أنت هنا
القائمة:
"صعود الربّ إلى السماء"... الطبيعة البشريّة في المجد الإلهيّ
إن عيد "صعود الربّ" بمجد إلى السماء هو حلقة في سلسلة الأعياد السيديّة الكُبرى في السنة الطقسيّة البيزنطيّة، وهو مُرتبط بشكل وثيق بعيد "القيامة المجيدة"، إذ إنه لولا "القيامة" لما كان هناك "صعود" ولا "عنصرة".
أولاً – سنكسار العيد:
في يوم الخميس السادس من الزمن "الخمسينيّ"، تحتفل الكنيسة بتذكار "صعود الربّ إلى السماء"،الذي به أكمل السيّد القائم من بين الأموات تدبيره الخلاصيّ على الأرض، وعاد إلى المجد السماويّ بالجبلة البشريّة المُمجّدة، جالساً عن يمين الجلال في الأعالي ومُجلِساً معه طبيعتنا البشريّة. هذا الحدث هو التكريم الأقصى للجبلة البشريّة المُشتراة بدم "الحمل الإلهيّ"، وهو إستباق لدخولنا في الحياة الإلهيّة المجيدة التي نلنا عربوناً لها في المعموديّة.
ويأتي حدث "الصعود" في اليوم الأربعين لحدث "القيامة"، بحيث أننا نقرأ في كتاب "أعمال الرسل" تحديداً (أع 1: 1-12)، أن الربّ القائم من بين الأموات إستمرّ بالظهور لتلاميذه لمدّة أربعين يوماً، يُكلّمهم عمّا يخصّ ملكوت الله. وفي اليوم الأربعين، ذهب وتلاميذه إلى جبل الزيتون (القريب من أورشليم)، حيث إستودعهم آخر كلماته، ومنها وصيّة "إنتظار موعد الآب" (إرسال الروح القدس)... بعدها، إنفصل عنهم "داخلاً في مجد الأعالي وجالساً عن يمين الآب"، فيما حجبته سحابة عنهم، عادوا بعدها إلى أورشليم بفرح عظيم.
------------------------------------------------
ثانياً – "الصعود" في النصوص الكتابيّة:
تتفاوت رواية "الصعود" بين إنجيل وآخر، وفي ما يلي فكرة موجزة عن حدث "الصعود" في كل من النصوص الكتابيّة، وسنبدأ من "اللا خبر" وصولاً إلى "الخبر الكامل":
* ففي الإنجيل بحسب يوحنا، لا يرِد أيّ ذكر ل"صعود الربّ إلى السماء"، بل يُختَم الإنجيل بمقطعَين متعلّقَين بمرحلة "ما بعد قيامة الربّ" (خاتمة الفصل 20 وخاتمة الفصل 21)، لا يوحِيان البتّة بصعود لاحق بالمعنى الحرفيّ، ما يُفسَّر بأن "القيامة" و"الصعود" هما فعليّاً حدث واحد في التقليد "اليوحنّويّ"، ألا وهو "الدخول في المجد السماويّ".
* أما الإنجيل بحسب متى، فإنه يُخبرنا عن توجّه التلاميذ فوراً بعد "القيامة" إلى الجليل كما طلب إليهم الربّ. وبعد أن سجدوا له، أعطاهم وصاياه الأخيرة ب"تلمذة جميع الأمم وتعميدهم بإسم الآب والإبن والروح القدس"، واعداً إياهم بالبقاء معهم إلى إنقضاء الدهر (متى 28: 16-20). هنا أيضاً، لا ذكر واضحاً "للصعود" بالمعنى الحرفيّ، لكنه يتميّز عن يوحنا بذكر "لقاء وحيد وأخير" مع الربّ القائم، على الصعيد البشريّ البحت (المنظور)، بعدها سيكون معهم إلى إنقضاء الدهر (من خلال الروح القدس المُكمِّل لرسالته)، ويُختتم الإنجيل. والجدير ملاحظته أنه لا ذِكر لمدّة الأربعين يوماً، لكن هناك مدّة زمنيّة ضمنيّة، تمتدّ من يوم "القيامة" إلى حين وصولهم إلى الجليل.
