ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة السادسة مساء من يوم الجمعة وقفة صلاة من ساحة بازيليك القديس بطرس منح في ختامها البركة لمدينة روما والعالم والغفران الكامل لجميع المؤمنين الذين تابعوا هذا الاحتفال عبر وسائل التواصل الاجتماعي وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها "عند المساء" هكذا يبدأ الإنجيل الذي سمعناه. يبدو لنا وكأنّ المساء قد حلَّ منذ أسابيع. ظلمة كثيفة قد غطّت ساحاتنا ودروبنا ومدننا واستولت على حياتنا وملأت كل شيء بصمت رهيب وفراغ كئيب يشلُّ كل شيء لدى عبوره: نشعر به في الهواء وفي التصرّفات وتعبّر عنه النظرات؛ ونجد أنفسنا خائفين وضائعين وعلى مثال التلاميذ في الإنجيل فاجأتنا عاصفة غير متوقَّعة وشديدة. لقد تيقّنا بأننا موجودون على السفينة عينها، ضعفاء ومضطربين ولكننا في الوقت عينه مهمّين وضروريين وجميعنا مدعوون لكي نجذِّف معًا ومعوزون لتعزية بعضنا البعض. جميعنا موجودون على هذه السفينة؛ وكهؤلاء التلاميذ الذين يتكلّمون بصوت واحد خائفين وقائلين "إننا نهلك"، هكذا نحن أيضًا قد تنبّهنا أنّه ليس بإمكاننا أن نسير قدمًا كلٌّ بمفرده وإنما علينا أن نسير معًا.
تابع الأب الأقدس يقول من السهل أن نجد أنفسنا في هذه الرواية. لكن ما يصعب علينا هو أن نفهم موقف يسوع. ففيما كان التلاميذ مرتعبين خائفين كان يسوع نائمًا في الجزء المعرّض أولاً للغرق، وماذا فعل؟ بالرغم من الاضطراب والارتباك كان ينام هادئًا واثقًا بالآب - إنها المرّة الوحيدة التي نرى فيها يسوع نائمًا في الإنجيل – وعندما أيقظه التلاميذ وهدأ الريح والبحر توجّه إلى تلاميذه قائلاً: "ما لكم خائفين هذا الخوف؟ أإلى الآن لا إيمان لكم؟". نحاول أن نفهم، على ما يقوم نقص إيمان الرسل الذي يتعارض مع ثقة يسوع؟ هم لم يتوقّفوا أبدًا عن الإيمان به وبالتالي توسّلوا إليه، لكننا نرى كيف توسّلوا إليه: "يا مُعَلِّم، أَما تُبالي أَنَّنا نَهلِك؟". أما تبالي: يعتقدون أن يسوع لا يهتمُّ لأمرهم ولا يعتني بهم. وأحد أكثر الأمور التي تؤذينا هي عندما نسمع فيما بيننا وفي عائلاتنا من يقول لنا: "أما تبالي بي؟". إنها جملة تجرح وتولِّد عاصفة في القلب. قد تكون قد هزّت يسوع أيضًا لأنّه ما من أحد يهتمُّ لأمرنا أكثر منه. في الواقع ما إن طُلب منه أنقذ تلاميذه العديمي الثقة.
أضاف الحبر الأعظم يقول إن العاصفة تكشف ضعفنا وتُظهر تلك الضمانات الزائفة التي بنينا عليها برامجنا ومشاريعنا وعاداتنا وأولوياتنا. تظهر لنا كيف تركنا وأهملنا ما يغذّي ويعضد ويعطي القوّة لحياتنا وجماعتنا. إن العاصفة تكشف جميع نوايانا بأن نضع جانبًا وننسى كل ما غذّى أرواح شعوبنا؛ وجميع محاولات التخدير بواسطة عادات تبدو في الظاهر مخلِّصة ولكنها غير قادرة على أن تذكرنا بجذورنا ومُسنّينا فتحرمنا هكذا من الحصانة الضرورية لمواجهة الضيق والمحن. مع العاصفة سقط قناع تلك الأنماط التي كنا نخفي بواسطتها "الأنا" لأننا كنا نخاف على صورتنا فكُشف مرّة أخرى ذلك الانتماء المشترك (المبارك) الذي لا يمكننا أن ننكره: إنتماؤنا كإخوة.
تابع البابا فرنسيس يقول "ما لكم خائفين هذا الخوف؟ أإلى الآن لا إيمان لكم؟" إنّ كلمتك يا رب، تؤثِّر فينا وتطالنا جميعًا. ففي عالمنا هذا الذي تحبّه أكثر منا قد سرنا قدمًا بسرعة عالية معتبرين أنفسنا أقوياء وقادرين على كلِّ شيء. فامتلَكَنا الجشعُ إلى الربح، وأغرَقَتْنا الأشياء وأبهَرَنا التسرّع. لم نتوقّف أمام نداءاتك، ولم نستيقظ إزاء الحروب والظلم الذي ملء الأرض، ولم نستمع إلى صرخة الفقراء وصرخة كوكبنا المريض. استمرّينا دون رادع، مُعتقدين أننا سنحافظ دومًا على صحّة جيّدة في عالمٍ مريض. والآن، فيما نحن في بحر هائج، نناجيك: "استيقظ يا ربّ!".
أضاف الأب الأقدس يقول "ما لكم خائفين هذا الخوف؟ أإلى الآن لا إيمان لكم؟" يا رب، إنك توجّه لنا دعوة إلى الإيمان. لا أن نؤمن بوجودك، بل أن نأتي إليك ونثق بك. في زمن الصوم هذا يتردد صدى دعوتك الملحة "توبوا"، "عودوا إليَّ بكل قلوبكم". إنك تدعونا إلى الإفادة من زمن المحنة هذا كزمن للاختيار. ليس زمنَ دينونتِك، بل إنه زمنُ دينونتِنا: إنه وقت الاختيار بين ما هو مهم وما هو عابر، وقتُ الفصل بين ما هو ضروري وما ليس ضروريا. إنه زمن إعادة تصويب دربنا باتجاهك، يا رب، وباتجاه الآخرين. ويمكننا أن ننظر إلى العديد من رفاق الدرب المثاليين، الذين تصرفوا وسط الخوف، مضحّين بحياتهم. إنها قوة الروح القدس الفاعلة التي تُترجم في تكريس الذات بشجاعة وسخاء. إنها حياة الروح القادر على تبيان واقع حياتنا وتثمينها: حياتنا التي ينسجها ويعضدها أشخاص عاديون، غالبا ما ننسيهم، لا يظهرون على صفحات الجرائد والمجلات، أو في "المشاهد الاستعراضية". ولكنّهم يخطّون اليوم الأحداث المقررة بالنسبة لتاريخنا: الأطباء والممرضون والممرضات، موظفو المتاجر الكبيرة (السوبرماركت)، عمال التنظيف، وعمال المنازل، سائقو الشاحنات، عناصر الأجهزة الأمنية، المتطوعون، الكهنة، الراهبات، وكثيرون آخرون أدركوا أن لا أحد يستطيع أن ينجو بمفرده. إزاء المعاناة التي تشكل مقياس النمو الحقيقي لشعوبنا، نكتشف ونختبر الصلاة "الكهنوتية" ليسوع "أن يكونوا جميعهم واحدا". كم من الأشخاص يمارسون الصبر يوميا، وينشرون الرجاء، ويحرصون على عدم بثّ الهلع بل المسؤولية المتقاسمة. كم من الآباء والأمهات والأجداد والمدرّسين الذين يعلّمون أطفالنا، من خلال أفعال صغيرة ويومية، كيف يواجهون ويتخطون هذه الأزمة عبر إعادة تكييف العادات، ورفع الأنظار والتحفيز على الصلاة. كم من الأشخاص يصلّون، ويتضرعون من أجل خير الجميع. الصلاة والخدمة الصامتة هما السلاح الذي ينتصر.
