أنت هنا

القائمة:

 

1 أيلول – رأس السنة الطقسيّة البيزنطيّة... يسوع في مجمع "الناصرة"

أولاً – فكرة موجزة عن التذكار:

في الأول من شهر أيلول، تحتفل الكنائس التي تتّبع الطقس البيزنطيّ ببدء السنة الطقسيّة الجديدة. وتعود جذور هذا التاريخ إلى الحقبة الرومانيّة، حيث إرتبط بدفع جزية سنويّة على إمتداد أراضي الإمبراطوريّة في شهر أيلول، أي قبل حلول فصل الشتاء... وفيما بعد، أصبح هذا الأمر من ضمن "حلقة ماليّة" تمتدّ على خمسة عشر عاماً.

كما أنّ لهذا التاريخ جذوراً زراعيّة، إذ كان العالم القديم (المُعتمِد على الزراعة بشكل أساسيّ)، يقوم بجمع وتخزين الثمار والمحاصيل في شهر أيلول، تحضيراً لفصل الشتاء، بالإضافة إلى بدء الإستعداد للسنة الزراعيّة الجديدة.

في هذا اليوم أيضاً، تحتفل الكنيسة في الليترجيا الإلهيّة، بتذكار حضور الربّ يسوع إلى مجمع "الناصرة" يوم السبت، وتلاوته نبوءة أشعيا "روح الربّ عليّ..."، وإعلانه إتمامها "اليوم" بشخصه، بحسب لوقا الإنجيليّ (لو 4: 16-22)... وللمقطع الإنجيليّ هذا دلالة خاصّة في رأس السنة الطقسيّة، لأن نبوءة أشعيا الواردة فيه تتكلّم عن "إعلان سنة مقبولة للربّ"، من ضمن "الحدث المسيحانيّ".

**************************************************

ثانياً – القراءة التأمليّة لإنجيل التذكار:

اليوم، يأخذنا لوقا الإنجيليّ إلى مدينة "الناصرة" الجليليّة، التي شهدت قبل ثلاثين عاماً ونيّف، على حدث بشارة مريم بتجسّد "الكلمة" إبن الله منها، حدثٌ شكّل البداية المُباشِرة لتحقيق الوعد الإلهيّ بالخلاص، الوارد في نبوءات "العهد القديم"... في هذه المدينة أيضاً، نشأ وترعرع الصبيّ يسوع، الذي عُرِفَ ب"إبن يوسف النجّار" من قِبَل مواطنيه، وكان "طائعاً لوالدَيه... ينمو بالحكمة والقامة والنعمة" (لو 2: 51-52). اليوم يُعلن يسوع، الرجل الثلاثينيّ، في مدينته وأمام أهلها، أنّ في شخصه تحقّقت النبوءة "الأشعيويّة"، وبالتالي فهو هذه الشخصيّة الموعودة والمُنتظَرة على مدى قرون، والتي تاقت أجيال كثيرة لمجيئها (بدءاً من الأنبياء)، ألا وهي "الماسيّا"... الجدير ذكره أن رواية إنجيل اليوم تأتي من الناحية الكتابيّة، مباشرةً بعد رواية إنتصار يسوع على تجارب "إبليس" في البرّيّة. فبعد خلوته الروحيّة "الأربعينيّة الأيام"، يظهر إبن الله المُتجسّد جاهزاً لبدء رسالته الخلاصيّة، التي هي ليست سوى تتميماً لمشيئة الآب الذي أرسله. وكما قاده الروح إلى البرّيّة، كذلك قاده بعدها إلى "الناصرة" ليُعلِن ما سوف يُعلِن، وعلى مدى كرازته، هو الذي فيه ملء الروح القدس.

اليوم، يدخل الربّ يسوع مجمع مدينته "الناصرة"، كعادته في كلّ يوم سبت... هو يوم الربّ عند العبرانيّين، فيه يمتنعون عن القيام بأيّ عمل إلتزاماً منهم ب"الوصيّة"، ويلتقون في المجامع حيث يُقرأ ويُشرَح كلام الله (أي فصول من الشريعة الموسويّة ومن الأنبياء)، كما تُقام الصلوات الطقسيّة المُلائِمة لكلّ زمن. صحيح أن يسوع هو إبن الله الوحيد، ولكنّه أيضاً إبن شعبه وإبن بيئته، وقد نشأ على حفظ ما أوصى به الربّ في الشريعة والعمل به. وقد وجدناه في الهيكل حين كان في الثانية عشرة من عمره، يُجادل علماء الشريعة، وقائلاً لوالدَيه "ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما هو لأبي؟" (لو 2: 49)... إذاً، بصفته البشريّة، هو واعٍ لرسالته، وظلّ هذا الوعي عن بُنُوّته لله وعن رسالته العتيدة ينمو شيئاً فشيئاً (لم يستبق المراحل مع أنه إبن الله)، إلى أن حان وقت إعتلانه وبدء رسالته.

