تحت عنوان "ها نَحنُ صاعِدونَ إِلى أُورَشَليم..." (متى ٢٠، ١٨)؛ الصوم زمن لتجديد الإيمان والرجاء والمحبّة، صدرت ظهر اليوم الجمعة رسالة البابا فرنسيس لمناسبة زمن الصوم الكبير لعام ٢٠٢١ كتب فيها: أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، عندما أعلن يسوع لتلاميذه عن آلامه وموته وقيامته تتميمًا لمشيئة الآب، أظهر لهم المعنى الأعمق لرسالته ودعاهم ليشاركوا فيها من أجل خلاص العالم. وفيما نقوم بمسيرة الصوم، التي تقودنا نحو احتفالات عيد الفصح، نتذكر الشخص الذي "وضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب". في زمن الارتداد هذا نجدد إيماننا، ونستمد "ماء الرجاء الحي" ونستقبل بقلب مفتوح محبة الله التي تحولنا إلى إخوة وأخوات في المسيح. في ليلة الفصح سنجدد وعود معموديتنا لكي نولد مجدّدًا كرجال ونساء جدد بفضل عمل الروح القدس. لكن مسيرة الصوم الكبير، على مثال المسيرة المسيحية بأكملها، تتمُّ كلّها تحت نور القيامة، الذي يحرّك مشاعر ومواقف وخيارات الذين يريدون اتباع المسيح.
تابع البابا فرنسيس يقول إنَّ الصوم والصلاة والصدقة، كما قدمها يسوع في بشارته، هي الشروط والتعبير عن ارتدادنا. طريق الفقر والحرمان (الصوم)، ونظرة تصرفات المحبة تجاه الإنسان الجريح (الصدقة) والحوار البنوي مع الآب (الصلاة) جميع هذه الأمور تسمح لنا بأن نجسّد إيمانًا صادقًا ورجاء حيَّا ومحبّة عاملة. في زمن الصوم الكبير هذا، يعني قبول وعيش الحقيقة التي ظهرت لنا في المسيح وعيشه أولاً أن نسمح بأن تصل إلينا كلمة الله التي تنقلها إلينا الكنيسة من جيل إلى جيل. هذه الحقيقة ليست ثمرة العقل، ومحفوظة لعقول قليلة مختارة أو متفوقة أو متميزة، ولكنها رسالة ننالها ويمكننا أن نفهمها بفضل ذكاء القلب المنفتح على عظمة الله الذي أحبنا قبل أن ندرك ذلك. هذه الحقيقة هي المسيح نفسه، الذي وإذ أخذ بشريّتنا حتى النهاية أصبح الطريق - المتطلب وإنما المفتوح للجميع - الذي يقود إلى ملء الحياة.
أضاف الأب الأقدس يقول إنَّ الصوم المعاش كخبرة حرمان يقود الذين يعيشونه ببساطة قلب إلى إعادة اكتشاف عطيّة الله وفهم واقعنا كمخلوقات على صورته ومثاله، تجد فيه كمالها. وإذ يعيشون خبرة فقر مقبول، يجعل الصائمون أنفسهم فقراء مع الفقراء و "يجمعون" غنى الحب الذي نالوه وتقاسموه. وعندما نفهمه ونمارسه بهذه الطريقة، يساعدنا الصوم على محبة الله والقريب لأنّ الحب، كما يُعلِّم القديس توما الأكويني، هو حركة تركز الانتباه على الآخر، وتعتبره واحدًا معنا. إنَّ زمن الصوم هو زمن للإيمان، أي لكي نقبل الله في حياتنا ونسمح له بأن "يقيم معنا" معنا. والصوم يعني أن نحرّر حياتنا مما يثقلها، حتى من تشبع المعلومات - سواء كانت صحيحة أو خاطئة - والمنتجات الاستهلاكية، لكي نفتح أبواب قلوبنا لذلك الذي يأتي إلينا فقيرًا في كل شيء، ولكنه "ممتلئ بالنعمة والحق": ابن الله المخلص.
تابع البابا فرنسيس يقول إنَّ المرأة السامرية، التي طلب منها يسوع أن يشرب قرب البئر، لم تفهم عندما أخبرها أنه يستطيع أن يقدم لها "الماء الحي". لقد فَكَّرَت في البداية بشكل طبيعي في الماء المادي، لكن يسوع يعني الروح القدس، الذي سيمنحه بوفرة في السر الفصحي والذي يبعث فينا الرجاء الذي لا يخيِّب. وعندما أعلن يسوع آلامه وموته، أعلن الرجاء أيضًا، عندما قال: "وفي اليومِ الثَّالثِ يَقوم" (متى٢٠، ١۹). يخاطبنا يسوع عن المستقبل الذي شرّعته رحمة الآب. وبالتالي أن نرجوَ معه وبفضله يعني الإيمان بأن التاريخ لا ينتهي بأخطائنا وعنفنا وظلمنا والخطيئة التي تصلب الحب. ويعني أيضًا أن نستقي مغفرة الآب من قلبه المفتوح.
