بمناسبة انعقاد الجمعيّة العامة السنويّة للأعمال الرسولية البابوية وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالة للمشاركين في الأعمال كتب فيها كُنت قد قررت هذا العام أن أشارك في جمعيتكم العامة السنوية، يوم الخميس في الحادي والعشرين من أيار مايو الجاري، عيد صعود الرب. من ثم أُلغيت الجمعية بسبب الوباء الذي يؤثر علينا جميعا. ولذلك أود أن أرسل هذه الرسالة إليكم جميعاً، لأبلغكم بالأمور التي كنت أريد أقولها لكم. إنَّ هذا العيد المسيحي، في هذه المرحلة التي نعيشها، يبدو بالنسبة لي خصبًا بالاقتراحات من أجل مسيرة ورسالة كل واحد منا والكنيسة بأسرها. يكتب القديس بولس إلى أهل غلاطية أنَّ ملء فرح الرسل ليس نتيجة المشاعر التي ترضي وتجعلنا سعداء بل هو فرح يفيض يمكننا اختباره فقط كثمرة وهبة للروح القدس. أن ننال فرح الروح القدس هو نعمة، وهو القوّة الوحيدة التي يمكننا الحصول عليها لكي نبشّر بالإنجيل ونعلن إيماننا بالرب؛ فالإيمان هو الشهادة للفرح الذي يمنحنا الرب إياه؛ وفرح كهذا لا يمكن لأحد منا أن يعطيه لنفسه. وعندما لا يتم فهم عمل الروح القدس الفعلي والفعال في رسالة الكنيسة، فهذا يعني أنه حتى كلمات الرسالة - حتى تلك الدقيقة والتي تمّ التفكير بها – قد أصبحت مجرّد "خطابات للحكمة البشرية" تُستخدم لكي يعطي المرء مجدًا لنفسه أو لكي يزيل الصحاري الداخلية ويخفيها.
تابع الأب الأقدس يقول الخلاص هو لقاء يسوع الذي يحبنا ويغفر لنا، ويرسل لنا الروح القدس الذي يعزينا ويدافع عنا. الخلاص ليس نتيجة لمبادراتنا الرسوليّة، ولا لخطاباتنا حول تجسد الكلمة. إن الخلاص يتحقق للجميع فقط من خلال نظرة اللقاء مع الله الذي يدعونا. لذلك يبدأ سر الحب، ولا يمكن أن يبدأ إلا بدفع من الفرح والامتنان. فرح الإنجيل، الفرح الكبير للنساء اللواتي ذهبن في صباح الفصح إلى قبر المسيح ووجدنه فارغًا والتقينَ أولاً بيسوع القائم من الموت وذهبن مسرعات ليخبرن الآخرين. هكذا فقط يمكن لكوننا مختارين ومحبوبين أن يشهد للعالم بأسره من خلال حياتنا لمجد المسيح القائم من الموت.
أضاف الحبر الأعظم يقول إنَّ الشهود، في جميع الأوضاع البشريّة، هم الذين يشهدون على ما يقوم به شخص آخر. بهذا المعنى، وبهذا المعنى فقط يمكننا أن نكون شهودًا للمسيح وروحه. بعد الصعود، وكما تخبرنا نهاية إنجيل مرقس، ذهب الرسل والتلاميذ "يُبَشِّرونَ في كُلِّ مكان، وكان الرَّبُّ يَعمَلُ مَعَهم ويُؤَيِّدُ كَلِمَتَه بِما يَصحَبُها مِنَ الآيات". إن المسيح وبواسطة روحه يشهد لنفسه من خلال الأعمال التي يقوم بها فينا ومعنا. إن الروح القدس هو الذي يشعل الإيمان ويحفظه في قلوبنا، والاعتراف بهذه الحقيقة يغير كل شيء. إن الروح القدس، في الواقع، هو الذي يُشعل ويحيي الرسالة، ويطبع فيها الدلالات "الجينية"، واللهجات والحركات الفريدة التي تجعل إعلان الإنجيل والاعتراف بالإيمان المسيحي يختلف تمامًا عن كل اقتناص سياسي أو ثقافي أو نفسي أو ديني. لقد ذكّرتُ بالعديد من هذه الجوانب التي تميّز الرسالة في الإرشاد الرسولي "فرح الإنجيل"، لكنني سأستعيد بعضها الآن.
تابع الأب الأقدس يقول الجاذبية. دخل سر الفداء ولا يزال يعمل في العالم من خلال جاذبية يمكنها أن تفتن قلوب الرجال والنساء لأنها تبدو وهي أكثر جاذبية من الإغراءات التي تؤثِّر على الأنانية، نتيجة الخطيئة. إنَّ الكنيسة - يؤكِّد البابا بندكتس السادس عشر - تنمو في العالم من خلال الجذب وليس بالاقتناص. وقد كان القديس أوغسطينوس يقول إن المسيح يُظهر نفسه لنا عن طريق جذبنا. ولإعطاء صورة عن هذه الجاذبيّة، استشهد بالشاعر فيرجيليو، الذي وبحسبه كلُّ إنسان ينجذب إلى ما يستحسنه. ويسوع لا يقنع إرادتنا وحسب ولكنّه يجذب استحساننا أيضًا.
