أنت هنا

تاريخ النشر: 
الثلاثاء, فبراير 15, 2022 - 21:11

القائمة:

 

كتب سعد كيوان (كاتب لبناني) في صحيفة لندن العربي الصادرة في لندن يوم السبت 12.2.2022:

يشكّل الـبابـا فـرنـسـيـس ظاهــرة القــرن الواحـد والـعـشـريـن، مـثلما شـكّل نلسون مانـديلا ظاهـرة الـقـرن العـشـريـن، كل من مـوقعه ودوره وبـقـيـمـهـمـا الإنـسانـية والعالمية المـشـتـركة. يـسـتـمرّ هـذا الرجـل الأبيض في مفاجأة العالم وإثـارة إعجاب الكثيرين، لأنه لا يتوقف عن إثارة قضايا وطـرح أفكار لا يجـرؤ أحد على التصدي لها من زعماء العالم، لا في الغرب ولا في الشرق، ولا في ما يعرف بالعالم الحرّ، ولا فـي عوالم الاسـتـبـداد والاسـتـغـلال. لم يعد بالتأكيد بابا روما أو رأس الكنيسة مجرد بابا روما أو رأس الكنيسة الكاثوليكية فحـسـب، وأول مـا يـصـدح به صوته هو إدانته المستمرة لكل أنـواع التمييز بين البشر، ملاقيا ومكمّلا ما كان يجسّده مانديلا الذي شاءت المصادفات أن يموت في السنة نفسها التي انتخب فيها فرنسيس على رأس الكنيسة الكاثوليكية، وكأنه أراد أن يسلّمه الأمانة بعد وفـاته، فقد رفع الحبر الأعـظـم، منذ تبوّئه السدّة البابوية، لواء مناصرة الضعفاء والدفاع عـن المظلـوميـن والمـضـطـهـديـن والـفـقـراء والمهمّشين والمنبـوذيـن، وتبنّي بالأخص قضية المهاجرين الهاربين من قمع وظلم حكام وأنظمة دولهم (ومعظمهم من دول المشرق والمغرب العربيين)، وحقّهم في أن يـلـقـوا حـسـن الاسـتـقـبـال فـي دول اللجـوء الأوروبية، وكأنه يـديـن، بطـريقة غـيـر مباشرة، تلك الأنظمة عندما تكلّم، أخيرًا، مثلا عما سمّاها "معسكرات النزوح" في ليبيا. وربما في هذا الأداء وفي هذا الخط الـذي انـتهجه أراد أن يـصـحّـح مـسـار من سبقه من أسلافه، ويتقدّم باتجاه كنيسة المـسـيـح الإنـسـان، التي صـدح بها في هـذا الشرق كصوت في البرّية الأسقف اللبناني غريغوار حداد عشرات السنين.

