أنت هنا

تاريخ النشر: 
الثلاثاء, فبراير 16, 2021 - 08:51

بقلم سيادة المتروبوليت د. يوسف متى الكلي الوقار 

أبناء رعايا الأبرشيّة المحبوبين

سلام المسيح معكم

دخلنا  زمن الصّوم الأربعينيّ المُبارك، موسم المصالحة المتجدّدة مع الله، ونحن لا نزال قابعين تحت وطأة الوباء الضّاري، فلا نهلع أو نتردّد، بل أراني أحثّكم وأشجّعكم، يا أخوتي، على أن تتّخذوا هذا الموسم المبارك كفرصة جديدة يقدّمها لنا الرّبّ المصلوب والقائم، الّذي يدعونا لنتقاسم معه الآلام من جديد، مُسلّمين ذواتنا بكلّيتها لنعمة آلامه وصلبه وقيامته.  هكذا، فقط نتعلّم كيف نرى خميرة الحياة الجديدة، ثمرة قيامته الّتي غذّت، ولا تزال، حياة الكنيسة والعالم، كلّ يوم، فيما يتجاوز العالم كلّ هذه الشّدائد والضّيقات.

أيّها الأبناء الأحبّاء؛ كونوا واثقين من أنّ لا شيء يحدث دون أن يأذن الله به، ولا يسمح الله بشيء إلّا لكونه عائدًا إلى مجده. هكذا كان الله في كلّ الأزمنة، وهكذا هو اليوم وكلّ يوم، الثّابت الحيّ غير المتغيّر، فلنثق إذًا، بأنّ الرّبّ يسوع بنور فصحه الّذي لا يغرب، وبانتصار حُبّه الكامل، يؤكّد لنا يقينًا بأنّه حاضر بيننا، ويساعدنا في الانتصار على الشّدائد، كما يساعدنا في إيجاد مصدر الحُبّ الّذي هو بذاته.

ربّما تكلّفنا فرص اكتشاف حياة جديدة جهودٌ كبيرة، خاصّة في مثل هذه الأوقات الشّائكة وفي مثل هذه الأزمنة المباركة في آنٍ، لكن ينبغي علينا أن نثبت في الإيمان، وأن نسعى من أجل هذا الاكتشاف، وأن نتعاضد في استقبال زمن الصّوم، الّذي يزورنا للمرّة الثّانية على التّوالي، ونحن لا نزال في قلب عاصفة الكورونا، لكن تشدّدوا، ولنتشدّد معًا يا أخوة.

إنّنا كمسيحيّين، أبناء الرّجاء، تقع على عاتق إيماننا، مهمّة تحويل الألم إلى أمل، تحويل هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا إلى فرصة جديدة للمصالحة والتّوبة، ولا بدّ لنا أن نفسّر مُجمل هذه الأحداث الّتي تلفّنا وتُقلقنا، على أنّها علامة بشارة جديدة وبداية تواصل جديد مع الرّبّ الإله، ولا بدّ في هذا السّياق أن نذكّر بوجوب التزام الفرد تجاه المجموعة، في اتّخاذ الحذر من جهة وفي نشر البشارة من خلال زمن الصّوم من جهة أخرى، فلا الأوّل يُبطل الثّاني ولا الثّاني يُبطل الأوّل، بل يسيران معًا في شركة إنسانيّة واحدة. هذا معنى أنّ "كلّ شيء مرتبط" ونحن كذلك أفرادًا وجماعات مرتبطون بمسؤوليّات تشاركيّة، كمؤمنين وكمواطنين في هذه البلاد. فلا ندع أحدًا في حيرته وقلقه وخوفه وتخبّطه، ولا في وحدته وعزلته، ولا في انهياره الاجتماعيّ والنّفسيّ أو الاقتصاديّ، بل نهرع لمدّ يد المعونة بمحبّة متناهية، لكلّ مُحتاج أو مُهمّش أو مُستعطٍ. إنّه واجب الإنسان للإنسان والمؤمن لكافّة البشر. فلنتجاوز معًا هذه التّحدّيات في هذا الزّمن الاستثنائيّ، ولنتسلّح بالصّلاة والصّوم وبرجاء القيامة، فلا نظلّ بعد أمواتًا تجاه الآخرين بل أخوةً لهم، هي الرّسالة العظيمة، رسالة المحبّة والتّضحية والفداء الّتي تقف لنا في هذا الزّمن المبارك، كما علّمنا الرّب يسوع المسيح، مُتطلّعين إلى خلاصنا وخلاص العالم من أزماته كافّة، وانتهاءً بالخلاص الأبديّ بالقيامة ونحن نشهد لها تتوّج فصحنا المبارك.