أضاف الأب الأقدس يقول في السياق الحالي للقلق الذي نعيش فيه وحيث يبدو كل شيء هشًا وغير أكيد، قد يبدو الحديث عن الرجاء بمثابة استفزاز. إن زمن الصوم قد جُعل للرجاء، وللعودة إلى توجيه أنظارنا إلى صبر الله، الذي يستمر في الاعتناء بخليقته، فيما نحن غالبًا ما أساءنا معاملته. إنه رجاء في المصالحة، يحثنا عليه القديس بولس بشدة: "دَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم". إذ ننال المغفرة، في السر الذي هو في صميم عملية ارتدادنا، نصبح بدورنا ناشرين للمغفرة: بعد أن نلناها بأنفسنا، يمكننا أن نقدمها من خلال القدرة على العيش في حوار محب ومن خلال تبنّي سلوك يُعزّي الذي جُرِحوا. إنَّ مغفرة الله تسمح لنا أيضًا من خلال كلماتنا وتصرفاتنا، أن نعيش فصح أخوَّة. في زمن الصوم، لنكن أكثر حرصًا على قول كلمات تشجيع، تعزّي وتمنح القوة، وتحفِّز، بدلاً من الكلمات التي تُهين وتُحزن وتُزعج، وتحتقر. أحيانًا ولكي تُعطي الرجاء للآخرين يكفي أن تكون شخصًا لطيفًا، يضع جانبًا همومه وأموره المُلحّة، لكي يعطي ابتسامة، أو ليقول كلمة تحفيز تولد فسحة للإصغاء وسط الكثير من اللامبالاة.
تابع البابا فرنسيس يقول في العزلة والصلاة الصامتة، يُمنح الرجاء لنا كإلهام ونور داخليٍّ، ينير تحديات وخيارات رسالتنا: لهذا السبب من الضروري أن ننفرد لكي نصلّي ونلتقي في الخفية بأب الحنان. أن نعيش زمن الصوم برجاء يعني أن نشعر بأننا، في يسوع المسيح، شهود للزمن الجديد، الذي يجعل فيه الله "كل شيء جديدًا" (راجع رؤيا٢١، ١-٦). أي أن ننال رجاء المسيح الذي يبذل حياته على الصليب والذي يقيمه الله في اليوم الثالث، "مُستَعِدِّينَ على الدوام لأَن نرُدَّ على مَن يَطلُبُ مِنا دَليلَ ما أنحن علَيه مِنَ الرَّجاء" (راجع ١ بطرس ۳، ١٥). إنَّ المحبة تفرح في رؤية الآخر ينمو. لهذا السبب هي تتألّم عندما يكون الآخر في حزن: وحيد، مريض، بلا مأوى، مُحتَقَر، أو محتاج ... المحبّة هي اندفاع القلب الذي يجعلنا نخرج من ذواتنا والذي يولّد رباط المشاركة والشركة.
أضاف الأب الأقدس يقول انطلاقا من المحبة الاجتماعيّة، يمكننا أن نتقدّم نحو حضارة الحب التي يمكننا جميعًا أن نشعر بأننا مدعوون إليها. كذلك يمكن للمحبة، بديناميكيتها العالمية، أن تبني عالماً جديداً، لأنها ليست مجرد شعور عقيم، لا بل هي أفضل طريقة لبلوغ مسارات تنمية فعّالة للجميع. إنَّ المحبة هي عطية تعطي معنى لحياتنا وبفضلها نعتبر الذين يعانون الحرمان أفرادًا من عائلتنا وأصدقائنا وإخوتنا. إنَّ القليل، إذا شاركناه بمحبة، لا ينتهي أبدًا، بل يتحول إلى زاد حياة وسعادة. كما حصل مع الدقيق والزيت مع أرملة صَرفَة، التي قدمت الكعكة للنبي إيليا؛ وللأرغفة التي باركها يسوع، وكسرها وأعطاها للتلاميذ ليوزعوها على الجموع. هكذا يحدث لصدقتنا، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، التي تُقدَّمُ بفرح وبساطة.
تابع الحبر الأعظم يقول أن نعيش صوم محبّة يعني أن نعتني بالذين يعيشون في ظروف معاناة أو هجر أو حزن بسبب وباء فيروس الكورونا. وفي سياق عدم اليقين الكبير هذا إزاء المستقبل، إذ نتذكّر الكلمة التي وجهها الله إلى عبده: " لا تَخَف لأَنِّي فَدَيْتُكَ" (أشعيا ٤۳، ١)، لنقدم مع محبّتنا كلمة ثقة، ونجعل الآخر يشعر بأن الله يحبه كإبن له. من خلال نظرة تحوّل أفقها بفعل المحبة، التي تحملنا إلى فهم كرامة الشخص الآخر، يتمُّ الاعتراف بالفقراء وتقديرهم بكرامتهم السامية، ويتم احترامهم في أسلوبهم وثقافتهم، وبالتالي يتمُّ إدماجهم حقًا في المجتمع.
وختم البابا فرنسيس رسالته لمناسبة زمن الصوم الكبير بالقول أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، كل مرحلة من مراحل الحياة هي زمن لكي نؤمن ونرجو ونحب. لتساعدنا هذه الدعوة لعيش زمن الصوم الكبير كطريق ارتداد وصلاة ومشاركة خيورنا، لكي نعيد النظر في ذاكرتنا الجماعية والشخصية، بالإيمان النابع من المسيح الحي، والرجاء الذي تحركه نسمة الروح القدس والحب الذي لا ينضب والذي ينبع من قلب الآب الرحيم. لتعضدنا بحضورها المحب العذراء مريم، أُمَّ المخلص، الأمينة عند أقدام الصليب وفي قلب الكنيسة، ولترافقنا بركة القائم من بين الأموات في مسيرتنا نحو النور الفصحي.