الأهـم فـي مـسـيـرة هـذا الـرجـل وما يميزه معركته الإصلاحية داخل الكنيسة، والتي لـم يـجـرؤ عليها أحـد مـن الـبـابـوات قبله، وقـد سلكت خطّين مـتـوازييـن، انطلاقًا من حربه على المفاهيم والمعـتـقـدات الخاطئة وتحـطـيـمه الـتـابـوهـات، الكـنـسـية منهـا والاجتماعية. وثانيًا في تصدّيه لظاهرة الـفــســاد المعـشّـش فــي أروقة الـفاتـيكان، والمـنـتـشـر فــي داخـل المـؤســســة الكـنـسـية بشكل عــام، بـأشـكـاله المختلفة مـن رشـوة ومحسوبيّات واستغلال للسلطة. وجديده قبل أيــام تصدّيه لما يعـرف بالإكـلـيـروس، العصب الأساسي للهرمية داخل الكنيسة المـؤســسـة، أي رجـال الـسلطـة الـفـعـلييـن والعـمود الـفـقـري الـذي يقـوم عـلـيه نظام الكـنيـسة وتـأثـيـرهـا ونـفـوذهـا الـفـعـلـيان، كسلطة متوغلة في عمق المجتمع، فقد رأى فرنسيس أن الإكليروس يشكّل أيديولوجية خطرة تريد أن تحتكر الإنجيل، وتتصرّف في رسالته، إلى درجة أنهم يشكّلون حاجزًا بين الكنيسة والمؤمنين، فيما هم معروفون لـدى العامة بــ "الجـيـش الأســود" الـذي ينتشر بكثافة في المـؤسـسـات الرهبانية والأديـرة الحاضـرة والناشـطة جـدًا في الحـقـل الاجـتـماعي والـتــربـوي، وحتى الـسيـاسي مـنهـا، وخصـوصـًا في الـدول المتخلّفة. تشكّل هذه النظـرة المـستجـدّة والمـفـاجـئة مـن الـبـابا ضـربة في العـمـق لمفهوم (وظـاهـرة) الإكليروس التي تشكّل الحلقة الوسـطـية، وإنمـا المفـصلية، في العلاقة بين الكنيسة والناس، والتي تشكّل الأداة الأنجع لانتشار المؤسسة الكنسية، ولبسط سلطتها الدينية، وإحاطتها بهالة من الهيبة والرهبة فـي الـوقـت نفسه. وقد أراد فرنسيس، على الأرجح، أن يكسر هذه الحلقة التي باتـت عـائـقـًا يـمـنع تواصل الكـنـيـسة مـباشـرة مع الـناس، والـتي يريدها فرنسيس أن تعيش معهم وبينهم وتتفاعل معهم، في ما وصفها بـ "كنيسة الشعب". واللافـت أكثر فأكثر أنه قال هذا الكلام، ليس خلال عظة أو احتـفـال ديني رسـمي أو عـبـر إحـدى إطلالاته المـعـهـودة على جموع المؤمنين التي تحتشد كل نهار أحد في ساحة القديس بطرس في حاضرة الفاتيكان، وإنما عبر شاشة إحـدى أقنية التلفزيون الإيـطـالـي، ضيفًا على برنامج غـيـر سـيـاسـي ذي طابع سـاخـر، تتخلّله عناصر التسلية والـفكاهة. ويـتـوجّه في لحظة ما مـفـاجـئـا مـقـدم البرنامج إلى المشاهدين بوجهه البشوش، ودون تكلّف، طالبا أن يصلّوا له، ويحرص أن يشرح لهم أن الـصلاة هـي، بـرأيه، كما يـفـعـل الطفل عندما ينادي أمه أو أباه. ثم يستدرك: "إذا كنتم لا تحبّون الصلاة أو لستم مؤمنين، فبإمكانكم أن تـدعـوا لي بالخير وتتمنّوا لي التوفـيق". وكـانـت إطلالة الـبابا، وما طـرحه وبـأسـلــوبه المـبـسّـط وشـخـصـيـتـه المحـبّـبة، هي الحـدث عـلى ما عـداهـا، سـواء من أحـداث سـياسـية أو بالـنـسـبة لـوباء كوفيد أو للكباش الـروسي الغربي بشأن أوكرانيا أو حتى بالنسبة للأحد الرياضي الكـروي. لـقـد أراد، في إطلالته هذه، أن يخاطب الـناس مباشـرة، وأن يحـاورهـم، وأن يصل إلى قلوبهم، وأن يحرّك عواطفهم وأحاسـيـسهم، ويستثير نوعًـا جـديـدًا أو مخـتـلـفًـا مـن الإيمان والعلاقة مع الـديـن والنظرة إلى الحياة. عندما يثير هذا النوع من القضايا، ويطرح مثل هذه الإشكالات، فإن رأس الكنيسة الكاثوليكية لا يخاطب السـلـطة، ولا يـتـوجّه إلى السـياسيـيـن ومـسـؤولي الأحـزاب أو أصحـاب الـنـفـوذ، وإنـما إلـى الـنـاس مباشـرة، وبالأخـص الشباب منهم. كما أنه أراد أن يحاور كل شــرائـح المجـتـمع، بطـبقـاته وانـتـمـاءاته الـديـنـيـة المخـتــلـفـة، فـهـو لا يخاطـب المسيحيين أو المؤمنين فقط، وإنما أيضا العلمانيين الذين بات دورهـم أساسيًا في الكنيسة ومـشـاركـتـهـم في طقوسها، كما أنه يـحـرص بـشـكـل خاص عـلى الـتـوجه إلى الملحدين أو "اللاأدريـين"، لأنهم أناس وبـشـر، ولأن هـدف المـسـيـحـيـة، كـمـا يـكرـر، إسعاد الإنسان بغض النظر عن جنسيته ولونه ودينه وعرقه وموقعه الاجتماعي. أما المـدماك الآخـر الـذي وضعه ضمن منظومة رؤيـته التجديدية فهو مفهومه للديـن خلاصا للذات البـشـرية، ولإسـعاد الإنـسان، وليـس لوضعه تحـت ما يشبه الرقابة بغرض إرعابه وقمعه وتخويفه من حساب عسير ينتظره، ولإخافة العامة من الله والدين، وجعلهم كالقطيع ينتظمون فـي الصفوف والطاعة. يرفض البابا هذا الواقع، وما يعـتبره تشويهًا للإيمان، وتحويله أداة للقمع والـتـسـلّـط والجهل. ويرفض أن تكون للدين سلطة المحاسبة وإصـدار الأحكام والـفـتاوى، ولـيـس له بالتالي صفة الديّان، لأن الدين هو سلوك ونـمـط حـيـاة وجــوامع مشتركة قيمهـا الحب والتسامح والأخوّة التي يدعو إليها فرنسيس باستمرار، على اعتبار أن البشر سواسية، مثلما أن التعثر أو الخطأ هو أيضا من طبيعة الإنسان. لذلك، التسامح والمغـفـرة ولـيـس الإدانة تـصـبح مـن حق الإنسان على الجماعة، ومن حق الجماعة على الإنسان الذي هو، في النهاية، ماهية الحياة، وهـدف الدين إسعاده، لأن المسيح هو الإنسان. وكذلك ليس لرأس الكنيسة أن يفرض الإيمان بقوة سلطته، بل له أن يدعو ويتكلم عنه ويبشّر الجميع به، ويخاطب الجميع ولـيـس المسيحيين فـقـط، مؤمنين وغـيـر مؤمـنيـن، أغنياء وفـقـراء، يمينيين ويساريين، أصحاب سلطة وعامة الشعب، متعلمين أو جهلة، كبارًا أو صغارًا.

