أنت هنا

القائمة:

 

الأحد 26 تموز 2020

الأحد الثامن بعد "العنصرة" – أحد "تكثير الخبزات الخمس والسمكتَين"

نقرأ فيه الإنجيل بحسب متى (متى 14: 14-22)، وفيه يُطعم الربّ يسوع الجموع الغفيرة، إنطلاقاً من خبزات خمس وسمكتَين، مُعلِّماً تلاميذه (وإيانا) الإتّكال على العناية الإلهيّة، مع مُساهماتنا ولو كانت مُتواضعة.

مُلخّص عبرة إنجيل اليوم:

* يسوع هو حريص على حاجاتنا الجسديّة، كما هو حريص على حاجاتنا الروحيّة.
* يهتمّ بزادنا الجسديّ (المُهمّ لكن الثانويّ) لكي يرفعنا إلى طلب الزاد الروحيّ (الأهمّ).
* آيات يسوع (ومنها آية اليوم) تُظهِر لنا سلطانه المُطلَق على مُختلف وجوه حياتنا.
* الإيمان بالعناية الإلهيّة التي ترحمنا وتَعولنا، ولا تنسى حتى عصافير السماء.

**********************************************

أولاً – مُقدّمة لإنجيل هذا الأحد:

اليوم، نحن على موعد مع محطّة جديدة من محطّات كرازة يسوع ب"ملكوت السماوات"، نتأمل فيها بالإنجيل كما كتبه متى البشير. وفي كل محطّة قصّة جديدة ولقاءات جديدة وآية جديدة... فمن خلال شخص يسوع، الله يلتقي البشر ويُكلّمهم بطريقة "نِدّية". هو الذي "نزل من عليائه" ليحيا حياتهم ويتعرّف إلى حاجاتهم ومضايقهم، ولكن أيضاً ليُعرّفهم على أبيه السماويّ، وهدفه النهائيّ أن "يرفعهم إلى عليائه" (ملكوت السماوات)، ويسمو بهم من "الأرضيّات" إلى "السماويّات"... وبعد الكلام عن الملكوت (الغذاء الروحيّ)، تأتي الآيات على يدَي يسوع، إثباتاً ل"مسيحانيّته" وتأكيداً على"حضور الله بيننا". فمن خلالها، يُظهِر يسوع بأنه فعلاً ال"عمّانوئيل" (الله معنا)، الذي جاء عالمنا بفعل رحمة من الآب السماويّ، لكي يُعيدنا إلى طريق الحياة الحقيقيّة، الحياة بالنعمة مع الله، ويكون معنا "حتى إنقضاء الدهر". واليوم آية جديدة يصنعها يسوع، وقد وَرَد ذكرها عند الإنجيليّين الأربعة نظراً لأهميّتها، وتُظهِر لنا جانباً إضافيّاً من جوانب سلطان يسوع المُطلَق.

------------------------------------------------

ثانياً – القراءة التأمليّة لإنجيل هذا الأحد:

يشقى الإنسان ويعرق جداً من أجل تحصيل قوته اليوميّ، فهذا من متطلّبات حياته، إذ "بعرق جبينك تأكل خبزك" (تك 3: 19)، و(2تس 3: 10). إلا أن هذا غير كافٍ لكي يحيا الإنسان، "فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (متى 4: 4). قالها الربّ حين تجربته في البريّة، وهو إبن الله، وقد رفض حينها إستخدام سلطانه لمآرب شخصيّة أو دعائيّة. أما اليوم، فنرى يسوع يُجري آيةً، يُظهر من خلالها سلطانه ولكن بهدف خدمة البشر وتتميماً لمشيئة الآب، بعد أن كان قد كلّمهم بشؤون الملكوت "كلاماً خارجاً من فم الله".

