أنت هنا
القائمة:
الأحد الثامن من الزمن "الخمسينيّ" – "أحد العنصرة المُقدّسة"
نقرأ عن هذا الحدث في كتاب "أعمال الرسل" (أع 2: 1-11). أما الإنجيل، فهو بحسب يوحنا (يو 7: 37-52 و8: 12).
********************************************
أولاً – مُقدّمة تعريفيّة بالعيد:
في هذا الأحد العظيم والمُقدّس، وهو الثامن من الزمن "الخمسيني"، تُقيم الكنيسة تذكار "حلول الروح الكلّيّ قدسه على التلاميذ"، في اليوم الخمسين على قيامة الربّ يسوع من بين الأموات. إنه من الأعياد السيّديّة الكبرى، التي تتمحور حول حدث قيامة السيّد له المجد (على غرار عيد "الصعود المجيد"). فلولا "القيامة"، لَما كان "الصعود" ولَما كانت "العنصرة". في ذلك اليوم التاريخيّ، وفى الربّ يسوع (المُعزّي الأول) بوعده في "إرسال المُعزّي الآخر" إلى تلاميذه. فكان ذلك اليوم يوم الروح القدس بإمتياز، كما كان أيضاً يوم ولادة الكنيسة، "جسد المسيح السرّيّ".
إن هذا الحدث العظيم والمِفصليّ في التدبير الخلاصيّ، قد وردت روايته الحصريّة في الكتاب الثاني للقديس لوقا الإنجيليّ، ألا وهو كتاب "أعمال الرسل" (أع 2: 1-11). وفيه نقرأ أنه قبل إرتفاع الربّ يسوع إلى المجد السماويّ وجلوسه عن يمين الآب، أوصى تلاميذه ب"ألا يبرحوا أورشليم وينتظروا موعد الآب الذي سمعوه منه"، لأنهم "سوف يُعمَّدون بالروح القدس، وينالون قوةً من العلاء، فيكونون له شهوداً... حتى أقاصي الأرض" (أع 1: 4-8). وفي اليوم الخمسين على قيامة الربّ، (وكان يومها عيد "العنصرة" العبرانيّ)، إذ كان الرسل وسائر التلاميذ مُجتمِعين في العليّة، فإذا بصوت يأتي من السماء كأنه صوتُ ريحٍ عاصفة، وألسِنة كأنها من نار تستقرّ على كل واحد منهم، فيمتلىء الجميع من الروح القدس، ويبدأون بالتكلّم بألسِنة أخرى، على حسب ما آتاهم الروح أن ينطِقوا. ومن وقتها، تأسّست "الجماعة الملكوتيّة" الأولى المكوَّنة من الشهود المباشِرين ل"الكلمة المُتجسّد"، وإنطلقت معها بُشرى الخلاص التي أوكلها إليها مُعلّمها وربّها، تحت رعاية الروح القدس "المُعزّي"، الذي سيُذكِّرها بكل أقوال الربّ يسوع، "الكائن معها إلى منتهى الدهر".
تجدر الإشارة هنا إلى أمرَين:
(1) إن سفر "أعمال الرسل" قد سُمّيَ عن حقّ ب"إنجيل الروح القدس"، لأنه الشهادة المكتوبة لعمل الروح في الكنيسة الناشئة، تماماً كما أن الأناجيل هي الشهادة المكتوبة لعمل الإبن الخلاصيّ (كرازة، آيات، موت وقيامة).
(2) في أحد "العنصرة العظيم المُقدّس"، تختم الكنيسة قراءتها للإنجيل بحسب يوحنا، قراءة بدأتها يوم أحد "القيامة المجيدة" وإمتدّت معنا على مدى زمن "البندكستاري". بعد "العنصرة"، يأتي زمن الرسالة والكرازة بإمتياز، الذي فيه نقرأ مع الكنيسة الإنجيل بحسب متى، ويستمرّ معنا حتى بلوغنا عيد "رفع الصليب الكريم المُحيي".
------------------------------------------------
ثانياً – "العنصرة" والأعياد العبرانيّة الكُبرى:
إن "العنصرة" في الأساس كانت عيداً للحصاد (أي عيداً زراعيّاً)، ذا طابع عائليّ قرويّ، وكان يُطلَق عليه إسم "عيد الأسابيع"، لوقوعه "سبعة أسابيع" (أي خمسين يوماً) بعد عيد "الفصح". وكان عيداً جامعاً للعائلات العبرانيّة، فيه تُقدِّم هذه الأخيرة إلى الهيكل بواكير الحصاد، في إحتفالات بمثابة تتويج للفترة الفصحيّة. لكن "العنصرة" ما لبثت أن أخذت مفهوماً جديداً في القرن الثاني قبل الميلاد، فأصبحت بالمعنى المعروف حاليّاً، أي تذكار "إقامة العهد بين الله وشعبه" في سيناء، وتَسلّم موسى لِلَوحَي "الشريعة".
