هل يمكن للمحبة أن تموت؟ … هل يمكن أن يحدث هذا؟… أن تتلاشى الحياة وتختفي داخل قبر حجري؟
كل هذه كانت تساؤلات تؤرق ليلتها… لقد مات حبيبها .. ودفن ، وها قد مضت عليه في ظلمة القبر ليلتان كاملتان.. كيف يمكن أن يحدث هذا ؟! .. إنها لا تعرف.. ولكنها لا تقدر أن تكف عن التفكير.. التفكير في ذلك الماضي الذي كثيراً ما حاولت أن تتناساه ولكنها لم تستطع أبدا.
نهضت من فراشها.. لم يكن الفجر قد ولد بعد.. إنها تريد أن تذهب إلى القبر.. كانت تعرف أنها لن تراه.. فلقد أصبح هو في عالم آخر ولكنها تود البقاء قربه ولو للحظات..
كانت تتمنى لو تراه.. ترى تلك النظرات المحبة التي أعادتها إلى الحياة قديماً .. ولكن هيهات، فهو في القبر وعلى القبر حجر كبير بل سد منيع حال بينها وبين المحبة.. لم تستطع أن تمنع عينيها من البكاء وهي تبحث وسط حاجياتها عن أرقى وأجمل ما عندها من أطياب وعطر حملتها معها.. وصارت في طريقها.. وفي يديها الناردين الخالص ، كانت لا تزال تبكي…
وهل يمكن أن تختفي البسمة والفرحة وتحتجب عن الأنظار والقلوب بسبب حجر كبير يسد ويحجب الحب الذي هو مصدر كل بسمة وفرحة؟ .. وهل تموت المحبة حتى ولو دخلت القبر؟
في الطريق كانت تفكر في ماضيها وحاضرها.. وجدت إلى جانبها بعض النساء كن جميعاً على نفس الطريق ولنفس الغاية، وكن يشاركنها نفس المحبة.. لم تتكلم معهن ولم يتكلمن معها، استغرقت كل منهن في أفكارها رغم أن الطريق واحد..
كان السؤال الذي يشغلها والذي تبحث له عن إجابة هو " كيف لواهب الحياة أن يموت …؟" أجل .. لقد استطاع أن يعيد إليها حياتها المفقودة…
استطاع أن يهبها حياة جديدة .. كيف إذن أن يموت هو ؟ وكيف للمحبة أن تموت؟ هل هكذا تصبح الأرض بلا محبة بعد أن طواها القبر؟ كيف يكون للحياة معنى إذن .. أين الرجاء وأين الأمل في غد مشرق وقد دفنت المحبة داخل القبر.. ستعود الأرض خربة من جديد..
نظرت إلى طيب الناردين الذي في يدها… بعضهم أعطاه هذا الطيب في حياته أما هي فلم تفكر في هذا.. لماذا؟ .. لماذا لم تقدم له عطاياها ومحبتها في حياته.. لماذا لم تقدمها له قبل فوات الأوان مثلما فعلت مريم أخت مرثا وأليعازر، ومثلما فعلت غيرها… لماذا لم تفعل والمال لم يكن ينقصها؟
الأفكار مشوشة وغير مرتبة.. والدموع في عينيها تحجب عنها الرؤية وتتردد في أذنيها أفكار وأفكار استغرقتها فلم تسمع ما تقوله النساء السائرات معها.
عادت بأفكارها إلى الوراء حيث كانت تعيش في قرية مجدل.. كانت تعيش في ثراء كبير، وكانت متكبرة ومتسلطة بسبب مالها وجمالها.. كانت بينهم كأميرة جميلة كالتي تتحدث عنها الأساطير وكانت تفخر بجمالها الذي لم يكن له نظير بين أقرانها.. كانت تعيش في بذخ وترف ورفاهية ولكن المال لم يدم كثيراً فقد أصابها مرض كبير.. قضى على عقلها، سيطرت عليها أرواح شريرة ذهبت بعقلها … وسرعان ما أصبحت مريم المجدلية والتي هي أميرة الأحلام ]مجنونة[…
لم تعرف لماذا اختل عقلها.. غاب عنها أنها سمحت للشيطان أن يدخل قلبها وعندما دخل وجده مزيناً ومهيئاً فذهب وأحضر سبعة شياطين يسكنون معه.
تكلم الناس عنها.. تكلموا كثيراً .. قالوا عنها أنها امرأة زانية وهي لم تكن كذلك، بل كانت مجرد امرأة فقدت .. ووهبت قلبها للشيطان الذي سلب منها إرادتها وحريتها وكبلها بقيود من كل نوع.