في النصّ الإنجيليّ لهذا اليوم، تأتي آية "تكثير الخبزات الخمس والسمكتين"، بعد حادثة قطع رأس يوحنا المعمدان من قبل هيرودس، وإبتعاد يسوع إلى مكان قفر. غير أن الجموع تبعته إلى حيث هو، فهي قد رأت شيئاً مُميّزاً بشخصه. كان الناس يسمعون من فمه كلاماً جديداً، لم ينطق به بشر من قبل، يدخل إلى قلوبهم ويروي ظمأهم الروحيّ. وهو (أي يسوع) كان يُعلّم "كمن له سلطان" (متى 7: 29)، على عكس مُعلّميهم الذين إعتادوا عليهم في مجامعهم (الكتبة والفرّيسيّين). وهم كانوا يُصغون إلى "كلام النعمة الخارج من فمه" (لو 4: 22). وها هم اليوم يأتون بالآلاف، حاملين معهم أمراضهم على أنواعها...

يراهم يسوع ويتحنّن عليهم. هو قد أتى أساساً بلفتة حنان من لدن أبيه السماويّ، والتدبير الخلاصيّ بأكمله هو لفتة رحمة وحنان من الآب تجاه خليقته التي "ضَيّعت البوصلة". يبدأ يسوع عمله، ويُمضي النهار كلّه شافياً المرضى، مُبرئاً السُقماء، مُعيداً البصر والسمع والنطق لمُحتاجيها، طارداً "الشياطين"، مُعزّياً الحزانى، وغافراً للخطايا... كلّها علامات ظهور "ملكوت السماوات" بين البشر، وإشارات إلى حضور الله بين شعبه. إلى أن حلّ المساء، فيأتي تلاميذه ويطلبون إليه صرف الجموع لكي تبتاع طعاماً لها... طلبٌ منطقيّ من أناس عاديّين في ظرف كهذا. إلا أنهم رغم معرفتهم بيسوع ورؤيته يقوم بآيات متنوّعة (وقد شاهدوا الكثير منها في هذا اليوم بالذات)، لم يتوقّعوا منه جواباً كالذي صدر عنه...

"أعطوهم أنتم ليأكلوا..."

يعلم السيّد تمام العلم ما يطلبه إلى تلاميذه، ويعلم أنهم لا يحملون معهم زاداً يكفي آلاف الأشخاص، لكنه يمتحنهم ليرى مدى إيمانهم به وإتكالهم عليه. صحيح أن الظرف صعب، إذ إن الجوع لا يرحم، لكن إن كان الله يرزق عصافير السماء قوتها اليوميّ، فكم بالحريّ نحن "قليلي الإيمان"؟ يستفيد الربّ يسوع من ظرف كهذا، لكي يُعطينا دروساً في الإيمان به حتى في أمورنا الدنيويّة، فالله ليس غافلاً عنها البتّة.

"ليس عندنا سوى خمسة أرغفة وسمكتان..."

يُجيب التلاميذ مُعلّمهم بأن مواردهم محدودة، والمعنى أنه لا مجال لإطعام كلّ تلك الجموع. غير أن الربّ يتخطّى المحدوديّة البشريّة، ويطلب إليهم إعطائه هذا الكمّ القليل. الربّ يُشرِكنا دائماً في العطاء، ولو بالقليل. وهذا يُذكّرنا بآية "صيد السمك الوفير" بعد قيامة الربّ، حين إنتظر تلاميذه على شاطىء البحيرة. فلما حطّوا أرضاً، وجدوا جمراً وعليه سمكاً موضوعاً وخبزاً. فطلب إليهم إعطاءه من السمك الذي إصطادوه لِتَوّهم... (يو 21: 1-14). نرى في ذلك مشهداً معكوساً لمشهد آية اليوم، (الخبز والسمك، العطاء من الطرفَين)، ولكن العبرة ذاتها، وهي أن الربّ أكرم بكثير منّا نحن البشر، مهما تكارمنا.