فـي إطلالته التلفزيونية الخاصة، قضى فرنسيس عمليًا على كل أنـواع المحرّمات والخرافات بشأن مفهوم الدين السلطة أو "الفزّيعة"، وحلّل وحرّر كل أنواع العلاقات الاجتماعية والبشرية، جاعلا من الإيمان أو الـتـقـوى خـيـارًا حــرًا، بشريًا وإنسانيًا. وتعاطى بطريقة إنسانية على حقيقته وعـفـويـته، نازعًا عنه هالة الحبر الأعظم التي يـراه فيها السواد الأعظم من الناس، ويهابه لأجلهـا كـثـيـرون، فـقـد شــارك في الحلقة التلفزيونية وتناغم مع البرنامج وشارك الموسـيقـى والغناء كأي مواطن عادي. كما أنه لم يجد حرجًا في الكلام عن نفسه، والبوح إنه لما كان طفلا أرجنتينيًا كـان يحلم عندما يكبر بأن يصبح جـزارًا، ويـضع الـنـقـود الـتـي يجنيها في جيب الـبـرنـس الأـبـيـض الـذي يرتـديه.. وإذ به يصبح رجـل ديـن على رأس أكبر كنيسة كاثوليكية في العالم، ينتظم تحت رايتها مليارات المؤمنين!