أنت هنا

 

8 أيلول – تذكار "ميلاد سيّدتنا والدة الإله مريم الفائقة القداسة"

 

أولاً – العيد في الروزنامة الطقسيّة:

في هذا اليوم، الثامن من شهر أيلول، تُقيم الكنيسة المُقدّسة بمعظم عائلاتها الروحيّة، تذكار "ميلاد سيّدتنا والدة الإله مريم الدائمة البتوليّة"، وهو عيد سيّديّ من الدرجة الثانية (غير مُبطِل لخدمة القيامة). أما الكنيسة القبطيّة، فتُقيم هذا التذكار في السادس والعشرين من شهر نيسان... الجدير ذكره أن الكنيسة لا تُقيم تذكارات ميلاد أيّ من القديسين في روزنامتها الطقسيّة، ما خلا ثلاث شخصيّات هي: الربّ يسوع (25 كانون الأول)، والعذراء مريم (8 أيلول)، والنبيّ السابق يوحنا المعمدان (24 حزيران)، وذلك لإرتباطهم مباشرةً بالتدبير الخلاصيّ. نُشير أيضاً إلى أن عيد "ميلاد السيّدة" هو فاتحة أعياد السنة الطقسيّة البيزنطيّة، فيما عيد "رقادها" هو خاتمتها، وكأنّي بوالدة الإله تحتضن بذلك الكنيسة من خلال عيدَيها في السنة الطقسيّة، ولادتها في الحياة الأرضيّة وولادتها في الحياة الملكوتيّة.

------------------------------------------------

ثانياً – الأصول التاريخيّة للعيد:

يبدو أن أصول هذا العيد تعود في أقرب تقدير إلى القرن الرابع، وجاءت الخطوة الأولى من قبل الملكة القديسة هيلانة (أمّ الملك قسطنطين "الكبير")، حيث شيّدت كنيسة في أورشليم على إسم تذكار "ميلاد مريم". ثم عمّ هذا العيد أرجاء الكنيسة الشرقيّة (في القرن الخامس) وصولاً إلى القسطنطينيّة (في القرن السادس)، وبدأ المؤلّفون والمنشِدون الكنسيّون بوضع القوانين والأناشيد للتذكار، مثل "أندراوس الكريتيّ" و"رومانوس المرنّم" و"يوحنا الدمشقيّ" و"يوسف الإستوديّ"... ولاحقاً، دخل هذا العيد في روزنامة الكنيسة الغربيّة على عهد البابا سرجيوس الأول (القرن السابع).

------------------------------------------------

ثالثاً – "الخلفيّة الكتابيّة" للعيد:

على خلاف تذكارَي ميلاد الربّ يسوع ويوحنا المعمدان، الواردة روايتَيهما في إنجيلَي متى (ميلاد يسوع) ولوقا (ميلاد يوحنا وميلاد يسوع)، لا يستند تذكار "ميلاد والدة الإله" إلى النصوص الكتابيّة "القانونيّة" (الأناجيل)، التي أقرّت الكنيسة بقانونيّتها بسلطتها المُعطاة لها من ربّها ورأسها، بل إلى التقليد الكنسيّ المتواتر وإلى بعض الكتب المنحولة. وذلك لأن الإنجيليّين لم يكتبوا عن حياة مريم الخاصّة، بل كتبوا فقط في شأنها ما هو مرتبط مباشرةً بالمُخلّص إبنها، وبالتدبير الخلاصيّ. ويعود أصل هذا التذكار بشكل أساسيّ إلى تقليد وارد في إحدى الكتب المنحولة، المنسوب إلى القديس يعقوب، والذي يرجع إلى القرن الثاني الميلاديّ.

وفي مُلخّص لما ورد في "إنجيل يعقوب" المنحول، نفهم أنها إبنة يواكيم وحنة. وكان يواكيم من سبط يهوذا (نسل داود)، وكانت حنة إبنة متّان الكاهن من سبط لاوي (عشيرة هارون). وكان الزوجان ميسورَي الحال، "يُعشّران" ويؤدّيان التقدمات إلى الفقراء والمُحتاجين. لكنهما كانا عاقرَين، وكان العقم يُعتبر عاراً في تلك الأيام وتلك البيئة، خصوصاً أن الكلّ كان يترقّب مجيء "الماسيّا" المنتظَر، علّه يأتي من نسله... وفيما طعن الزوجان في السنّ، وكانا طوال عمرهما متشوّقَين إلى ثمرة الحشا، إذا بملاك يظهر لحنة ويُبشّرها بأن الله إستجاب لصلاتها الحارة، وسوف تحبل وتلد، ويكون نسلها مشهوراً في العالم كله. فسبّحت الله شاكرةً، وعزمت على تقدمة الطفل للربّ الإله، ويكون مُكرّساً لخدمته. وهكذا تمّ، فقد حبلَت وولدَت إبنةً بعد تسعة أشهر، فشكرَت الله وعظّمت إسمه، وسمّت الطفلة مريم، على إسم جدتها وخالتها (أمّ حنة وأختها)...

------------------------------------------------

رابعاً – الخُلاصة اللاهوتيّة للعيد:

بعد "الحدث المسيحانيّ"، نقرأ كلّ الأحداث في الكتاب المقدّس، أو حتى في التقليد الكنسيّ، على ضوء التدبير الخلاصيّ الذي تمّمه الإبن المُتجسّد في ملء الأزمنة. فكلّ الأحداث التي لها علاقة من قريب أو من بعيد ب"الحدث المسيحانيّ"، تدخل في إطار التدبير الخلاصيّ الذي هيّأه الربّ الإله منذ قديم الأيام لخلاص من هو "على صورته ومثاله"، ومن هذه الأحداث حدث ميلاد والدة الإله مريم، الذي نُعيّد له اليوم... وهذا التدبير إقتدى بأن يلبس الأقنوم الثاني من الثالوث القدّوس، الجبلة البشريّة لتحقيق الخلاص من خلالها. فالمسيح (آدم الجديد) هو محور تاريخ الخلاص وهدفه في نفس الوقت. وكان لا بدّ للإبن من أن يتجسّد من "إناء طاهر"، إصطفاه ليُصبح هيكلاً حيّاً للإله "الذي لا تسعه السماوات والأرض"، وعرشاً لمن "هو جالس على الشيروبيم"، و"تابوتاً" حقيقيّاً للعهد بين الله وشعبه. فكانت مريم (حوّاء الجديدة) فاتحة أعمال الله العظيمة ("صنع بي العظائم...")، وهي قد وُلدت لأبوَين عاقرَين وطاعنَين بالسنّ، وبذلك دخل الفرح إلى بيت يواكيم وحنة، ومنه فيما بعد إلى العالم بأسره من خلال مريم. وستستمرّ عظائم الله بحبلها البتوليّ فيما بعد... إن منزلة مريم ودورها وشفاعتها تأخذ كامل قيمتها من إبنها، الإله المُتجسّد، بعد أن وضعت نفسها بالكليّة بتصرّف مشيئة الله ("أنا أمة الربّ..."). لذلك، نرى مريم دائماً برفقة إبنها في الإيقونات البيزنطيّة، إلا في بعض الحالات النادرة (كإيقونة اليوم مثلاً).

اليوم فرح كبير في بيت صغير، بيت يواكيم وحنة... فلنفرح ولنبتهج معهما، مُستشرِفين ومُنتظِرين منذ اليوم، الفرح الكبير الذي يعمّ المسكونة كلّها في "اليوم الذي صنعه الربّ"، مُرنّمين مع الكنيسة "عروس المسيح"، أنشودة الفرح بميلاد مريم والرجاء بالخلاص الآتي:

"ميلادكِ يا والدة الإله، بشّر بالفرح كلّ المسكونة. لأنه منكِ أشرق شمس العدل، المسيح إلهنا، فحلّ اللعنة ووهب البركة وأبطل الموت، ومنحنا حياةً أبديةً" (طروباريّة العيد).

