أنت هنا

تاريخ النشر: 
الاثنين, مايو 16, 2022 - 21:28

لجنة العدل والسلام
التابعة لمجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في القدس
أفكار ورؤية في واقع العنف في الأرض المقدسة
16 أيار 2022
"فَإنَّ لِلرَّب ِّدَعوَى عَلَى سُكَّانِ الأرضِ، إذ لَيسَ فِي الأرضِ حَقٌّ
وَلا رَحمَةٌ وَلا مَعرِفَةٌ لله، بَل قَد فَاضَتْ اللعنَةُ وَالكَذِبُ وَالقَتلُ وَالسَّرِقَةُ وَالزِّنَى،
وَالدِّمَاءُ تُلَامِسُ الدِّمَاءَ،
لذَلِكَ تَنُوحُ الأرضُ وَيَذبُلُ كُلُّ سِاكِنٍ فِيهَا" (هوشع ٤: ١-٣).
مقتل الصحفية شيرين أبو عاقة في جنين في 11 أيار 2022 كان هزة للجميع. اغتيلت، وليست الضحية الأخيرة للعنف السائد في الأرض المقدسة. هي عضو في جماعتنا المسيحية، ولها شهرة واسعة في المنطقة، ومراسلة للجزيرة. توافد الألوف لتشييعها. وكان تدخل الشرطة الوحشي في جنازتها أمرًا أذهل الجميع. منذ أكثر من شهرين شهدنا عنفًا متزايدًا في الأرض المقدسة ولو أن بعضه لم يصل إلى مقدمة الأخبار. وزاد العنف وصارت "الدماء تلامس الدماء"، كما يقول النبي، وسقط ضحيته يهود إسرائيليون وفلسطينيون عرب وغيرهم، كلهم ضحايا صراع ما زال يطحن ويفترس ضحاياه. نبكي كل الضحايا في هذا العنف الذي لا ينتهي، يهودًا إسرائيليين، وفلسطينيين عربًا وغيرهم. وما زلنا نصرخ ونقول إن العنف خطأ ولن يأتي بأيّ حل، لن يأتي إلا بمزيد من العنف.
في الوقت نفسه، إنا نعبّر عن قلقنا تجاه المستقبل. فإن السلطات الإسرائيلية التي بيدها قرار المستقبل في إسرائيل وفلسطين، وكذلك الكبار في الأسرة الدولية، يبدو أنهم لا يريدون أـن ينظروا نظرة حقيقية وشجاعة لما يحدث في الأرض المقدسة. ولهذا فهم لا يقدرون أن يروا أسباب هذا العنف. نحاول في هذا التحليل أن نرى هذه الأسباب، لا للتبرير، لكن لأن فهم الأسباب ومعرفة الجذور هي الوسيلة الوحيدة التي تؤدي إلى إيقاف دائرة الموت هذه.
1.​ما الذي حدث في هذه الأيام؟
​قتل، في الشهرين الماضيين، خمسة وأربعون فلسطينيًا، وستة عشر إسرائيليًا، وعاملان من المهاجرين في إسرائيل كانا في الموقع، وهو ما سمي "بدائرة العنف الجديدة". هذا العنف حدث بصورة رئيسة في فلسطين، الواقعة حتى الآن تحت الاحتلال الإسرائيلي، وظهر أيضًا في داخل إسرائيل، حيث قتل خمسة عشر إسرائيليًا بهجمات قام بها الفلسطينيون ردًّا على العنف الإسرائيلي. من المهم الإشارة إلى أن هذه الهجمات داخل إسرائيل هي جزء لا يتجزأ من الصراع المستمر ولا يمكن فصلها عنه.
2.​لماذا يموت الناس؟
​طالما استمر الصراع بين الإسرائيليين اليهود والفلسطينيين العرب، وطالما أنه لا يوجد عدل ولا مساواة ولا سلام في الأرض المقدسة، ولا التزام مخلص لإنهاء الصراع، سيبقى الموت هو المنتصر. وطالما استمر فرض نظام الاحتلال العسكري على الذين يعيشون في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، وطالما استمر نظام التفرقة والتمييز داخل دولة إسرائيل، لن تكون هناك نهاية لدائرة العنف. وطالما أن القادة السياسيين المحليين يقدِّمون مصالحهم الشخصية ويتجاهلون صرخات الأرامل والأيتام والأمّهات والآباء الباكين أحبّاءهم، فإن كل الذين يعيشون في هذه الأرض "سيَضعُفون ويَذبُلون"، كما يقول النبي. وطالما أن الأسرة الدولية تتنصَّل من مسؤوليتها تجاه الوضع في إسرائيل وفلسطين، ستستمر مجنزرات هذا الصراع في سحق الأحياء وإراقة الدماء إلى ما لا نهاية.
3.​ما هي أسباب العنف؟
​في كل هجوم فلسطيني على اليهود الإسرائيليين، يحلِّل المحلِّلون ويقدِّمون تفسيراتهم وتبريراتهم. وينسبون العنف إلى أيديولوجيا فلسطينية عربية أو إسلامية، ترفض الاعتراف بإسرائيل، والإسرائيليين واليهود أيضًا. على أن أعمال العنف هذه يجب أن تحلّل أولا وقبل كل شيء في إطار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
​لا بدّ من التأكيد والتكرار بوضوح لا لبس فيه: العلّة الأساسية والأولى للعنف هي الاحتلال العسكري للمناطق الفلسطينية، وقد مضى عليه أكثر من خمس وخمسين سنة.
​وعنف الاحتلال يعني مصادرة الأراضي، والاعتقال الإداري، ومنع تصاريح البناء، وهدم البيوت، وتقييد حرية الحركة، وخنق التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والحصار المستمر على قطاع غزة.
​وخاصة الوضع في القدس، المدينة المقدسة. فالتوترات فيها تؤدي إلى تصعيد مستويات التوتر في كل مكان، وأولها التهديدات المستمرة للوضع الراهن في الحرم الشريف (الذي يسميه الإسرائيليون باسم جبل الهيكل)، والقيود الخانقة المفروضة أمام الوصول إلى الأماكن المقدسة المسيحية (لا سيما في يوم سبت النور الأرثوذكسي، هذه السنة، في كنيسة القيامة)، والمحاولات المستمرة لمصادرة بيوت الناس وإخراجهم منها، وتسكين المستوطنين اليهود محلهم، في الشيخ جراح وسلوان مثلا.
​علاوة على ذلك، فإن الأعمال الانتقامية الواسعة والعنيفة التي تقوم بها قوات الأمن الإسرائيلية ضد عائلة المقاومين، وأحيانًا ضد الحي أو البلدة بأكملها، لا تسبّب إلا مزيدًا من الاستياءً والكراهية والرغبة في الانتقام، فهي أرض خصبة لهجمات جديدة ضد الإسرائيليين. مع العلم أن كثيرين من منفِّذي الهجمات لهم أقارب وأصدقاء سقطوا ضحايا للعنف الناجم عن الاحتلال الإسرائيلي. وكذلك، بعض الإجراءات التي تقوم بها القوات الإسرائيلية ل "منع" اعتداءات جديدة، لا تؤدي في الواقع إلا إلى تفاقم الظروف، وإلى مزيد من العنف، وتصبح كلمة النبي صحيحة: "إراقة الدماء تلامس إراقة الدماء".
​وإنه لأمر مشين للغاية أن الكثير من أعمال العنف التي توقع الضحايا بين الفلسطينيين، سببها هم المستوطنون الإسرائيليون، الذين صادروا الأراضي الفلسطينية، ويعيشون بشكل غير قانوني في الأراضي التي تحتلها إسرائيل. في بعض أجزاء الضفة الغربية، يسيطر المستوطنون على مناطق بأكملها، ويفرضون وضعًا من اللا قانون، والإرهاب، على العائلات والأحياء والقرى الفلسطينية، فيمنعونهم من السفر بحرّية ومن العمل في أراضيهم ومن رعاية قطعانهم، ومن أن يعيشوا حياتهم العادية. والجيش الإسرائيلي، بدلًا من ردعهم، وبدلًا من تعريف أعمالهم على أنها جرائم، وفي بعض الحالات هي إرهاب صارخ، يساعدهم ويحميهم في اعتداءاتهم. هذا صحيح بشكل خاص في مدينة الخليل والمناطق الواقعة جنوب المدينة، وفي منطقة نابلس، وغيرها.​
​علاوة على ذلك، الواقع ان مواطنين فلسطينيين في إسرائيل يقومون بهجمات على إسرائيليين يهود، وليس الأمر جديدًا، يعني عزل العديد من المواطنين العرب الفلسطينيين عن الدولة التي هم مواطنون فيها، إذ تُعرِّف نفسها بأنها دولة "يهودية". هذه الهجمات هي صرخة يأس في وجه التمييز المستمر ضد العرب داخل إسرائيل، وفي وجه نظام عدم المساواة. وأعمال العنف هذه هي أيضا ردة فعل وصرخة غضب أمام الذين يحاولون مَحْوَ الهوية الفلسطينية للمواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل.