دُفع إليه سفر أشعيا ليقرأ... من العادات التي كانت شائعة آنذاك، أن يُدعى شخص ما إلى قراءة فصل من الأسفار المُقدّسة وتفسيره، خاصّة إذا كان هذا الشخص مشهوداً له بالتقوى وبإطّلاعه الواسع على الكتب المُقدّسة وبالغيرة "الدينيّة". والواضح أن يسوع كان من بين هؤلاء الأشخاص، فقد "كان الجميع يشهدون له ويتعجّبون من كلام النعمة الخارج من فمه" (لو 4: 22). وشاء التدبير الربّاني أن يكون السفر لأشعيا النبيّ، وأن يكون موضع القراءة هو الآية القائلة "روح الربّ عليّ، لأنه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأشفي المُنكسِري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسِل المُنسحِقين في الحريّة، وأكرز بسنة الربّ المقبولة" (لو 4: 18-19). يجب أن نُدرك أن الأنبياء في "العهد القديم" كثيراً ما كانوا ينقلون كلام الربّ الإله بصيغة ال"أنا"، فيظهر للمرء وكأن النبيّ يتكلّم عن نفسه. وهذه الحالة تنطبق على أشعيا النبيّ في النبوءة التي قرأها يسوع، إلا أنه كان بالطبع يتكلّم عن "الرسول الإلهيّ" الذي يحمل في ذاته ملء الروح القدس، ويحمل التعزية لشعب الله، وهذه كلّها صفات "مسيح الربّ"...

فرغ يسوع من قراءته، طوى السفر مُعيداً إيّاه إلى الخادم ثم جلس... ساد الصمت لبرهة، وإتّجهت الأنظار إليه بشوق. وإذا به يُعلن أمام الجمع أنه "اليوم تمّت هذه النبوءة على مسامعكم". إعلان يسوع هو "بيت القصيد" في رواية اليوم، لأن نبوءة أشعيا (كما كلّ النبوءات) كانت تُقرأ على مدى سنين وسنين طويلة، بإنتظار المُخلّص والخلاص الموعودَين. في المُجتمع اليهوديّ آنذاك، كان من البديهيّات أن النبوءات تتكلّم عن "مسيح" سوف يأتي من لدن الله ومن نسل داود ليُخلّص شعبه، وكانت الأنظار والإنتظارات كلّها مُصوّبةً في هذا الإتجاه... ومع أن النبوءة واضحة جداً فيما يتعلّق بالبعد الروحيّ لرسالة "المُخلّص الإلهيّ"، إلا أن الفكرة المنتشرة في تلك الأيام كانت عن "مسيح زمنيّ" أو "قائد مُحرِّر" لشعبه، ولنا شواهد كثيرة على ذلك على مدى كرازة يسوع...

اليوم، ها إن "ناصريّاً" مغموراً (من عامّة الشعب) يقف ويُعلن فجأةً إتمام النبوءة أمام أهله وأهل مدينته... ما قصده الربّ يسوع بقوله هذا، هو أن النبوءة القديمة تحقّقت في شخصه، وكأنه يقول لسامعيه "إن الذي تكلّم عنه أشعيا منذ سبع مئة عام هو الشخص الماثل أمامكم اليوم"... في النبوءة، يقدّم لنا أشعيا ما يُمكن أن نعتبره "برنامج" المُخلّص الإلهيّ العتيد، المسيح الآتي من لدن الله. وبتماهي يسوع مع نبوءة أشعيا، يكون قد أعلن برنامجه الخلاصيّ، الذي يتضمّن كلّ ما تكلّم عنه أشعيا، وسوف نراه يُتمّمه "على الأرض" عبر كرازته كلّها، وصولاً إلى موته وقيامته. وبرنامجه هذا سوف يشمل الشعوب كلّها، وليس العبرانيّين فقط. وستحمل الكنيسة بُشرى الخلاص إلى أقاصي المسكونة، كما أوصاها "المُعلّم".