* أما في الإنجيل بحسب مرقس، فهناك ذكر لعدّة ظهورات للربّ القائم (مر 16: 9-18)، لا رابط زمنيّاً بينها (قد تبدو في اليوم نفسه وقد تبدو متباعدة زمنيّاً)، تنتهي بلقاء "أخير" مع الأحد عشر، و"إرسالهم إلى الأرض كلّها للكرازة بالإنجيل ومنح المعموديّة للخلاص، مع الآيات التي تصحب المؤمنين"... بعدها مباشرةً، إرتفع عنهم إلى السماء، وجلس عن يمين الآب (مر 16: 19-20). هنا، يرد أول ذكر ل"صعود" أو إرتفاع "منظور" والجلوس عن يمين الآب، لكننا نلاحظ أيضاً أنه لا ذكر لمدّة الأربعين يوماً. الجدير ذكره، هو أن إنجيل مرقس هو الأقدم كتابةً بين الأناجيل الأربعة، ويُرجّح معظم العلماء "الكتابيّين" بأنه قد يكون أحد مصادر إنجيلَي متى ولوقا (الإزائيّين)، بالتوازي مع مصدر آخر لا يزال "مجهولاً".
* يبقى لوقا، وفي رصيده كتابان هما "الإنجيل" و"أعمال الرسل". ففي نهاية إنجيله، وكما في مرقس، يورِد لنا عدّة ظهورات للربّ القائم، تبدو كلّها محصورةً في يوم واحد، هو يوم "القيامة" (لو 24: 1-43). لكنه في ظهوره الأخير مع "الأحد عشر"، وكما في مرقس، يُرسِلهم للكرازة إلى جميع الأمم، ويوصيهم بإنتظار موعد الآب (لو 24: 44-49). بعدها، يخرج بهم إلى بيت عنيا (تحديداً)، ويرتفع عنهم مبارِكاً إياهم (لو 24: 50-53). هنا أيضاً، كما في مرقس، يرد ذكر "صعود الربّ" أو إرتفاعه "بشكل منظور"، لكننا نلاحظ أيضاً أنه لا ذكر لمدّة الأربعين يوماً.
* أما في كتاب "أعمال الرسل" (الذي كُتِبَ بعد الإنجيل بالطبع)، فيورِد لوقا رواية "صعود" يسوع بشكل أوسع (أع 1: 1-12). إنه يذكر أن الربّ أظهر نفسه لتلاميذه مرّات عديدة لمدّة أربعين يوماً (التي لا ذكر لها في الإنجيل)، يُكلّمهم عمّا يخصّ ملكوت الله. وفي اللقاء الأخير (في اليوم الأربعين)، أرسلهم للكرازة موصِياً إياهم بإنتظار موعد الآب... ثم إنفصل عنهم و"إرتفع"، وإذا بسحابة تحجبه عنهم. هنا، كل عناصر "الصعود" موجودة، مع عنصر جديد على الرواية، هو "الرجلان بالثياب البيضاء"، مع كلام مُلفِت سنتناوله في آخر المقالة.
------------------------------------------------
ثالثاً – الفكرة اللاهوتيّة للعيد:
نرى بوضوح ممّا سبق، أن هناك بالفعل تفاوتاً في الروايات الكتابيّة بخصوص حدث "صعود الربّ إلى السماء". هنا يجب أن نُدرِك أن الكتاب المُقدّس عامةً، هو مجموعة كُتب وأسفار وُضِعت من قبل أشخاص ذي مشارب وثقافات مُختلفة، في فترات متفاوتة وعلى مراحل عدّة... وينطبق هذا الأمر بالطبع على الأناجيل والكُتّاب الإنجيليّين، فكلٌ من هؤلاء كتب إختباره الإيمانيّ الشخصيّ أو الإختبار الإيمانيّ للجماعة التي هو من ضمنها، لئلا تضيع الشهادات الشفهيّة التي تميّزت بها المرحلة الأولى من الكرازة الرسوليّة. لم يهتمّ هؤلاء جميعاً بكتابة التاريخ بالمعنى الحرفيّ للكلمة، بل كان جُلّ إهتمامهم نقل إختبارهم بهدف إيصال رسالة معيّنة، وفي حالتنا "بُشرى الخلاص" التي يُمكن تلخيصها بكلمتَين فقط: "المسيح قام". ومنها يتفرّع كل الباقي، أي إننا نقرأ التدبير الخلاصيّ بأكمله بدءاً من نبوءات "العهد القديم"، وصولاً إلى تحقيقها في "ملء الزمان" وفي "أحداث الأيام الأخيرة"، وكل ذلك بإلهام من الروح القدس.