وفي ما يلي فكرة موجزة عن الأعياد الثلاثة الكبرى عند العبرانيين، وهي: "الفصح"، و"العنصرة"، و"المظال".
* "فالفصح" يُعيَّد له في الخامس عشر من شهر نيسان القمريّ (وهو الشهر الأول من الروزنامة العبريّة)، وفيه تذكار لليوم الذي أكلوا فيه الحَمَل الحَوليّ مساءً، ودهنوا أبوابهم بدمه. ثم خرجوا من عبوديّتهم على يد المصريّين، عابرين البحر الأحمر متوجّهين إلى "أرض الميعاد". ويُسمّى الفصح ب"عيد الفطير"، لأنهم أكلوا خبزاً فطيراً لمدة سبعة أيام.
* "العنصرة" تُقام بعد خمسين يوماً من "الفصح"، وهي تذكار مُزدوج: (1) لوصولهم إلى جبل سيناء وتَسلُّمِهم ألواح الشريعة بعد خمسين يوماً على خروجهم من مصر، و(2) لدخولهم "أرض الميعاد"، حيث أكلوا خبزاً بعد أن أكلوا المنّ طيلة أربعين عاماً في البريّة. لذلك، كانوا يقدّمون الخبز من حنطة حصاد الموسم الجديد، قرباناً لله في "العنصرة".
* أما "المظال"، فيحتفلون به من اليوم الخامس عشر حتى الثاني والعشرين من الشهر السابع القمريّ (بعد موسم قطاف الثمار)، حيث يَبيتون في هذه الفترة تحت مظال أو "خِيَم" مصنوعة من الأغصان، تذكاراً للأربعين عاماً التي أمضَوها في البريّة، والمظال كانت سُكناهم الوحيدة.
-----------------------------------------------
ثالثاً – قراءة تأمليّة لأهمّ مفاعيل "فيض الروح القدس":
* إن المقطع الإنجيليّ الذي نقرأه في قداس أحد "العنصرة" (يو 7: 37-52 و8: 12)، والمُسمّى "عظة الماء الحيّ"، يُتوِّج مسيرة "بندكستاريّة" تمتدّ على آحاد ثلاثة سابقة ("المُخلّع"، و"السامريّة"، و"الأعمى")، هيّأتنا الكنيسة من خلالها لقبول "عطيّة الروح القدس" و"للولادة من الماء والروح"، حيث يتكلّم فيها السيّد له المجد عن "الماء الحيّ" ويُجري آيات شفاء لها صلة بالماء (دون أن يعني ذلك إضفاء قدرة "خارقة" للماء). لذلك، فإن إحدى التسميات للإنجيل اليوحنّويّ (الذي نقرأه بالكامل في زمن "البندكستاري") هي "إنجيل الماء الحيّ". واليوم يقف الربّ يسوع في اليوم الأخير من عيد "المظال"، ويتحدّث عن "الماء الحيّ" الذي يُعطيه هو. ويُسارِع الكاتب الإنجيليّ فيشرح فوراً ما قصده الربّ بكلامه هذا، ألا وهو "الروح القدس"، المزمِع أن يُرسِله عند تمام رسالته (بعد تمجيده)، فيكون أساس معموديتنا وحياتنا الجديدة بالمسيح، ونبعاً فيّاضاً للنِّعَم الإلهيّة، وعاضداً لنا في مسيرتنا نحو الملكوت. وقد تكلّم الربّ يسوع في مناسبات عدّة عن حتميّة إرساله للروح القدس، ولا سيّما في "خطبته الوداعيّة" عشيّة إقباله إلى الآلام الطوعيّة، حين قال "وأَمّا متى جاء ذَاكَ، روح الحقّ، فهو يُرشِدكم إِلى جميع الحقّ، لأَنه لا يتكلّم من نفسه، بل كلّ ما يسمع يتكلّم به، ويُخبركم بأمور آتية. ذَاكَ يُمجّدني، لأنه يأخذ ممّا لي ويُخبركم. كلّ ما للآب هو لي. لهذا قلتُ إنه يأخذ ممّا لي ويُخبركم" (يو 16: 13-15). فما أتى به الإبن هو القاعدة التي يبني عليها الروح القدس عمله الخلاصيّ.