نعم! فنحن مدعوّون إلى الاهتمام بالآخرين بشكل مسؤول، وخاصّة أولئك الّذين يعتبرهم البعض عبئًا على المجتمع، ومن الواجب أن نتغلّب على مناخ اللّامبالاة العامّ الّذي يصرف انتباهنا عن الاعتراف بأنّنا جميعًا "في نفس القارب"، فلنكن،  يا أخوتي، علامة رجاء لجميع المهمّشين والمشرّدين والمرضى والمحتاجين وكبار السّنّ، وسواهم، ممّن يبحثون عن أقلّ علامة حياة توحي لهم بأنّهم لا يزالون يتنفّسون، ولا يزالون محبوبين، ولنكن نحن علامة الرّجاء والحياة لأولئك، كما نطلبها نحن أيضًا من سوانا لنشعر بالطّمأنينة والهدوء، وبأنّ هناك مَن يفكّر بنا ويُحبّنا، ويكون لنا علامة حيّة،  فلنكن نحن ، إذًا، هذه العلامة بذاتها للآخرين.

 

إنّه لمن الجميل والمؤثّر أن نشعر بأنّنا كنيسة واحدة جامعة رسوليّة، تبحث معًا عن إجابات لأسئلة طفَت في زمن الوباء، وككنيسة ترافقنا في بحثنا عن الحقيقة، وفي تساؤلاتنا عن معنى الحياة والموت. إنّها موضوعات تبدو سهلة، لكنّها تستدعي التّأمّل مليًّا بها، ولا بدّ لكلّ مسيحيّ أن تكون لديه الرّغبة والقدرة على تقديم مثل هذه التّأمّلات، خاصّة تلك الّتي تولد من رحم الأزمات، كما هي في أزمة وباء "الكورونا"،

 ولا بدّ أن نعي ما ينتظر الكنيسة من تحدّيات خلال أزمة وباء "الكورونا" وما بعدها، وكيف للكنيسة بمؤمنيها أن تبتكر طرقًا جديدة لعيش الإنجيل والبشارة به، لذلك، علينا أن نحوّل "ثقافة الأزمة" اّلتي تمليها حالات الطّوارئ، إلى "ثقافة التّخطيط"، سائرين بكنيستنا، بخطى واعدة ثابتة ومتجدّدة، نحو نشر شهادات الحياة الإنجيليّة الحيّة بكلّ غيرة واهتمام. بل تقع على عاتقنا نحن المؤمنين جميعًا مسؤوليّة إعداد كنيسة الغد، خصوصًا تلك الاحتمالات الجديدة المتوقّع استكشافها، والّتي من الممكن أن تصبح طرقًا تبشيريّة معتمدة، لذا فلنكن في أتمّ الاستعداد لمثل هذه النّقلة الواعدة العتيدة، ولنُسهم بها معًا من أجل أن تؤتي ثمارها المباركة.

 

وماذا بعدُ؟ إنّه لُقاح القلب..

إنّ رحلة الصّوم، بالنّسبة لنا نحن المسيحيّين، تتضمّن، قبل كلّ شيء، الالتزام بتلقّي "لقاح خاصّ"، وليس بالنّيّة فقط!،. يدعونا هذا اللّقاح إلى التّصالح مع الله. إنّه سرّ التوبة والاعتراف الّذي أهمِلَ في هذه الفترة بالذّات! لذا، أدعوكم، أبنائي وأخوتي المحبوبين، باسمي، وباسم أخوتي الكهنة رُعاتكم، إلى التّقدّم من هذا السّرّ وهذه الخدمة الثّمينة والمقدّسة، هذه الوديعة النّفيسة الّتي تركها لنا السّيّد المسيح بابًا للمصالحة، إذ سيكون كهنتنا جاهزين لهذه الخدمة المقدّسة، كجزء  من التزاماتهم وأولويّاتهم داخل الرّعايا، لا سيّما أنّ مؤمنين كثيرين حُرِموا من هذه النّعمة خلال فترات الإغلاقات القسريّة، النّعمة الّتي ينبغي أن ينظر إليها كلّ مؤمن بشغف وغيرة على خلاص نفسه، من خلال لقاء شخصيّ مُتجدّد مع المسيح عبر الكهنة خدّامه الأمناء.

الرّبُّ صالحٌ، الرّبّ طيّبٌ، ذوقوا وانظروا ما أطيب الرّبّ، فلا تتردّدوا، يا أخوتي، من الاقتراب إلى هذا الأسرار المقدّسة، ومن تلقّي هذا اللّقاح الرّوحيّ الشّافي. إنّه لُقاح للقلب والرّوح.. يسوع بانتظاركم هناك.

 ختامًا، أضرع إلى الله أن يمُنّ عليكم وعلينا برحلة صوم مثمرة ومباركة، برفقة الرّبّ يسوع الّذي يُحبّنا باستمرار، ويبذل حياته من أجلنا باستمرار، وهكذا فلنقدّم نحن أيضًا من حياتنا إلى أخوتنا، خاصّة المحتاجين.

بركة الله الآب والابن والرّوح القدس معكم ومع عائلاتكم جميعًا.