لنا يمكنه أن يشفي قلوبنا.

أيها الأحبة، إن زمن الصوم هو زمن الشفاء.

يعود علينا الصوم الأربعيني في هذه السنة أيضًا بخبرة الكورونا، حيث تُغربَلُ العلاقات بين الناس، وتتحول المِحنَة إلى مِنحة وفرصة لإعادة تقييم هذه العادات والعلاقات والمظاهر. ويميل الناس إلى استبقاء أهل الثقة والمحبة والصداقة وإقصاء أصدقاء المصالح والمظاهر. لقد أعطت هذه الأزمة مساحة كافية للتفكير وكشف الأمور، وسبر غور الخير في نفوس الناس، وإرساء علاقات اجتماعية سليمة. كما أدخلتنا الكورونا في نهجٍ لمسؤولية جديدة، وهي مسؤولية عائلتي وقيمة الحياة الحقيقية، وعلّمتنا قيمة الصلاة على أنها الحوار واللقاء بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. فالصلاة العائلية تجعل نواة العائلة كنيسة بيتية، تتواصل وتتّحد مع المصلين بزخم وحدتها.

في مسيرتنا نحو الفصح، فلننفض عنا غبار الخطيئة ونبدأ بالحياة، بالتحوّل من إنسانيتنا الضعيفة الى إنسانية يسوع الذي يشفينا. إننا مدعوون "أَن نَخلَعَ مِن جِهَةِ التَّصَرُّفِ السَّابِقِ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ"، "وأن نلبَسَ الإِنسَانَ الجَدِيدَ المَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ" (أف 4: 22-23). وهذا من خلال وقوفنا أمام المصلوب، والبقاء هناك، ننظر إليه ونكرر بقلب متواضع خاشع: "يسوع، أنت تحبّني. بدِّلْني، غيّرني، اجعلني طينةً بين يديك وكوّني من جديد".

أيها الأخ المؤمن. عندما تشعر بحبّ الله لك، اذهب واطلب المغفرة من أبيك الذي في الخفيّة، والذي يجازيك علانيّة بنعمة الخلاص من لدُن المسيح القائم من بين الأموات، لأنه بالنار يحرق جميع أدناس الجسد والروح، فتصبح نقيّا حاضرًا لتستقبله من جديد في قلبك وحياتك.

لندَع الله يصالحنا من أجل أن نعيش كأبناء أحباء، كخاطئين غُفرت خطاياهم، وكمرضى نالوا الشفاء، وكمسافرين يرافقهم الله. لنترك الله يحبّنا حتى نحبّه. لنتركه ينهِضُنا لنسير نحو الهدف، نحو الفصح المجيد. هناك سنفرح حين نكتشف أن الله ينهضنا من رمادنا ويعيدنا إلى الحياة. صوم مبارك..

 

+ المطران يوسف متّى

متروبوليت عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل

حيفا، 10 شباط 2021                                                                                      للروم الملكيين الكاثوليك