* إن الألسن الناريّة التي إستقرّت على التلاميذ في يوم "العنصرة"، كانت العلامة المنظورة لفيض الروح القدس، وترمز إلى النار التي تُطهِّر من كل دنس وإلى حرارة الإيمان في نقل البُشرى السارّة، كما إلى تعدّد اللغات وبالتالي إلى شموليّة البشارة المُنطلِقة إلى جميع الأمم. وظاهرة "التكلّم بلغات مُختلفة وفهْمِها" تأتي مُعاكِسةً لما حصل في رواية "بلبلة الألسن" في بابل قديماً. فإنه حين كان البشر يتكلّمون لغةً واحدةً، "نزل العليّ وبلبل الألسن"، ولم يعُد يفهم بعضهم على بعض. أما في "العنصرة"، فقد "وزّع الألسن الناريّة"، ورغم تعدّد اللغات، إلا أن الجميع فَهِمَ لغة واحدة، هي لغة الروح. وهذا ما نُعبِّر عنه في قنداق العيد (أدناه).
* إن الروح القدس هو الذي أرسل الأنبياء قديماً وأوحى إليهم بنبوءات "العهد القديم" ("الناطق بالأنبياء" كما نقول في قانون الإيمان النيقاويّ)، التي تحقّقت في ملء الزمان بشخص "الإبن الأزليّ المُتجسّد". في "الحدث المسيحانيّ"، تحوّلت الرموز القديمة إلى حقيقة حيّة، وإتخذت الأعياد العبرانيّة معناها الحقيقيّ (الخلاصيّ). فمثلاً، الحيّة النُحاسيّة التي رفعها موسى في البريّة، لينظر إليها كل من لدغته حيّة فيَشفى، كانت رمزاً "لإبن الإنسان" الذي سوف يُرفع على الصليب، لينظر إليه بإنسحاق وتوبة، كل من لدغته "حيّة الخطيئة"، فيشفى وتكون له الحياة بإسمه. كما أن "الفصح" العبرانيّ كان تذكار خروج الشعب من عبوديّة مصر، وعبوره البحر الأحمر إلى حريّة أرض كنعان على يد موسى، فأعطاه السيّد معناه الحقيقيّ بموته وقيامته، وأصبح عبوراً من العبوديّة الحقّة (للخطيئة) إلى الحريّة الحقّة (الحياة في النعمة الإلهيّة) بالقيامة. وعيد "العنصرة" الذي نُعيِّد له اليوم ليس إستثناءً على الإطلاق، فبعد أن كان تذكاراً لتسَلّم لَوحَي الشريعة على "جبل سيناء"، أصبح مع حلول الروح القدس فيضاً للشريعة الحيّة، شريعة القلب والمحبّة وليس الحرف والدينونة، فيضاً للنعمة وللرحمة الإلهيّتَين، وفيضاً للجرأة في إعلان "البُشرى السارّة".
* نلتقي "الربّ القائم من بين الأموات" من خلال الروح القدس، الذي هو روح وحياة الكنيسة، والمسيح هو رأسها. وقد أجاد بولس الرسول بقوله "لا أحد يقدر أن يقول: يسوع ربّ، إلا بالروح القدس" (1كور 12: 3). وبما أننا عرّفنا الروح القدس كمُحيي للكنيسة، بالتالي هو مانح المواهب الغزيرة للأفراد والجماعات، وهو عماد الأسرار الكنسيّة كلّها. فنناله في المعموديّة وفي الميرون خصوصاً (ختم موهبة الروح القدس)، في بداية "حياتنا الجديدة بالمسيح"، حيث ننال نعمة التبنّي ونُصبح إخوةً "للإبن الأزليّ"... أما في سرّ الشكر (الإفخارستيّا)، فكما كوّن الروح القدس جسد "الإبن الأزليّ" في حشا مريم البتوليّ، ها هو منذ حلوله في "العنصرة"، يُحوِّل الخبز والخمر إلى جسد ودم الربّ يسوع المُمجّدَين، حين يتوجّه الأسقف (أو الكاهن) إلى الآب الأزليّ في تقديس القرابين، قائلاً "إجعل هذا الخبز جسد مسيحكَ الكريم، وما في هذه الكأس دم مسيحكَ الكريم، مُحوّلاً إياهما بروحكَ القدّوس"، وهذا ما نُسمّيه ب"إستدعاء الروح القدس"، وهو ال”Epiklesis” باليونانيّة... أما في سرّ الخدمة المُكرّسة (الكهنوت)، فنستدعي "نعمة الروح القدس التي تشفي المرضى وتكمّل الناقصين"... ليشمل عمل الروح القدس باقي الأسرار أيضاً (الزواج، التوبة، زيت مسحة المرضى).