أضاف البابا فرنسيس يقول الامتنان والمجانية. يتألق فرح إعلان الإنجيل دائمًا على خلفية ذكرى ممتنة. لم ينس الرسل أبدا اللحظة التي لمس فيها المسيح قلوبهم. وقصة الكنيسة تشرق عندما يتجلى فيها الامتنان لمبادرة الله الحرة، لأنه "هو الذي أحبنا أولاً" و"الله هو الذي ينمّي". وبالتالي أن يضع المرء نفسه في حالة رسالة هو انعكاس للامتنان. إنه جواب الذين جعلهم الامتنان طائعين للروح القدس، وبالتالي أحرار. لذلك لا يمكن للمرء أن يعرف الرب حقًا إلا في حرية الامتنان.
تابع الحبر الأعظم يقول التواضع. إن لم تكن الحقيقة والإيمان، والسعادة والخلاص ملكًا لنا، وهدفًا نبلغه لاستحقاقاتنا، فلا يمكننا إذًا أن نعلن إنجيل المسيح إلا بتواضع. تكون متواضعًا إن اتبعتَ المسيح، الذي قال لتلاميذه: "تعلّموا مني، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ القَلبِ". ويتساءل القديس أوغسطينوس لماذا، بعد القيامة، ظهر يسوع لتلاميذه فقط وليس للذين صلبوه؛ ويجيب بأن يسوع لم يكن يريد أن يعطي الانطباع بأنّه "يتحّدى قتلته، لقد كان الأهم بالنسبة له أن يعلّم التواضع لتلاميذه ولا أن يواجه أعداءه بالحقيقة".
أضاف الأب الأقدس يقول التسهيل وليس التعقيد. صفة أخرى للعمل الرسولي الأصيل هي تلك التي تشير إلى صبر يسوع، الذي وحتى في روايات الإنجيل كان يرافق برحمة على الدوام مسيرات نمو الأشخاص. إن خطوة صغيرة، وسط محدوديات إنسانية كبيرة، بإمكانها أن تجعل قلب الله سعيدًا أكثر من الخطوات الواسعة لأولئك الذين يسيرون في الحياة بدون صعوبات كبيرة. إنَّ القلب المرسل يعرف الوضع الحقيقي الذي يعيشه الأشخاص بمحدودياتهم وخطاياهم وضعفهم ويصبح "ضعيفًا مع الضعفاء". ففي بعض الأحيان تكون مسألة تباطؤ في الوتيرة، لكي نرافق الذين بقوا على جانب الطريق. وفي بعض الأحيان علينا أن نتشبّه بذلك الأب في مثل الابن الضال، الذي يترك الأبواب مفتوحة ويحدق يوميًّا إلى الأفق منتظرًا عودة ابنه. إنَّ الكنيسة ليست مسؤول جمارك، وكل من يشارك بأي شكل من الأشكال في رسالة الكنيسة مدعو لكي لا يضيف أعباء غير ضرورية على حياة الناس المتعبين، ولا يفرض مسارات تنشئة معقدة وشاقة للاستمتاع بما يقدمه لنا الرب بسهولة؛ ولا يضع عقبات أمام رغبة يسوع، الذي يصلي من أجل كل فرد منا ويريد شفاء الجميع، وخلاص الجميع.
تابع الحبر الأعظم يقول القرب في الحياة. لقد التقى يسوع تلاميذه الأوائل على شواطئ بحيرة الجليل، فيما كانوا منهمكين بعملهم؛ هو لم يلتقي بهم في مؤتمر أو في منتدى تنشئة وبالتالي فإن إعلان خلاص يسوع يبلغ الأشخاص دائمًا حيثما يكونوا وكما هُم. إن حياة الجميع اليومية الطبيعية هي المكان والحالة التي يمكن فيها لكل من اختبر محبّة المسيح ونال عطيّة الروح القدس أن يقدّم دليلًا للإيمان والرجاء والمحبة للذين يطلبونه.
أضاف الأب الأقدس يقول تفضيل الصغار والفقراء. إنَّ كلَّ دفع رسولي، إذ يحرّكه الروح القدس، يُظهر التفضيل للفقراء والصغار كعلامة وانعكاس لتفضيل الرب لهم. ولذلك يجب على الأشخاص الملتزمين بشكل مباشر في مبادرات الكنيسة والهيكليات الرسوليّة ألا يبرروا أبدًا عدم اهتمامهم بالفقراء بحجة ضرورة تركيز طاقاتهم على أولويات الرسالة. إن تفضيل الفقراء ليس خيارًا اختياريًا للكنيسة.
