أنت هنا
القائمة:
جدليّة التجديد والتقليد والترجمة
بطريركية بابل للكلدان
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
التجديد
تجديد الفكر والعلوم، حالةٌ طبيعيةٌ ضروريةٌ وحيوية ومشروعة، بسبب تغيير طبيعة الناس، وزمنِهم وعقليّتِهم وثقافتِهم وظروفِهم، ولحصول اكتشافات علميّة جديدة. التجديد حزمة كاملة من المعطيات، وعملية شاملة ينبغي الالتزام بها. وفي المجال الديني ينبغي أن يكون التجديد من أولويات اهتمام المرجعيَّات الدينيَّة، لأن الكثير من المعطيات تغيرت بفضل الثقافة الجديدة وتأثير وسائل التواصل الاجتماعيsocial media ، التي صَيَّرت العالم قريةً رقميَّةً صغيرة. فباتَ تجديدُ الخطاب الديني مَطلباً مُلحاً وفقاً للسياق التاريخي والمكاني. وبكلِّ محبة أقول ان تجديد الخطاب الديني يشمل المسيحيين والمسلمين واليهود، وبينهم قواسم مُشتَرِكة ومُختلفة، إنْ هم أرادوا ألاّ يفقدوا شبابَهم. فعالمنا أقل مثاليّة والجيل الجديد مختلف عن شباب الجيل القديم المؤمن والمُطيع! والثقافة المعاصرة تحتاج إلى خطاب ديني أكثر عُمقاً، يستوعب أسئلة الناس، ويستند الى الحقيقة في إيجاد حلول سليمة لمشاكلهم، والا سينتهي بهم الأمر إلى التشكيك وترك الدين. الناس يحتاجون الى لغة بسيطة، قادرة على نقل البلاغ الديني، وشدِّهم اليه، لاسيما انهم يُدركون ان محور رسالة الاديان هو الانسان، وان على الدين ان يُرشدُ الناس، ويُقوّي لديهم الأمل والرجاء، ويُعينَهم على عيش ظروفهم الحياتية. يقول المسيح: “أتيتُ لتكونَ لهم الحياة وبوفرة” (يوحنا 10/ 10).
التجديد مصطلحٌ تُراثيٌّ في الأصل، تتنازعه تياراتٌ فكريّة وثقافيّة مختلفة، بنوازع شخصيّة وايدولوجيّة وسياسيّة. وفي مجتمعنا وحتى في الكنيسة، يوجد التقدمي والرجعي، والمتجدد والمحافظ، والمتطرف الذي يبث الكراهيّة. من المؤسف ان الكثير مما يقوله المتزمتون (القومجيون) عن التراث مزايدة على التراث، وتلاعبٌ خطير بامور الدين. انتقاداتهم تُعبِّر بوضوح عن أزمة نفسيَّة ومعرفيَّة.
الأصالة تعني الأصل، اي البداية الممتازةgenesis التي منها انطلقت الفكرة والنص الاول، وليس ما تراكم عليه من اضافات عبر الزمن. ما لدينا اليوم مختلف عن الأصل. ينبغي التمييز بين الأصيل والدخيل! الاصالة تتطلب معرفة: من كتَبها ولمن كتَبها، وما معنى الكلمات عند كتابتها، والفكرة التي أراد الكاتب إيصالها، والثقافة الدينيّة والممارسات الاجتماعيّة التي كانت سائدة آنذاك. ثم كيف نقدر أن نؤوّنها لمؤمنينا!
الكنيسة ليست اسيرة تقاليد قديمة
الكنيسة ليست أسيرة تقاليد قديمةٍ وتراثٍ جامد، تقومُ على التلقين والحفظ، بل الكنيسة ناقلة بشرى الانجيل لكلِّ زمان ومكان وفقاً لثقافةِ الناس، ولغتهم ومحيطهم. الكنيسة منفتحة على العالم بروح أكثر واقعيّة وشموليّة. والصفة الأساسيّة للكنيسة هي المسكونيّة، أي ليست لقومٍ معين وجنس معين، ولغة معينة وجغرافية معينة. الكنيسة هي لكلِّ الناس: “إذهبوا الى العالم كله وإعلنوا البشارة الى الخلق أجمعين” (مرقس 16/ 16). رسالة المسيحية متجددة، ولابد للكنيسة أن تتعلم من التاريخ وتتقدم في البحث المستدام، وتمتلئ من الحكمة والمعرفة، لتتكلم بجرأة عن التحديّات التي يواجهها الناس، وعن المواضيع اللاهوتية والاخلاقية والاجتماعية والتشريعية، التي لها علاقة بحياتهم، والتي تراكمت عبر القرون لتقوم بتأوينها، واعادة صياغتها لتتلاءم مع الثقافة المعاصرة، وتجعلها نعمة. الانسان المعاصر بحاجة الى التنوير والوعي حتى تكون ممارسته الدينية ذات قيمة، تنبع عن المعرفة والحرية، وليس عن جهلٍ أو تقليدٍ آليٍّ موروث.
