أنت هنا

أبينا الجليل في القديسين غريغوريوس العجائبي
رئيس اساقفة قيصرية الجديدة (+ 270م)
17-11
أبصر غريغوريوس – وكان اسمه في الأساس ثيوذوروس – النور في مدينة قيصرية الجديدة في بلاد البنطس حوالي العام 213 للميلاد. كان والداه وثنيين وكان له أخ أخت. وقد سمح له وضع عائلته بتلقي نصيب لا بأس به من العلم، فدرس الآداب والفقه والخطابة. تمتع بمواهب جمة وامتاز بالحكمة والوداعة ومال إلى الهدوء والتأمل.
كان في صباه غير ما كان عليه أترابه. وكثيرا ما حاولوا اجتذابه إليهم أو حتى إرباكه فلم ينجحوا في تحويله عن خط سيره. مرة دفعوا بواحدة من الغواني فدنت منه أمام الملأ وطالبته بما لها عليه لقاء متعة مرغوبة قضتها له، فلم يجبها ولا دافع عن نفسه بل أعطاها ما تريد وتركها تذهب.
توفي والده وهو صغير السن وشاءت والدته لما رأته فيه من ذكاء حاد وميل إلى العلم أن ترسله إلى مدرسة بيروت التشريعية الشهيرة في ذلك الزمان. ولما كانت أخته على أهبة الزواج من وكيل حاكم فلسطين فقد رافقها هو وأخوه، اثينودوروس، إلى قيصرية على أمل الانتقال منها إلى بيروت بعد ذلك. ولكنه تعرف في قيصرية إلى المعلم المشهور اوريجنوس فأخذ بعلمه ومنطقه وتقواه وآثر البقاء في القيصرية.
لازم غريغوريوس وأخوه أوريجنوس خمس سنوات واعتمدا منه. وقيل أنهما لحقا به إلى الاسكندرية لبعض الوقت بعدما جدا حاكم فلسطين في طلبه إثر موجة جديدة من الاضطهاد على المسيحيين.
وأخيرا عاد غريغوريوس إلى موطنه فلقيه قومه بالترحاب وانهالت عليه عروض التوظيف. ولكن، كانت عين غريغوريوس في غير مكان فترك الحياة العامة واهتمامات الدنيا وانصرف إلى البرية ينشد النسك والصلاة والتأمل في الكتاب المقدس. ويقال أنه لازم القفر بضع سنوات.
وما هو سوى زمان قليل حتى ذاع صيت فضائله وبلغ أذني فيديموس، أسقف أماسيا التي تقع قيصرية الجديدة في إطارها، فأراد أن يجعله أسقفا على مسقط رأسه رغم أنه كان بعد في الثلاثين. قيصرية الجديدة كانت يومها وثنية إلا سبعة عشر شخصا اقتبلوا المسيحية. فلما علم غريغوريوس بعزم الأسقف ترك تنفيذ رغبته. فقد لجأ إلى طريقة قلما ألفها تاريخ الكنيسة أو أقرتها الأعراف، إذ عمد إلى سيامته غيابيا وأنفذ له علما وخبرا بذلك. في هذه الأثناء جاء غريغوريوس صوت من السماء يقول له: "أذعن لإرادة رئيسك وأسقفك فيديموس. أنها هي إياها إرادة الله". فترك منسكه للحال وتوجه إلى أماسيا حيث وضع نفسه في تصرف أسقف المدينة.
كأسقف على قيصرية الجديدة أبدى غريغوريوس غيرة وهمة كبيرين. وقد من عليه الله بمواهب جمة، فتمكن بالمحبة والصلاة والكلمة وصنع العجائب من هداية أهل المدينة والجوار. ويقال أن عدد الوثنيين في المدينة كان مساويا، عند وفاته، لعدد المسيحيين وقت دخوله اليها أسقفا: سبعة عشر. هذا علما بأن زمن ولايته كان زمن حرب وطاعون واضطهاد.
أما عجائبة التي أورد قسما كبيرا منها كل من القديسين باسيليوس الكبير وغريغوريوس النيصصي فكانت غزيرة، واسعة النطاق، مدهشة. قيل أنه كان له سلطان على الأرواح النجسة والجبال والمياه وكان يشفي المرضى وكانت له موهبة النبوة ويعرف مكنونات القلوب. كما كان، بنعمة الله، قادرا على الاختفاء عن أعين مضطهديه. يروى في هذا الشأن انه بعدما أطلق داكيوس قيصر شرارة الاضطهاد على المسيحيين حوالي العام 250 للميلاد انصرف غريغوريوس وجمع غفير من أبناء رعيته إلى الجبال المتاخمة لقيصرية الجديدة. وحدث ذات مرة، أن جنودا رصدوه، هو وشماسه على إحدى القمم فصعدوا إليه وكادوا أن يدركوه بعدما كانوا على بعد خطوات معدودة منه. ولكن ماذا جرى؟ تقدم الجنود قليلا إلى الأمام فعاينوا شجرتين باسقتين ولم يروا أثرا فعادوا خائبين.
وبعدما همدت حملة الاضطهاد هذه، عمد غريغوريوس إلى جمع رفات الشهداء وجعل لهم أعيادا سنوية ثابتة. ولعل بعض مواطن الإبداع في ما فعله غريغوريوس كان تعيينه أعياد الشهداء في نفس الأيام التي اعتاد الوثنيين إقامة احتفالاتهم وسمح ببعض مظاهر الفرح والتعييد الوثنية. بكلام آخر عمد غريغوريوس الأعياد الوثنية، تمثلها، وبالتالي ساعد على إلغائها من وجدان الناس.
من جهة أخرى يذكر القديس غريغوريوس النيصصي الذي كتب سيرة سميه العجائبي أنه أول من شهد التاريخ القديم لمعاينته والدة الإله. ففي احدى الليالي ظهرت له والدة الإله برفقة القديس يوحنا اللاهوتي وكشفت له سر وحدة الجوهر الإلهي والتمايز بين الأقانيم الثلاثة، الآب والابن والروح القدس. وقد شكل هذا الكشف ما عرف ردحا من الزمن بدستور القديس غريغوريوس العجائبي الذي اعتادت تلاوته كنائس قيصرية الجديدة والجوار. وهذا الدستور عينه استعان به الآباء في المجمع المسكوني الثاني (381م) لإخراج دستور الإيمان المعروف إلى يومنا إلى النور.
هذا الكشف جعل الآباء ينظرون إلى غريغوريوس وكأنه موسى ثان يتلقى الإعلانات الإلهية مباشرة من لدن العلي.
أما رقاد القديس غريغوريوس فكان بسلام في الرب بين العامين 270 و275 للميلاد. وقد قيل أنه أوصى بأن يدفن في قبر من قبور الغرباء لا في قبر خاص لأنه لم يختص نفسه بشبر أرض في حياته ولم يشأ أن يختص جسده بشبر واحد في مماته.