وبالنظر إلى المستقبل، ذكر البابا فرنسيس أن الأعمال الرسولية البابوية قد ولدت من الحماس الرسولي الذي يعبر عنه إيمان المعمَّدين، وهي ترتبط بحس الإيمان لدى شعب الله. وقد سارت على الدوام في مسارين وهما الصلاة والمحبة. كذلك أكّد الحبر الأعظم أن الأعمال الرسولية البابوية قد حصلت على تقدير كنيسة روما، وأن دعوتها لم تعاش أبدًا كـ "درب بديلة" أو انتماء خارجي بالنسبة إلى أشكال الحياة العادية للكنائس الخاصة. ولذلك أصبحت شبكة واسعة الانتشار في جميع القارات، وبالتالي هذه تعددية ينبغي حمايتها من "الموافقات الأيديولوجية".
بعدها عدّد الأب الأقدس بعض الأمراض التي تلوح في مسار الأعمال الرسولية البابوية. الأول وهو المرجعيّة الذاتيّة، مع خطر الانتباه للترويج الذاتي والاحتفال بالمبادرات الخاصة. من ثمَّ هناك قلق القيادة، أي الادعاء بممارسة وظائف التحكم إزاء الجماعات التي يجب على هذه الهيئات أن تخدمها. كذلك هناك مرض النخبوية، أي الاعتقاد بالانتماء إلى "طبقة عليا من المتخصصين". وهناك أيضًا العزلة عن الشعب، الذي يُنظر إليه على أنه "كتلة خاملة" تحتاج على الدوام إلى إحياء وتنشيط، كما لو كان يقين الإيمان نتيجة لخطابات مُقنعة أو أساليب تدريب. أما الأمراض الأخرى فتتمثل في التجريد والمنفعيّة الوظيفية، لأن كل شيء يهدف إلى "محاكاة نماذج الفعاليّة الدنيوية".
أضاف البابا فرنسيس مقترحًا على الأعمال الرسولية البابوية أن تحفظ وتعيد اكتشاف حضورها وسط شعب الله وتغوص في حياة الأشخاص الحقيقية وأن تشارك في الشبكة الكنسية في الأبرشيات والرعايا والجماعات والمجموعات؛ كما وطلب منها أن تحافظ على ممارسة الصلاة وجمع الموارد من أجل الرسالة وأن تبحث على الدوام عن دروب جديدة بدون أن تعقّد ما هو سهل وبسيط. هذا وشدّد الحبر الأعظم على أنّه ينبغي على الأعمال الرسولية البابوية أن تعاش كأداة خدمة للرسالة في الكنائس الخاصة، إذ لا حاجة لخبراء استراتيجيين أو لمراكز إداريّة للرسالة، نوكل إليهم مهمة إيقاظ الروح الإرسالي. وطلب البابا في هذا السياق من الأعمال الرسولية البابوية أن تعمل على الدوام في علاقة مع جميع الوقائع، من دون أن تحبس نفسها في بعد البيروقراطية المهنية البحتة؛ وأن تنظر إلى الخارج وليس إلى نفسها في المرآة، وأن تخفف الهيكليات بدلاً من تثقيلها.
هذا وطلب الأب الأقدس عدم تحويل الأعمال الرسولية البابوية إلى منظمة غير حكومية مكرسة بالكامل لجمع الأموال. وإن فشلت عملية جمع التبرعات على نطاق واسع في بعض المناطق، فلا يجب أن نسعى لتغطية المشكلة بمجرد البحث عن جهات مانحة كبيرة. من الجيد أن يوجَّه طلب المساعدات للرسالات في المقام الأول إلى جميع المعمدين، والتركيز بطريقة جديدة على جمع التبرعات في كنائس جميع البلدان في أكتوبر، بمناسبة اليوم الإرسالي العالمي. أما فيما يتعلّق باستعمال التبرعات التي يتمُّ جمعها، فمن الضروري أن تؤخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الأساسية للجماعات، وأن يتمَّ تجنُّب أشكال المساعدات التي تغذّي في الكنيسة أيضًا ظواهر "الرعاية الطفيلية". هذا وشدّد البابا أنَّ الأعمال الرسولية البابوية، من خلال شبكتها، تعكس شعبًا له ألف وجه، وبالتالي يجب ألا يُفرض شكلًا ثقافيًا محددًا إلى جانب اقتراح الإنجيل، وذكّر في هذا السياق أنَّ الأعمال الرسولية البابوية ليست كيانًا في حد ذاتها ومن بين خصوصياتها هناك الرابط مع الأب الأقدس. وختم البابا فرنسيس رسالته مذكِّرًا بكلمات القديس اغناطيوس، وطلب من الأعمال الرسولية البابوية أن تقوم بعملها بشكل جيّد: "كما ولو أن كل شيء يتعلّق بكم، عالمين في الواقع أنَّ كل شيء متعلّق بالله".