تابع البابا فرنسيس يقول "ما لكم خائفين هذا الخوف؟ أإلى الآن لا إيمان لكم؟" بدايةُ الإيمان هي أن ندرك أننا نحتاج إلى الخلاص. ليست لدينا أي كفاية ذاتية. لوحدنا نغرق! إننا نحتاج إلى الرب كحاجة البحارة القدامى إلى النجوم. لندعُ يسوع إلى سفن حياتنا. ولنسلّمه مخاوفنا، كي يتغلب عليها. فنختبر، كما فعل التلاميذ، أنه مع يسوع لا تغرق سفينتنا. لأن هذه هي قوة الله: أن تُوجَّه نحو الخير كلُ الأمور التي تحصل معنا، حتى القبيح منها. إنه يحمل الهدوء إلى عواصفنا، لأنه مع الله لا تموت الحياة إطلاقا. الرب يسائلنا، ويدعونا، وسط عاصفتنا، إلى الاستيقاظ وإعادة تفعيل التضامن والرجاء القادرَين على إعطاء المعنى والصلابة والدعم في هذه الساعات، حيث يبدو أن كل شيء يتجه نحو الغرق. الرب يستيقظ كي يوقظ ويعيد إحياء إيماننا الفصحي. لدينا مرساة: لقد خُلصنا بصليبه. لدينا دَفّة: لقد أُعتقنا بصليبه. لدينا رجاء: لقد شُفينا بصليبه وعانقنا كي لا يفصلنا أيُ شيء أو أي شخص عن محبته المخلّصة. وسط هذه العزلة التي نعاني فيها من غياب الأحباء والتلاقي، مختبرين فقدان العديد من الأمور، لنسمع مرة جديدة الإعلان الذي يخلصنا: لقد قام وهو يعيش إلى جانبنا. الرب يسائلنا من صليبه ويدعونا إلى إيجاد الحياة التي تنتظرنا، إلى النظر نحو الأشخاص الذين يطلبوننا، إلى تمتين النعمة الساكنة فينا والإقرار بها وتحفيزها. دعونا لا نطفئ "الفتيلة المدخنة" (راجع أشعياء 42، 3)، التي لا تصاب بالمرض أبدا، ولنتركها تضيء شعلة الرجاء من جديد.
إنَّ معانقة صليبه، أضاف الأب الأقدس يقول، تعني أن نجد الشجاعة اللازمة لنعانق كل الأوضاع العدائية في الزمن الراهن، متخلين للحظة عن سعينا إلى السلطة والتملّك، كي نفسح المجال أمام هذا الإبداع الذي وحده الروح القدس قادر على إحيائه بداخلنا. (معانقة الصليب) تعني أن نجد الشجاعة لنفتح فسحات يشعر فيها الجميع أنهم مدعوون، وتسمحُ بأشكال جديدة من الضيافة والأخوّة والتضامن. لقد خُلصنا بصليبه كي نقبل الرجاء وندعه يقوّي ويدعم كل الإجراءات والدروب الممكنة التي تساعدنا في الحفاظ على أنفسنا وعلى الآخرين. معانقة الرب من أجل معانقة الرجاء: هذه هي قوة الإيمان التي تحرّر من الخوف وتمنح الرجاء.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول "ما لكم خائفين هذا الخوف؟ أإلى الآن لا إيمان لكم؟" أيها الأخوة والأخوات الأعزاء، من هذا المكان الذي يتحدث عن الإيمان الصخري لبطرس، أود أن أوكلكم جميعا إلى الرب بشفاعة العذراء، خلاص الشعب ونجمة البحر في العاصفة. من هذه الأعمدة التي تعانق روما والعالم، لتحلّ عليكم بركات الله، كمعانقة معزية. أيها الرب بارك العالم، امنح الصحة للأجساد والعزاء للقلوب. إنك تطلب منا ألا نخاف. لكن إيماننا ضعيف ونحن خائفون. لكنك، يا رب، لا تتركنا في خضم العاصفة. قل لنا من جديد "لا تخافوا". ونحن مع بطرس "نلقي عليك جميع همومنا لأنك تُعنى بنا".