وحتى لا نُطيل الشرح ونخرج عن موضوع عيد "الصعود"، المُرتبط "عضويّاً" ب"القيامة"، نقول إن نقاط الإختلاف في الروايات الكتابيّة عن "الصعود" لا تعني أبداً التناقض. فمثلاً، الشيء الأكيد والمُشترَك هو ظهور الربّ لتلاميذه بعد قيامته، لأن "القبر الفارغ" بحدّ ذاته ليس برهاناً على "القيامة"، وكلام البعض (قد) لا يُعوّل عليه في ظرف عصيب جداً كحدث "الصلب"... لذلك كان لا بدّ للربّ من أن يظهر لتلاميذه لتثبيتهم في الإيمان ويُظهِر لهم البُعد الجديد لعلاقته بهم، خصوصاً أن حدث "القيامة" هو فريد في التاريخ. أما عدد الظهورات وزمنها، فالمُهمّ فيها أنها حصلت، والأهمّ هي الرسالة النابعة منها. ففيها حمّل السيّد تلاميذه وصيّة الكرازة في الأرض كلها، كما وصيّة إنتظار فيض الروح القدس. أي أن دوره الشخصيّ (البشريّ أو الأرضيّ) في التدبير الخلاصيّ قد إكتمل، وها هو ينتقل إلى بُعدٍ آخر (سماويّ، ملكوتيّ، إسخاتولوجيّ). وجاء الآن دور التلاميذ في حمل البشارة، مؤازَرين بالروح القدس، الأقنوم الإلهيّ الثالث، الذي سيكون سنداً لهم (ولنا) في إتمام رسالة الإبن.
وكما أسلفنا في مقطع "الصعود في النصوص الكتابيّة" أعلاه، فإن بعض الإنجيليّين حصروا جميع أحداث "ما بعد القيامة" في يوم زمنيّ واحد (أخبار القيامة بدءاً من القبر الفارغ، مروراً بتثبيت هذه "القيامة" من خلال ظهورات الربّ، وصولاً إلى "صعوده")، والبعض الآخر فصّلها على أربعين يوماً (يظهر الربّ لهم ويُكلّمهم عمّا يخصّ الملكوت). فالمُهمّ أن الفكرة الأساسيّة والمُشترَكة هي أن "الصعود" (الإرتفاع) هو النتيجة الطبيعيّة والحتميّة للمجد المنبعِث من نور "القيامة". فبقيامته المجيدة، عاد "المصلوب سابقاً" إلى المجد الأزليّ "الذي كان له من قبل إنشاء العالم"، وجلس عن يمين الآب (كما نقول في قانون الإيمان النيقاويّ). فالصعود الفعليّ كان متزامناً مع "القيامة"، وما لحظة "الصعود" التي نحن بصددها إلا "الإنقطاع" عن الظهور المرئيّ بالعيون البشريّة (الترابيّة)، والإنتقال إلى البُعد الإيمانيّ من خلال الروح القدس، وهذا ما أسماه الربّ ب"العبادة بالروح والحقّ"، في حديثه مع المرأة السامريّة.
ونختم بفكرتَين أساسيّتَين: الأولى، هي إشارة مُسبَقة ومُبكرة للربّ يسوع نفسه إلى "صعوده"، في لقائه الليليّ مع نيقوديموس، حيث قال "لم يصعد أحد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، إبن الإنسان الذي هو من السماء" (يو 3: 13). والثانية، والمُهمّة جداً، هي كلام الملائكة للتلاميذ فور صعود الربّ "إن يسوع هذا الذي إرتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا كما رأيتموه مُنطلِقاً إلى السماء" (أع 1: 11). وفي هذا الكلام مؤشّر واضح وتأكيد للمجيء الثاني المجيد في "آخر الأزمنة".
*******************************************
من قطع خدمة عيد "الصعود":
* "لقد صعدتَ بمَجدٍ، أيها المسيح إلهنا، وفرّحتَ تلاميذكَ بموعد الروح القدس. وثبّتّهم بالبركة، لأنكَ أنتَ إبن الله المُنقِذ العالم" (طروباريّة العيد).
* "لما أكملتَ التدبير الذي من أجلنا، ووحّدتَ الأرضيّات والسماويّات، صعِدتَ بمجدٍ أيها المسيح إلهنا، دون أن تبرح مكاناً، بل لابثاً غيرَ مُنفصلٍ وهاتفاً بمُحِبّيكَ: أنا معكم، وليس أحد عليكم" (قنداق العيد).
* "هلمّوا نصعد مُغادِرين ما على الأرض في الأرض، وتاركين ما على التراب للتراب، ونرفع العيون والأذهان إلى العلاء نحن المائتين، ونمدّ النظر والحواسّ نحو الأبواب السماويّة، مُتصوّرين أننا على جبل الزيتون، ونُشاهِد فادينا راكباً على سحابة، لأن الربّ من هناك صعد إلى السماوات. ومن ثمّ وزّع المواهب على رسله بما أنه مُحبّ العطايا، وشدّدهم داعياً إياهم كأب، وأرشدهم كبنين قائلاً لهم: لا أنفصل عنكم، أنا معكم وليس أحد عليكم" ("البيت" من سَحَر العيد).
بقلم الاخ توفيق ناصر (خريستوفيلوس)