والنقطة الأخيرة والمُهمّة، هي في ما يتعلّق ب"سنة الربّ المقبولة". وهي في الأساس سنة يوبيليّة، تتكرّر كلّ خمسين عاماً، يتمّ فيها إعتاق العبيد وفكّ الديون وإراحة الأرض... وقد ورد ذكرها في سفر الأحبار (أح 25: 10-13). اليوم، بإعلانه إتمام النبوءة بشخصه، يكون يسوع قد أعلن أيضاً "السنة المقبولة للربّ"، وهي لم تعد محصورة بسنة مُعيّنة، بل أصبحت مع "الحدث المسيحانيّ" زمناً مُقدّساً، زمناً يوبيليّاً، زمناً خلاصيّاً، إبتدأ مع الربّ يسوع من أجل إعتاق البشر من نير خطاياهم، ويستمرّ اليوم وكلّ يوم مع الكنيسة التي يُحييها "روح الربّ" نفسه. فالكنيسة الحاملة رسالة مؤسّسها، تُكمِل ما بدأه من عمل خلاصيّ تحت هدي الروح القدس. وهي على غرار ربّها ومؤسّسها، أُرسِلت "لتُبشّر المساكين، وتشفي المُنكسِري القلوب..."، إرساءً لملكوت الله بين البشر.

**************************************************

ثالثاً – كلمة ختاميّة:

في خُلاصة لتأملنا، نقول إن "ذاك السبت" كان يوماً مُميّزاً في حياة يسوع، الذي مرّت عليه "سُبوت" كثيرة عاديّة، وهو يتردّد إلى المجمع على مرّ السنين. أما اليوم، فقد حان زمن الإنطلاق برسالة الخلاص، الذي تكلّمت عنه كلّ النبوءات منذ القديم، وبالأخصّ نبوءة أشعيا التي قرأها يسوع للتوّ. إن أشعيا قد تكلّم قديماً مُشدّداً العائدين من النفي، واعداً بأن الله لن يتركهم مظلومين ومقهورين، وبأن الخلاص سوف يأتي على يد "المُخلّص" الآتي من لدن الله، وهذه هي مضامين رسالته... كما أنه كان سبتاً مُميّزاً أيضاً بالنسبة لأهل مدينته، الذين عرفوه منذ طفولته حتى عمر الثلاثين، ولم يتوقّعوا "أن يقوم فيهم نبيّ عظيم" (لو 7: 16)، ورفضوه بدءاً من ذلك اليوم. وأخيراً، كان سبتاً مُميّزاً لكلّ البشريّة المشتاقة ل"يوم الربّ" وحلول خلاصه الموعود.

"اليوم" هو نقطة "وصول"، لأن يسوع أعلن أن النبوءة وصلت إلى تمامها في شخصه، فهو قد تماهى مع هذه النبوءة التي تصف ما هو آتٍ لإتمامه. وفي نفس الوقت، "اليوم" هو نقطة "إنطلاق"، لأن يسوع بدأ منذ ذلك اليوم رسالته الخلاصيّة، ومن مدينته "الناصرة" بالذات. "اليوم"، تكلّم الربّ يسوع بالروح القدس، هو إبن الله بالجوهر الحاصل أزليّاً على ملء الروح القدس، وأعلن تبنّيه للنبوءة "الأشعيويّة". وما "نزول" الروح القدس عليه في العماد، ثم إقتياده له إلى البرّيّة لينتصر على التجارب، سوى المُحرّك الأساسيّ لرسالة يسوع التي تُفضي، في هدفها الأخير، إلى منح الروح القدس وسكبه على "شعب الله الجديد"، الكنيسة جماعةً وأفراداً، فنُصبح "هياكل حيّة للروح القدس".

أخيراً، وبمناسبة رأس السنة الطقسيّة الجديدة، وربطاً ب"سنة الربّ المقبولة" الواردة في إنجيل اليوم، نضرع إلى الربّ الإله أن يبارك كلّ أيامنا، وأن تكون كلّ سنة من سنوات عمرنا "سنةً مقبولةً" لديه، نحياها بما يليق ببُنُوّتِنا له التي إكتسبناها بالمعموديّة وبختم موهبة الروح القدس، فيستحقّ كلٌ منّا أن يُعلن على مثال يسوع "روح الربّ عليّ...".

************************************************

طروباريّة التذكار:

"يا مُبدع الخليقة بأسرها، يا من وضعتَ الأوقات والأزمنة بذات سلطانكَ، بارك إكليل السنة بصلاحكَ يا ربّ، وإحفظنا بالسلامة بشفاعة والدة الإله وخلّصنا".

قنداق التذكار:

"يا إله الكلّ، الفائق الجوهر بالحقيقة، يا مُبدع الدهور وسيّدها، بارك دَور السنة مُخلّصاً برحمتكَ التي لا توصَف أيّها الرؤوف، جميع الذين يعبدونكَ أيها السيّد وحدكَ، ويهتفون نحوكَ بخوف قائلين: أيها الفادي، إمنح الجميع عاماً مُخصِباً".

 

بقلم الاخ  توفيق ناصر (خريستوفيلوس)