يتعيَّن على الكنيسة اليوم أن تجد لغة مفهومة تتحدث بها مع الناس، عن إيمانها بطريقة مختلفة، خاصة مع الشباب، إيمان تُعبِّر عنه بلغتهم وحضارتهم ليَشعّونه حواليهم حباً وحياةً ورجاءً. الكنيسة تتحرك حيث “يهب الروح” (يوحنا 3/ 8)، وتتجدد وتمشي ولا تتوقف كما يذكر البابا فرنسيس في خطاباته.
التجديد كاريسما المسيحية
ان عملية التجديد aggiornamento والتأوين هي كاريسما المسيحية. وقد تبنت الكنيسة على طول تاريخها موضوع المثاقفةenculturation . كيف يمكن ان تُبشّر شعباً من دون ان تتبنى لغته؟ وكيف تُصلّي مع اُناس بلغة لا يعرفونها؟ التعصب الذي نشاهده عند بعض الدعاة الى “التراث واللغة”، موقف متطرف، وغير مسيحي! المسيح جاء لكلِّ الناس حاملاً لهم أُبوة الله ومحبَّته ورحمته. وكانت دعوته: “أنتم كلّم اخوة” (متى23/ 8)، عيشوا اذاً كإخوة وأخوات في غاية المحبة والفرح. المسيح لم يؤسّس ديناً قوميّاً أبداً، بل وجَّهَ رُسلَه للذهاب الى العالم أجمع لنقل بُشراه (مرقس 16/ 15).
التجديد يبدأ من الأسفل الى الأعلى، لأن ثمة مفاهيم دينية وتقاليد متوارثة مغلوطة، باتت غير مقبولة. التجديد ليس خطراً على الدين أبداً، بل هو من طبيعته، إنما الخطر يأتي من التشدُّد الذي يُشوّه الدين. المتشدّد، له دين، لكن ليس له إيمان. التجديد لا يتم بترقيع القديم المتوارث، بل بتأوينه بطرق وأساليب جديدة، مفهومة ومقبولة لزماننا. وبكل صراحة أقول ان اللاهوت الكلاسيكي النظري speculative لا يساعد الناس اليوم على فهم مباديء إيمانهم، بل يُشتِّتهم. أليس هو السبب في إنقسامات الكنيسة؟
التجديد يعتمد بكلِّ تأكيد على الكتاب المقدس، وآباء الكنيسة الأوائل، والتعليم “المتواتر” الرسميّ للكنيسة. اللاهوت كعلم حاله حال بقية العلوم يتجدد، وكذلك الطقوس والقوانين (الفقه)، كلُّها مجتمعيَّة، اي في خدمة المجتمع وارتقائه. المسيحية ترتكز على رسالة المسيح، والمسيحي الحقيقي قلبه منفتح، وفكره متجدد. يجب أن نعود باستمرار إلى هذا الروحّ ، بالعقل والقلب، ولا نتوقّف عن النموّ، والتفاعل مع ديناميّة الانجيل. فالمسيح هو مع الحداثة: “السبت لاجل الانسان” (مرقس2/ 27)، “اريد رحمة لا ذبيحة” (متى 12/ 7)، “قيل لكم أمّا أنا فأقول لكم” (متى 5/ 38-48).