​ومن المؤسف جدًّا أنه حين يلجأ الفلسطينيون إلى الاحتجاج بالكلام فقط أو بالأعمال غير العنيفة (حين تسمح السلطات الإسرائيلية بذلك)، فإن المجتمع الدولي يتجاهل الفلسطينيين ويتصرف وكأن كل شيء طبيعي، ويعزز "التطبيع" على الرغم من استمرار الصراع. يبدو للأسف أن الأسرة الدولية تستيقظ فقط عندما تندلع أعمال العنف.
4.​مزيد من الظلم
​الاتفاقات المسماة "باتفاقات إبراهيم" والتي روّجت لها الإدارة الأميركية في عهد ترامب، زادت الشعور بالإحباط واليأس في قلب موجات العنف الأخيرة. وقَّعَت إسرائيل الآن على عدد من اتفاقات السلام مع بلدان ليست خصمًا لها. هذه الاتفاقات تسعى لتحقيق مصالح مشتركة في المنطقة، منها معارضة إيران، والتعاون الاقتصادي والعسكري. لكنها تتجاهل بوقاحة الصراع الحقيقي في إسرائيل وفلسطين وحقوق الفلسطينيين. هذه الاتفاقات في نظر الفلسطينيين، ما هي إلا زيادة الإهانة على الإهانة، وتراكم الظلم على الظلم، وتثبِّت شعورهم بأنهم، في نظر إسرائيل وكبار الأسرة الدولية، إنهم غير موجدين. مع أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يتم إلا بين إسرائيل وفلسطين.
​قطعة أخرى من اللغز المعاصر لفهم الجولة الأخيرة من إراقة الدماء لها صلة بالوضع في أوروبا الشرقية. حالما بدأت روسيا غزوَ أوكرانيا، أدان المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الغزو، فورًا، وفُرِضَت عقوبات واسعة وشديدة على روسيا من قبل دول عديدة، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، ذلك من أجل الضغط على النظام الروسي للانسحاب من الأراضي الأوكرانية والتوقف عن العدوان.
​في الأراضي المقدسة، قارن فلسطينيون كثيرون هذه الأحداث في أوروبا الشرقية مع عقود من الصراع في وطنهم. فقد احتلّت إسرائيل الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967 وفرضت نظام تمييز وعدم مساواة على الفلسطينيين داخل إسرائيل منذ سنة 1948. ومع ذلك، فإن أولئك الذين شددوا في إدانة العدوان الروسي، لم يفعلوا شيئًا يُذكر للتنديد بالاحتلال وبالتمييز الإسرائيلي. ازدواجية المعايير هذه لا تؤدي إلا إلى زيادة الإحباط واليأس الفلسطيني.
​الخاتمة: اسع إلى السلام واطلبه.
​منذ 2500 عام، تنبأ النبي حزقيال على رؤساء الأرض قال: "كُفُّوا عَن العُنفِ وَالِاغتِصَابِ، وَأَجرُوا الحَقَّ وَالبِرّ، وَارفَعُوا عَن شَعبِي تَعَدِّيَاتِكُم، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبّ" (حزقيال 45: 9).
​نحن اليوم ندعو السلطات الإسرائيلية إلى النظر في أسباب العنف الحقيقية. كلنا ضحايا لهذا العنف. والرد على العنف بالعنف، إنما هو منطق انتقام لن يتوقّف أبدًا، وليس الرد الصحيح. لكل من إسرائيل وفلسطين الحقوق نفسها: الحق على الأمن، والحرية، والكرامة، وتقرير المصير. ولن ينتهي العنف إلى أن تتحقق هذه الحقوق.
​إسرائيل تبحث عن السلام حيث لا يوجد السلام. إسرائيل تبحث عن السلام مع الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية، السلام ليس هناك. إنما السلام مع شعوب المنطقة وفي قلوب الناس. والسلام الحقيقي يبدأ عندما يعلن الفلسطينيون أنهم حصلوا على حقوقهم. يبدأ السلام عندما يقول الفلسطينيون إن حربهم مع إسرائيل انتهت. إذاك فقط يبدأ زمن جديد في هذه المنطقة.
يقول المزمور: "مَن ذَا الَّذِي يَهوَى الحَيَاةَ وَيُحِبُّ الأيَّامَ لِيَرَى فِيهَا الخَيرَاتِ؟ مِنَ الشَّرِّ صُنْ لِسَانَكَ، وَمِن كَلَامِ الغِشِّ شَفَتَيْكَ. جَانِبْ الشَّرَّ وَاصنَعْ الخَيرَ، وَابتَغِ السَّلامَ وَاسعَ إلَيهِ. عَينَا الرَّبِّ عَلَى الأبرَارِ وَأُذُناَهُ إلَى صُرَاخِهِم" (مزمور 34: 12-15)