لقد كانت ترفض تلك القيود .. ومن ثم ذهبت إلى الهيكل في أورشليم لكي ساعدها الكهنة، ولكنهم رفضوها ونبذوها.. وثمة آخرون حاولوا استغلالها واستغلال ضعفها ولكنها هربت منهم، لم تستطع أن تحتمل قيود جديدة .. وخطايا جديدة.. وعادت إلى بلدتها مجدل أسيرة لقيودها كارهة لحياتها، واعتبرت جسدها هو قبرها.
وعرفت أنها تحتاج إلى الخلاص.. الخلاص من تلك القيود البغيضة التي كبلها الشيطان بها، والتي كانت تعيها جيداً دون أن تجد منها مهرباً أو مخرجاً .. وما نفعتها أموالها ولا جمالها ، فهي لم تعد تسمع إلا كلمة المجنونة يصفونها وينادونها بها حتى وهي في تمام عقلها أصبح اسمها مريم المجنونة.. وهكذا لم تستطع الإفلات من قدرها.
إلى أن جاء - ذلك الحبيب – جاء إلى مجدل.. كانت قد سمعت عنه من الكثيرين، ولكنها إلى
ذلك الوقت لم تكن قد قابلته.. وعندما رأته تغلبت على مقيدها إذ ركزت نظرها على مخلصها ووجدت نفسها تجري إليه رغم قيودها.. كانت تطلب الحرية.. وعندما رآها كانت محبته تكفي، فسقطت كل القيود.. حطم قيودها كما حطم قيود كثيرين قبلها وبعدها.. كانت تعرف أنه يحب الجميع ولكنها لم تر سواها في قلبه، شعرت أنه جاء إ مجدل خصيصاً من أجلها وأنه أحبها هي وحدها .. لقد أعطاها المحبة الكاملة ، تلك المحبة التي شعر كل واحد أنها لأجله هو فقط.
والآن بعد أن دخلت المحبة حياتها لم يعد أسمها مريم المجنونة التي سكنها سبعة شياطين بل عادت إلى طبيعتها، مريم المجدلية الجميلة.. ولكن متى!! عندما دخلت المحبة قلبها كسر الكبرياء والغرور. ووداعاً أيتها القيود ومرحباً بالمحبة.
كان هو المحبة ، وهو الحياة .. وكان هو الساكن على عرش قلبها.. إذ هو ملك الملوك. ولكن الشر رفض هذه المكانة فوضع الحياة داخل القبر .. ووضع على المحبة حجر مختوم حتى يمنع وصول المحبة إلى الناس، كان يريد لكل الناس الجحيم، فحجب عنهم المحبة ومنع عنهم سبب الحياة.. ولكن كيف ؟ كيف تبقى الحياة داخل قبر ؟ وهل المحبة التي لا يمكن أن يحدها مكان ولا زمان أن يحتويها قبر؟ هل يمكن للمحبة أن يغلق عليها حجر؟!!.
لا .. لا يمكن .. أنها تعرف سيدها ، نظرت مريم إلى الأطياب التي في يدها، لم تمضي الفرصة يا مريم … سأعطيه من الطيب.. وسينتشر هذا الطيب في أرجاء الأرض ولقرون عديدة.. ومثلما استنشق الناس عبير مريم أخت لعازر سوف يستمتعون أيضا بهذا العطر.
كانت مريم تقول لنفسها .. كلا.. لا يمكن للمحبة أن يحتويها قبر ولا أن يحجبها حجر.. لقد دخلت المحبة القبر لكي تميت الموت.. ولكنها أبداً لن تموت وسوف تقدم مريم ذلك العطر إلى المحبة الحية مثل مريم أخت لعازر تماماً.
صارت مريم تبكي.. إنها أحلام.. مجرد أحلام.. فها هي المحبة لها ثلاثة أيام في القبر. والقبر يسده حجر كبير.. أن المحبة توارت خلف الظلام..
وفي غمرة أحزانها كانت المجدلية قد وصلت إلى القبر .. مسحت دموعها ونظرت
.. لم تكن الدنيا ظلاماً كما توقعت، لم تقتل الظلمة النور.. بل .. كان النور ساطعاً وخارجاً من القبر .. كان الحجر الذي يسد باب القبر ملقى على الأرض كما لو كان مقتولاً.
نعم أنه لم يحتمل نور المحبة داخله فوقع، وخرجت المحبة .. بعد أن قتلت الموت وانتصرت عليه.