التجديد ليس “موظة“، وانما ضرورة ايمانيَّة وراعويَّة، تتخذ شرعيَّتها من الانجيل، ومن الواقع الثقافي والاجتماعي الجديد الذي نعيشه. من هنا السؤال: لماذا الموروث وهو أعراف وتقاليد اتخذت صفة القدسية، وما نعمله اليوم من جهود للتأوين لا! في موضوع تجديد الليتورجيِّا (الطقوس) يقول المجمع الفاتيكاني الثاني، وهو وثيقة ملزمة للكنيسة كلها: “لكي يحصل الشعبُ المسيحي بكل تأكيد على نِعَمٍ غزيرة في الطقسيّات، أرادت أُمّنا الكنيسة المقدسة أَن تعملَ بكل رصانة على تجديد الطقسيات العام بالذات… ويقتضي هذا التجديد تنظيم النصوص والطقوس بحيث تُعبِّرُ بأَكثر جلاء عن الحقائق المقدسة التي تَعني، ويتمكن الشعب المسيحي، على قدر المُستطاع، أن يفقهها بسهولة وأن يشترك بها اشتراكاً تامّاً، فعَّالاً وجماعياً” (دستور في الليتورجيا المقدسة رقم 21).
جدلية الترجمة( التعريب)
انا لستُ ضدّ لغتنا الجميلة أبداً، وانا أعتز بها وأتكلمها، لأنها لغة آبائي وأجدادي، واعتبرها كنزاً، لكن ما العمل عندما لا يعرفها ولا يتكلم بها قسم مهم من شعبنا؟ نحن كنيسة مسؤولة عن نقل فرح الإنجيل، ولسنا نواطير متحف. الرسالة المسيحية هي لكلِّ الشعوب واللُغّات، وليست لشعبٍ واحدٍ مختار هو خير أُمة! أليس الى هذا الانفتاح يُشير نصُّ سفر أعمال الرسل عن حلول الروح القدس على التلاميذ على شكل ألسنة: “وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، فامتَلأُوا جَميعاً مِنَ الرُّوحِ القُدس، وأَخذوا يتكلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهِم، على ما وَهَبَ لهُمُ الرُّوحُ القُدُسُ أن يَتَكَلَّموا” (اعمال 2/ 3-4).
التعريب(الترجمة) لا علاقة له بالسياسة كما يفتري بعض المُهرّجين، وانما هو مطلب راعوي ضروري. الرسالة المسيحية جاءت باللغة العبرية واليونانية، وفي وقت مبكر تُرجِم الكتاب المقدس الى السريانيّة، اي الى اللهجة الارامية لمملكة الرها. وعند قدوم العرب المسلمين الى ديارنا، تعامل معهم آباؤنا بإيجابيّة، فتعلموا لغتَهم، وكتبوا بها في مجال الفقه واللاهوت الذي سموه “علم الكلام”. أذكر على سبيل المثال اللاهوتي يحيى بن عدي (+974)1، والجاثليق طيمثاوس الكبير(+823)، مع الخليفة المهدي2، وسكرتيره أبو الفرج، عبدالله ابن ألطيّب البغدادي، في فقه النصرانية3، والمطران ايليا برشينايا (+ 1046)4، والمطران عبديشوع الصوباوي (+1318) الانجيل المُسَجَّع5، والبطريرك ايليا الثالث الحديثي الملقَّب بأبي حليم (+ 1190) في كتابه التراجيم السنيّة للأعياد المارانية6، وقد اتبع اسلوب مقامات الحريري. هؤلاء العلماء اوجدوا مصطلحات بديلة للمصطلحات اللاهوتيّة اليونانيّة والسريانيّة المستعملة، فقالوا مثلاً: الصفة الذاتية للاقنوم، والوجه للشخص. كما ان الالحان التي كنا نستعملها، حتى زمن قريب في الموصل، هي للقس خدر الموصلي (+ 1755): “المجد للاب والابن والروح القدس: يا عذراء مريم اطلبي من المسيح حتى بصلاتك العالم يستريح.. وأنا هو الخبز السماوي وحدي.. ويوم القيامة تجيء وتدين”.
المجتمع تغيّر، وشعبُنا انتشر في اربع بقاع الدنيا، وصلواتُنا لا فقط يجب ان تترجم، بل ان تُجدَّد بحسب البلدان التي يعيش فيها الكلدان. هكذا فعلت الكنائس الاخرى! واذا بقينا على القديم كما هو، وكما يريد المتشددون، لوضعنا انفسنا خارج الزمن، وفقدنا بناتنا وأبناءَنا.