بعد إجلاس الجموع، يأخذ الربّ الخبزات والسمكات، ويرفع نظره إلى السماء ويُبارك ويكسر ويُعطي تلاميذه، ومنهم إلى الجموع. إن حركة "النظر إلى السماء والبركة (أو الشكر) والكسر والإعطاء"، سوف تظهر من جديد في "العشاء الفصحيّ" الأخير للربّ مع تلاميذه، وبها سيُحَوّل الخبز إلى جسده المكسور، والخمر إلى دمه المُهرَق لأجل حياة العالم... اليوم غذاء لأجل حياة الجسد (خبز أرضيّ)، وغداً غذاء لأجل حياة الروح (الخبز النازل من السماء). بالإضافة إلى ذلك، نرى يسوع يُعطي تلاميذه، وهم بدورهم يُعطون الشعب: من "الكاهن الأعظم" إلى الكنيسة "الكهنوت المُكرس"، ومنها إلى الكنيسة "الكهنوت العام". بهذين العنصرَين ("الشكر – الكسر" و"الإعطاء – المُناولة")، ترتسم أمامنا نواة القداس الإلهيّ. وحركة "كسر الخبز" سوف تكون العلامة التي سيتعرّف "تلميذا عمّاوس" من خلالها إلى الربّ القائم من بين الأموات (لو 24: 13-35).

بعد الأكل والشبع، رفع التلاميذ الكِسَر بطلب من الربّ، إذ لا يجوز أن يضيع شيء من عطايا الله... وكم يَفضُل من طعام على موائد "الأغنياء ماديّاً"، وكم يُرمى طعام ولا يُعطى للمُحتاجين إليه... فجمعوا من الكِسَر مقدار إثنتَي عشر قُفة، رمزاً إلى القدرة على إشباع "أسباط إسرائيل الإثني عشر"، ولكن أيضاً والأهمّ إشباع أقطار المسكونة كلّها، حيث سينتشر الرسل الإثنا عشر، ويُذيعون "كلمة الله" ويوزّعون "خبز الحياة"، شهادةً لمحبّة الله الذي إفتدانا بشخص إبنه يسوع المسيح ("الخبز النازل من السماء").

------------------------------------------------

ثالثاً – العبرة من إنجيل اليوم:

ماذا تُعلّمنا آية "تكثير الخبزات الخمس والسمكتين"؟ بكل بساطة، نحصل على الجواب في موضع آخر، حيث يقول الربّ يسوع "إن الله يَعلَم بحاجاتنا قبل أن نسأله" (متى 6: 8)، وحاجاتنا تعني كلّ حاجاتنا... إنه يهتمّ لحاجاتنا الجسديّة "لأنه عارف بجِبلتنا وذاكر أننا تراب" (مز 103: 14). يجدر بنا ذكر أن الله لطالما إهتمّ بشعبه، بدءاً من إرسال المنّ من السماء إلى شعبه التائه في البريّة، وصولاً إلى "الأزمنة المسيحانيّة" مع الربّ يسوع. لكن الإنسان أيضاً روح مدعوّة للخلود، لذلك يجدر بنا "أن نطلب أولاً ملكوت الله وبِرّه، والباقي كلّه يُزاد لنا" (متى 6: 33). في آية اليوم أيضاً، نرى أن الإيمان يأخذ مكانه الواسع في حياتنا المسيحيّة، الإيمان بعناية الله وكرمه اللذَين يتخطّيان إهتمامنا لو مهما بلغ... يبقى أن نُشير إلى أن آية اليوم تُبيّن لنا سلطان يسوع على وجوه حياتنا، كما أن إهتمامه بالبشر اليوم يُذكّرِنا بآية "عرس قانا الجليل" (يو 2: 1-11)، حيث إستمرّت أفراح العرس بآية تحويل الماء إلى خمر، إستباقاً لآية تحويل الخمرة الأرضيّة إلى خمرة الأفراح الملكوتيّة الأبديّة.

 

بقلم الاخ  توفيق ناصر (خريستوفيلوس)

 

 

 

وسوم: