أنت هنا
القائمة:
"وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشيا على البحر" (متى 14: 25)... إنه القسم الأحلك ظلاما من الليل، حيث لا بصيص نور وأمل ينبعث في تلك اللحظات. هذه كانت حالة التلاميذ على متن السفينة يعبرون البحر وقد جذفوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلاَثِينَ غَلْوَةً (يو 6: 19) بعيدين عن الشاطئ، عن الأمان، والريح ضدهم (مر 6: 48)، محدثة ضجيجا هائلا، والأمواج تلطم سفينتهم من كل حدب وصوب، والخوف يسيطر على العقول والقلوب، وأرهب ما في هذا الموقف الشعور بالوحدة والترك. وأسئلة كثيرة تبرق في لمح البصر في نفوس التلاميذ: أين المعلم؟ من يُنقذنا؟... إنها النهاية لا محالة...
هذه اللوحة ما زالت حيّة في تاريخ البشر، في كل العصور، أحداث عصفت وتعصف بالبشرية وتضعها في ذات الموقف وتعود بها على نفس الأسئلة، والخوف هو سيد الموقف... أين أنت أيها السيد؟
يُخبرنا الإنجيل أنه كان على الشاطئ ينظر إليهم معذبين (مر 6: 48). ماذا ينتظر؟ كيف ينتظر من ساعات المساء حتى الهزيع الرابع ليذهب نحوهم؟ لماذا يا رب هذا الانتظار؟ إنه خانق ومضني ومحبط...
في قمة الألم والوحدة والبلبلة، يسير يسوع نحوهم ماشيا على المياه، والأمر زادهم اضطرابا وظنوه أنه خيالا (متى 14: 26). في عمق الأزمة، يقع التلاميذ في أزمة التشكيك بحضوره، لا بل يبدأون بالصراخ من شدة الهلع، وإذ بصوته يغلب صوت الأمواج والرياح، يحمل في طياته الأمل ويقول: "تشجعوا! أنا هو! لا تخافوا!" (متى 14: 27)... كيف في هذه الجلبة يستطيع التلاميذ سماع صوت الرب ويميزونه؟
"إن خرافي تعرف صوتي، وأنا أعرف خرافي" (يو 10: 27). لقد عرف التلاميذ صوت الراعي وعرفت أن تميّزه، أصغت إلى نبرته التي تمنح كل قلب تائه الثقة... ألم يقل لهم: "ثقوا فإني قد غلبت العالم"؟ (يو 16: 33). بهذه الكلمات التي نجدها بعد هذه الحادثة نرى يسوع يحضرهم إلى الهزيع الرابع الحقيقي، يوم لم يعد معهم، يوم يكون وحيدا على الصليب، وهم خائفون ومرتعبون، ينظر إليه البعض منهم فيرون إنسانا لا شكل له ولا بهاء (أش 53: 2). يرون المعلم محاطا بالجنود الساخرين، والدماء تتدفق من الجراح، كأنها تلك الأمواج التي كانت تلطم السفينة في وسط البحر، وكم كانت تلك الأمواج ضعيفة مقارنة مع أمواج الدماء التي تخرج من جسد السيد، وتهدد كل شيء، حتى انكسر ذلك الجسد... في تلك اللحظة تلفظ السيّد بأهم كلمة على الصليب: "لقد تمّ" (يو 19: 30). أعلن الرب أن الهزيع الرابع قد انتهى، وأن ظلام الخطيئة قد انبلج وظهر فجر القيامة. "لقد تمّ".... ظن الجميع أن كل شيء قد انتهى وأن مشروع الله قد فشل. نعم، كان فشل، وتحسّر الجميع على هذه النهاية المأساوية، ولكن كما نظر يومها إليهم من بعيد وهم معذبون، يعاركون الأمواج وانتظر من ساعات المساء حتى الهزيع الرابع، الان انتظر ثلاثة أيام، رآهم فيها معذبين، وانتظر، ليبشر من كانوا يتعاركون مع سلطان الموت في مثوى الأموات ليبشرهم أن كل شيء قد تمّ. وكما سار نحوهم ماشيا على الماء، جاء إليهم في اليوم الثالث، واطئا الموت بالموت، لقد قام الرب وفهم التلاميذ المعنى الحقيقي لكلماته: "لقد تمّ". لم يعد بعد وجودا للهزيع الرابع، فهو القائل: "وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ" (متى 28: 20). فيا سيّد الكل، امنحني نورا وقلبا متقدا لأفهم وأدرك أن كل شيء قد تمّ، والقدرة على فهم وإدراك كلماتك في كياني: "لا تخافوا، أنا هو" (متى 14: 26).
بقلم الأب الياس ضو