* في الجانب الطقسيّ للعيد، وكما أسلفنا في مقالة سابقة، يبدو لنا زمن "البندكستاري" وكأنه يوم واحد من الفرح المتواصل بقيامة الربّ، يبدأ ب"اليوم الأول من الأسبوع" (فرحوا إذ رأوا الربّ)، ليشمل "الصعود المجيد" (عادوا فرِحين)، ويُتوّج بحلول الروح القدس في "اليوم الخمسين". بذلك، يكون عيد "العنصرة" بمثابة القطب الثاني لزمن "البندكستاري"، إذ إن عيد "القيامة" هو القطب الأول. وغنيٌّ عن القول إن جوهر "القيامة" هو دخول الإبن في المجد الإلهيّ بناسوته، وهو الذي لم يُبارح هذا المجد بلاهوته. وليس هدف "عودته إلى المجد الذي كان له من قبل إنشاء العالم"، إلا لكي يحِلّ الروح القدس بملئه ويُرافق "شعب الله الجديد" (الكنيسة) إلى "الأرض الجديدة" (الملكوت).
------------------------------------------------
رابعاً – الخُلاصة الروحيّة:
بعد مجيء الأقنوم الثاني من الثالوث القدّوس بشخص المسيح يسوع، وهو الإبن الأزليّ للآب الأزليّ، وبعد إتمامه للتدبير الخلاصيّ بواسطة تجسّده وكرازته وموته وقيامته وصعوده، حان زمن مجيء الأقنوم الإلهيّ الثالث، وإكماله مسيرة الكنيسة التي وعد الربّ ببنائها "على صخرة إيمان بطرس" (متى 16: 18). ففي "كلامه الوداعيّ" عشيّة آلامه، أعلن الربّ لتلاميذه "إنه خير لكم أن أنطلق (إلى الآب)، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزّي، ولكن إن ذهبتُ أُرسِلُهُ إليكم" (يو 16: 7). لقد كان دور الروح القدس ظاهراً بشكل دائم، منذ "التكوين" (روح الله يرفّ على المياه) وحتى "الأيام الأخيرة" (أي ملء الزمان وتجسّد الكلمة). فكان دوره أساسيّاً في تجسّد الإبن (تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء)، ونزل عليه في إعتماده في نهر الأردن على شكل حمامة، وقاده إلى البريّة ليُجرّب...
إذاً، حضور الروح القدس هو من صُلب التدبير الخلاصيّ. وإعلان بُشرى الخلاص عبر العالم وإستمرار "حضور الله وسط شعبه"، سوف يكونان بواسطة الأقنوم الإلهيّ الثالث. وقد قال لنا الربّ يسوع (حين لقائه بالسامريّة)، أنه يجب علينا من اليوم فصاعداً "أن نعبد الله بالروح والحقّ". وبعد قيامته وظهوره للتلاميذ، أول عمل قام به كان بأن "نفخ فيهم قائلاً: خذوا الروح القدس..." (يو 20: 22)، وهذا إن دلّ على شيء، فعلى أهميّة الإنتقال بالعلاقة إلى مستوى الروح، وإلى كون الروح القدس هو "العطيّة القُصوى" للربّ القائم... في هذا الإطار، يخطر على بالي القول الرائع للقديس سيرافيم الساروفسكيّ "إن غاية الحياة المسيحيّة هي إقتناء (أو إكتساب) الروح القدس". فما أعظمها من غاية !
وبعد، لا ينتهي التأمل بسرّ الخلاص، الذي بواسطته رفع الله الإنسان إلى مرتبة "إبن الله" بنعمة التبنّي، ويصحّ فيه القول "إن هذا السرّ لعظيم"... ولا يَسَعنا إلا أن نختم تأملنا بالصلاة الرائعة التي هي خُلاصة التعليم عن الروح القدس، والتي نتلوها بدءاً من اليوم عند إفتتاح الليترجيا الإلهيّة، وعند كل لقاء بإسم الربّ:
"أيها الملك السماويّ المُعزّي، روحُ الحقّ، الحاضر في كل مكان والمالىء الكلّ، كنزُ الصالحات وواهب الحياة، هلُمّ وإسكُن فينا وطهِّرنا من كل دنس، وخلِّصْ أيها الصالح نفوسنا".
*************************************************
طروباريّة عيد "العنصرة":
"مُباركٌ أنتَ أيها المسيح إلهنا، الذي أظهر الصيّادين جزيلي الحكمة، وأنزل عليهم الروح القدس. وبهم إصطاد المسكونة، يا محبّ البشر المجد لكَ".
قنداق عيد "العنصرة":
"لما نزل العلِيّ وبَلبَل الألسن قَسّم الأمم. وحين وزّع الألسن الناريّة، دعا الجميع إلى الوحدة. فنمجّد الروح القدس بإتفاق الأصوات".
بقلم الاخ توفيق ناصر (خريستوفيلوس)