------------------------------------------------

خامساً – قراءة سريعة لإيقونة العيد:

تستند الإيقونة في مضمونها بشكل أساسيّ، إلى الرواية الواردة في "إنجيل يعقوب" المنحول، إذ لا ذكر في الأناجيل "القانونيّة" لحدث "ميلاد مريم"... وفيها نرى اللون الذهبيّ يملأ خلفيّة المشهد، فحدثُ اليوم ليس بالحدث العاديّ، إذ إن مجد الله يتجلّى بإستجابته دُعاء عبدَيه يواكيم وحنة (الطاعنَين بالسنّ)، ويرزقهما بالطفلة التي ستظهر من خلالها "عظائم الله". فحدث اليوم هو مقدّمة لحلول "الأزمنة المسيحانيّة" ولإتمام التدبير الخلاصيّ المُنتظَر... يمكننا القول بأن الإيقونة (كما العديد من الإيقونات)، تجمع عدّة مشاهد في آن. فمن جهة اليمين، نرى الملاك يظهر ليواكيم الشيخ (المُعتزل والغارق بالصلاة)، مُبشّراً إيّاه وحنة، بأن الله إستجاب لصلواتهما الحارّة، وبأنه سيُزيل عنهما عار العقم لينعما بثمرة الحشا. وفي الجهة المقابلة (أي يسار الإيقونة)، نرى الزوجَين فرحَين متعانقَين في منزلهما، في إشارة إلى اللقاء الحميم الذي ستكون مريم ثمرته. فمريم وُلدت ضمن السياق الطبيعيّ للأمور، أي من علاقة عاديّة بين زوجَين، مثل سائر البشر.

تتصدّر حنة المركز الوسطيّ للإيقونة، فنراها نصف مُستلقية على سرير فاخر (كون الزوجَين كانا ميسورَي الحال). والملفت جداً هو وضعيّة التأمل التي إتّخذتها، تأمل بحنان الله ورحمته للزوجَين، بحيث أعتقهما من عار العقم ("لا شيء مُستحيل عند الله")، وهي تُشير بيدها إلى مريم دلالةً إلى رحمة الله الواسعة التي شملتها... ووضعيّة حنة التأمليّة سوف تتّخذها مريم نفسها بعد ولادتها الربّ يسوع، حيث نراها في إيقونة الميلاد مُستلقية بعد الولادة تتأمل في عظائم الله وفي سرّ الحبل والولادة البتوليّين (مرّة جديدة "لا شيء مُستحيل عند الله"). وإلى جانب حنة، نرى جمهرةً من الفتيات يخدمنَ الأمّ "العاقر سابقاً" ويقدّمنَ لها ما تحتاجه من خدمات بعد الولادة.

في القسم السفليّ من الإيقونة، نرى الطفلة مريم في السرير، وهي مقمّطة كسائر الأطفال، مولودة في بيت ميسور. في مشهد مُستقبليّ مُناقض، سوف يولد إبنها (الإله المُتجسّد) يوماً ويُقمّط ويُضجع في مذود، في الإتّضاع الكامل... عن الجانبَين، صبيّة يافعة تعمل بالمغزل، وأخرى تُمسك بين يدَيها غطاءً هيّأته للطفلة الرضيعة. في بعض الإيقونات الأخرى، تظهر مريم بين يدَي نسوة، يقمنَ بغسلها بعد الولادة في جرن الماء. تجدر الإشارة إلى أن كاتب الإيقونة لا يضع النجمات الثلاث على جبين وكتفَي مريم (كما العادة في إيقوناتها الأخرى)، ويكتفي بالتعريف عنها بلقب "ماتير ثيو" (والدة الإله)، إذ إنها ما زالت مولودة للتوّ، في بداية المشوار الطويل المؤدّي في نهايته إلى خلاص الجنس البشريّ.

 

بقلم الاخ  توفيق ناصر (خريستوفيلوس)